محمد بن شنب

العالم باللغات وبالاختصاصات

صادق بخوش

سياحتنا على هدى من أمرنا في اقتفاء أثر دروب من دبجوا تاريخنا بمعارفهم في الآداب والفنون والعلوم، هي نزهة الخاطر من ناحية، وأداء الوفاء لأهله من ناحية ثانية.
تسعى مجلة «فواصل» لأن تكون منبرا حرّا للفكر تستعيض فيه بالجسور بين المفكرين والمبدعين على اختلاف مشاربهم عن الموانع والتمترسات المقصية لحوار الأفكار والآراء. فبعد أن أسهمنا بإطلالة سالفة الذكر متواضعة عن بعض أعلامنا في الفكر والأدب مثل « محند تازروت»، و» عبد الرحمن بن الحفاف»، وعلي الحمامي وتناول غيرنا بالعرض والتقديم « لمحمد التيفاشي» و» محمد أركون» ومن إليهم. نقفي على من ذكرنا بعرض موجز عن عالم جزائري، نحسبه من كبار أعلام بلادنا، ومن قادة الفكر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.إنّه المفكر الموسوعي المتعدد الألسن والفنون « محمد بن شنب» ( 1269-1929) رحمه الله.
- منشأه وذووه:
هو محمد العربي بن محمد بن شنب، أصيل منطقة المدية بأحواز حاضرتها في قرية عين الذهب، التي حباها المولى بما يسر الناظرين، يفيض عليها هواء زكي، وتخرج من بطون أرضها عيون من نمير، كأنه غدق، وينساب عليها الأخضلال من غابات روض الإنسان بعضها فأتت ثمرا شهيا وفاكهة وأبّا، واستبسل بعضها الآخر في طبعه تِهراق ظلاله صيفا على كل من رام سياحة وإمتاعا في القمم والسفوح، تحتضن الأشجار شتاء نتف الثلج، يدثرها الضباب فيبدو القضاء كراهب صام عن اللغو، وانقطع في خفر للتأمل والبوح.
 احتفى هذا الفردوس الفياض بمولد « محمد بن شنب» في أكتوبر 1869، لأب من أهل اليسار من المزارعين، ولأم من أسرة ماجدة لأهل بشطارزي، فهو إذن تركي الأصل أبا وأما، مسلم العقيدة جزائري الموطن، فجده لأمه « محمد بشطارزي» قائد عرش ريغة بالمنطقة، التحق بصفوف الأمير، وظل يرافقه إلى أن توفي. بينما نذر جدّه لأبيه نفسه في صفوف الجيش التركي إلى أن قضى يوم هجوم الأمير عبد القادر على المدينة سنة 1840.
نشأ « محمد بن شنب»عما توارد إليه من فضائع المحتل ومقاومة مواطنيه له، ووقف في نعومته على حرمان الغزاة لشعبه في الحياة والكرامة وحق التعلم ونعمة المعرفة، فتماها بما قد تناهى إليه من فضائع، فركب للحياة خطوبها مستبسلا في التحصيل العلمي والسعي إليه في كَبدٍ، حتى إذا نال بعض مآربه فيه، سافر سنة 1886 وحيدا من المدية إلى العاصمة، أيام كانت الدروب والمسارب تعمرها الكواسر والأسود والضباع القاتكة، وكل ذي مخلب وظفر. التحق بمدرسة المعلمين ببوزريعة، وتخرج فيها برتبة أستاذ اللغة الفرنسية، إلى جانب دبلوم في النجارة عام 1888، وما جاوز التسعة عشر عاما. عاد « محمد بن شنب إلى المدية، ليضطلع بمهمة التدريس في قرية سيدي « علي تامجارت». بعد بضع سنين عددا يمم وجهه ثانية إلى عاصمة البلاد ليواصل التدريس بمكتب الشيخ « إبراهيم فاتح»، ويَجِدَ جِدَه ُ في تعلم اللغة الإيطالية، والدراسة بالثانوية ولازم الشيخ العالم» عبد الحليم بن سماية»، الذي قال عنه ( ما علمت في حياتي كلها معلما يرجع إلى تلميذه غيري وأني معترف له بالفضل والنبوغ) غاص «بن شنب» في كنوز الأثر الأصيل لتراث أمته في العلوم التقليدية، فقها، وتاريخا، و فلسفة، وفي علوم العربية، وآدابها بالجامعة الفرنسية بالجزائر، وكان يعود إذا أشكل عليه أمر مسألة إلى بعض أساتذته مثل باسي. وفانيا. والشيح أبي القاسم بن سديره ومن إليهم. فنال عن استحقاق سنة 1894 دبلوم اللغة العربية بالرغم مما أصابه من علة أرهقت كاهله، ثم افتك شهادة البكالوريا التي كانت وقتها وقفا على أبناء المستوطنين، وعلى الندرة من أبناء الذوات.
 لم يقنع باللسان العربي والفرنسي والإيطالي فحسب، إذ بعد أن شفي واستعاد عافيته، سعى إلى تعلم الألمانية رغم عسر نحوها، والإسبانية كذلك ليعزز، علمه بمآثر الأندلس وينهل من معينها، واللاتينية أم اللغات الغربية ليقف على فلسفات اليونان والإغريق، وما تهادى منها إلى العصور اللواحق من أثر وذكر طيب، ثم العبرية بعد أن تعرف إلى الأستاذ « فانيا بجامعة الجزائر الفرنسية، الذي جسر له علاقة مع رِبي يهودي يسر له من أمرها عسرا والفارسية وما اكتنزت من فنون وآداب وديانة زرادشتية مجوسية، حتى إذا دانت له هذه الألسن على كثرتها، وعلى تنوّع مستغرقاتها، حصن نفسه بالمعارف، فبلغ منها مبلغ المكين، الذي لا تهزّه عواصف المسخ والاستلاب.
عينته الأكاديمية أستاذا بمدرسة الكتانية بقسنطينة سنة 1889 على الأرجح، خلفا لقامة جزائرية أخرى ذات باع وصولجان في العلم « الشيخ عبد القادر المجاوي إلى سنة 1901، درس خلالها علوم العربية والفقه الإسلامي ويمم وجهه ثانية إلى العاصمة ليحط رحله بمدرسة الثعالبية، ويحظى بزواج سعيد من كريمة الإمام الثاني للجامع الكبير الشيخ» قدور بن محمد بن مصطفى»، التي سيرزقه المولى منها تسع بنين ذكرانا وإناثا.
 أقام « بن شنب» مدرسا وباحثا ومؤلفا بهذه المدرسة ما لا يقل عن ثلاث وعشرين سنة أفاد واستفاد.
 
- عصر « محمد بن شنب»:
تدعونا الأمانة التاريخية، والصدقية العلمية إلى موضعته، ضمن مجال عصره، ولو باقتضاب شديد، وذلك لنتمكن من فهم فكره وموقفه المعرفي والسياسي في تفاعله مع عصره، إن فاعلا أو منفعلا.
إنّ « بن شنب « الذي عاش ستين عاما من 1869- إلى- 1929- قضاها جميعا تحت ظلمة ليل الاستعمار الهمجي الفرنسي، والتي يمكن تقسيم مرحلتها الأولى إلى محطتين متكاملتين حسب تقدير المؤرخ « أبي القاسم سعد الله» غمره المولى بشآبيب رحمته إذ يقول:».... حكما عسكريا من 1830- إلى 1870، وحكما مدنيا فيما بعد...»
وإن كان الدكتور « سعد الله» يتحدث هنا عن شمال الجزائر فقط، لأن جنوبها خضع لحكم عسكري إلى زمن متأخر، وثمة إجماع توثيقي أساسه قادة الاحتلال أنفسهم من العسكريين والمدنيين والمؤرخين، على أن هذه المراحل باختلافها هي منظومة تراجيدية مكتملة الأركان، تعجز عن توصيفها جميع أدوات التعبير الفني والأدبي والعلمي. بحيث قد نتجاوز الحديث عن إبادة ملايين الجزائريين قتلا، ونفيا، وتجويعا ومصادرة أراضيهم، ونزع أملاكهم، وحرمانهم من حرياتهم وأدنى حقوقهم في الوجود.، لكن ما هو أبشع وأنكى هي إبادة مقومات الذات، بمحاولة مسخ الإنسان الجزائري في كل أبعاده ومسح وجوده، كما فعل الرومان من قبلهم مع القرطجنيين. وأنّ المغول ووحشيتهم لأهون على الخليقة من الفرنسيين وأرحم.

- مقاومة وجود:
حتى تفكك أوصال الشعب، وتمزّق نسيجه الاجتماعي، وتخرب وحدته الشعبية والترابية، عمدت فرنسا إلى تشظية الجزائريين عبر علوم عنصرية مختلفة فنمطت المناطق على أوهام عرقية ولسانية وعقدية، وأقامت المتاريس بين النخب وشعبها، فَاصْطَفَتْ لنفسها المريضة رهطا قليلا من أبناء الموالين لها من الأهالي، مكنت لهم من تعلم لغتها وتمثل ثقافتها بمقدار، حتى استُلب بعضهم وظنوا أنّ فرنسا هي المأوى وإليها الرّجعى.
كان لسياسة الفصل العنصري المنتهجة ردود أفعال متباينة، تأثر بعض المتخرجين من مدارسها ومخابرها، حتى غدا همهم الاندماج في حضارة المحتل، والسعي إلى تحقيق هذا المأرب عبر تمجيد فضائله، والتبشير بأنواره، والمغالبة في سبيله للحظوة بالاندماج الذي ظل مطلبا عسيرا، وأملا مؤجلا لكون فلول المستوطنين حالوا دون ذلك، خوفا من أن يزاحمهم هؤلاء على نفوذهم المطلق، ومنافعهم غير المحدودة، وماطلت الإدارة لإثنائهم عن مآربهم. ومن بين الوجوه الاندماجية لما يعرف « بحركة الفتيان الجزائريين» على منوال حركة الشباب التونسي ( التي كتب عنها «شارل أندري جوليان « ومن رموزها» البشير سفر» و» علي باش حامبه « وغيرهما وتركيا الفتاة، ومن إليها من لفيف الفتيان الذين طفت كتاباتهم ومواقفهم المنتصرة لهذا المنحى مثل، الشريف بن حبيلس، وصاحب ..كتاب « مساهمة في مسألة الأهالي في الجزائر سنة 1884، الدكتور «مرسلي بن الملازم» في وحدات السبايس الفرنسية.
لئن نافح هذا الاندماجي عن مواطنيه الجزائريين مبرزا نكد عيشهم تحت نير الاستعمار، قد راح يستجدي فرنسا أن ترفق بالأهالي وتحسن لهم حتى « يدخلوا في الأسرة الفرنسية العظيمة»، على حد قوله. بينما زعم الاندماجي والترجمان الرئيسي للحاكم العام الفرنسي في الجزائر « حامت إسماعيل» في كتابه « المسلمون الفرنسيون في الجزائر»، ( أنّ الاستعمار في الجزائر أحدث تطورا اجتماعيا وفكريا وأخلاقيا لدى المجتمع الإسلامي)، وطالب بالمزج التدريجي لكل العناصر العرقية، من أجل اختلاطها مستقبلا بالسكان الأوروبيين قائلا:»( إنّ الشعبين يكملان بعضهما البعض، بحيث أنّ تطور أحدهما بدون الآخر مستحيل تماما).
 إنّ هذه الإنتليجينسيا الاندماجية، إن صح التعبير، احتوت على عدد معتبر ممّن كانوا يسمون أنفسهم المتنورين مثل « أحمد بن بريهمات»، و» العربي فخار» و» الدكتور بن جلول فيما بعد،» والصيدلي « فرحات عباس» الذي سيتنامى وعيه بحقائق التاريخ وبصدمات الواقع الكولونيالي، وآثاره المدمرة على الجزائريين ليتحرر بتؤدة من وزر الاندماج إلى الانتخاب إلى الثورة التحريرية فيما بعد.
لم يفلح تيار « الفتيان الجزائريين الاندماجيين» في كسب الرأي العام الوطني ولا في تليين موقف الكولونيالية وختم مسيرته بكتاب « الجزائر الفرنسية كما يراها الأهالي» لمؤلفه القاضي « الشريف بن حبيلس» المنشور سنة 1914. ويستحق الكتاب دراسة مستفيضة لما حواه من آراء، يمجد بعضها فضائل فرنسا على ما حققت للجزائر من أمن ورقي، بعد الاضطراب والفوضى والجهل..

  - التيار الجنيس والمعاكس:
نقصد بالتيار الجنيس ذلك الطيف الذي يمكن أن نعده من الفتيان الذين نهلوا من معين الاندماجيين، أيّ من لغة وثقافة وقيم فرنسا على خلفية فكر وفلسفة ثورتها... ولكنهم ظلوا مرابطين على الثغور الوطنية، رافضين الاندماج والذوبان في الذات الفرنسية، ومحافظين على خصوصيتهم في الهوية مطالبين بالعدالة الاجتماعية وبالحقوق الكاملة في الحرية والمساواة، ونبذ القوانين الجائرة كقانون (الأنديجينه وسيناطوس كونسيلت )، ومطالبين بحق مواطنيهم في التعلم والتملك والمساواة مع المحتل ... ونحسب زعيم هذا التيار هو « الأمير خالد» حفيد» الأمير عبد القادر «، الذي نشرت له صحيفة « همزة وصل» للكاتب الفرنسي المناهض للظلم الكولونيالي « سبيلمان» سنة 1924، حزمة من خطب ألقاها في ديار الغربة، وكذلك رسالته المفتوحة إلى الوزير الأول الفرنسي آنذاك « إدوارد هيريو» ، والتي تضمّنت جملة من الإصلاحات الجريئة لصالح السكان الجزائريين فضلا عن رسالته التي رفعها إلى الرئيس الأمريكي « ويلسن « مطالبا إياه بدعم مبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري.
-يتبع-

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19547

العدد 19547

الأحد 18 أوث 2024
العدد 19546

العدد 19546

السبت 17 أوث 2024
العدد 19545

العدد 19545

الخميس 15 أوث 2024
العدد 19544

العدد 19544

الأربعاء 14 أوث 2024