يعتبر فليم «ألقاب الجزائريين.. النقمة الفرنسية» وثائقيا رائدا عالجت من خلاله الروائية والمخرجة فتيحة بوروينة، موضوعا شائكا جدا، يتعلّق بالألقاب والأسماء الغريبة والمشينة لكرامة عدد كبيير من الجزائريين، والتي حاول ويحاول كثيرون منهم تغييرها اليوم بموجب القانون.
الفيلم الذي برمج عرضه الشرفي أول أمس، في إطار فعاليات «أسبوع الفيلم الوثائقي» بقاعة «الخيام» بالجزائر العاصمة، المنظم من قبل المركز الجزائري لتطوير السنيما من 12 إلى 17 مارس الجاري، هو تجربة جديدة خاضتها فتيحة بوروينة بجرأة واحترافية، تحدثنا عنها في هذا الحوار.
- «الشعب»: تناول وثائقي «ألقاب الجزائريين.. النقمة الفرنسية» موضوعا اجتماعيا يهمّ كثيرا من الجزائريين والجزائريات، من أين كانت الانطلاقة في انجاز هذا المشروع؟
فتيحة بوروينة: ظلّ قطاع واسع من الجزائريين بعد التحرّر من الاستعمار الفرنسي يستنكرون أسماءهم العائلية، وصل الحد بالبعض إلى اللجوء إلى المحاكم لتغيير وتصحيح أسمائهم للحرج الذي تسببه لهم، لارتباطها بأسماء لأشياء مشينة وحيوانات وشجر وحجر وكل شيء إلا هويتهم الحقيقة التي اجتهد المستعمر الفرنسي طيلة الـ130 سنة في مسخها وتهجينها، في محاولة لإعادة تشكيل شخصية الفرد الجزائري الجديدة، شخصية خاضعة لمنظومة القوانين الفرنسية الهادفة إلى فرنسة وإدماج وتجنيس الجزائريين، وكذا ضرب هوية الجزائريين الوطنية والثقافية والحضارية في الصميم بموجب قانون سيناتوس كونسيلت
( Senatus Consult) الصادر العام 1863.
يبحث الفيلم الوثائقي في الأسباب والأهداف التي دفعت الإدارة الفرنسية إلى إصدار قانون الألقاب 23 مارس 1882، الذي أقرّ بنظام الألقاب العائلية في الجزائر، والذي أصبح للجزائريين بموجبه دفترا عائليا يحوي عقود الميلاد والزواج والوفيات، لكن أي ألقاب وأي أسماء وأي كنى؟.
- وكيف تمّ انجاز هذا الوثائقي القيم وبمن استعنتي في ذلك؟
تم الاعتماد على مداخلات باحثين من مختلف الجامعات الجزائرية تناولوا المسألة سابقا، الأخطاء الفادحة، بعضها مقصود، التي وقعت فيها الإدارة الفرنسية خلال تطبيق قانون الأحوال الشخصية وعمليات تقييد عقود الميلاد بصفة رسمية ومنتظمة، بعض الجزائريين حملوا ألقابا مختارة أجبروا عليها، وهي في الغالب ألقاب منفرة ومقززة لا تمت بصلة لألقابهم الأصلية. وبعض آخر أعطيت له ألقاب مجهولة النسب (SNP) (sans nom patronymique) ما ساهم في زرع نوع من الحقد والريبة والشك بين الجزائريين، ودس النعرات القبلية والعرقية والمذهبية بين العربي والأمازيغي والشاوي والميزابي والتارقي.
- أسماء مشينة تسبّب الإحراج وتخدش كرامة حامليها وتسبب لهم الغصة والغضب والآلام النفسية، هل تطرّق الفيلم إلى هذا الشقّ الصعب؟
فعلا يتوقّف فيلمي بشكل خاص عند الأزمة النفسية والمخلفات السلبية التي طالت الجزائريين، جراء التطبيق السيئ لقانون الألقاب الذي أحدث مجزرة في أصول الجزائريين ونسبهم الحقيقي، وتمّ التركيز فيه أيضا على الاختلال الكبير الذي وقع في الأسرة الجزائرية وما نتج عنه من قطع لصلة الأرحام، وتقطيع أواصر المجتمع الجزائري إلى مربعات سكنية يسهل التحكم فيها، فضلا عن مدى مساهمة بعض الجزائريين في تشويه أسمائهم عن قصد أو غير قصد، واستغلال الإدارة الفرنسية لهذه الثغرة.
- كيف جاءت فكرة انجاز هذا الوثائقي ولماذا؟
منذ صغري وأنا أتقاسم مع الجيران والأصدقاء بحيّنا الشعبي بباب الوادي غضبهم (المستتر) من الأسماء المشينة التي يحملها بعضهم، كنت أشعر بألمهم وانكسارهم هم المجبرون على تقبّل لقب خادش للحياء أو ساخر أو غريب أو مخجل لم يختاروه، بعض من كنت أعرفه، كان يتهرّب كل مرة من نشاطات يتنادى الناس فيها بألقابهم في المناسبات المدرسية والتمثيليات المسرحية وحفلات توزيع الجوائز، أذكر أن صديقتي الوفية سارة حمار، ظلت تتأخر عن القسم فقط لكي لا تسمع لقبها العائلي عندما تشرع المعلمة في المناداة بأسماء التلاميذ لتسجيل حضورهم أو غيابهم.. لم تتحرّر سارة من هذا العذاب اليومي حتى وهي طالبة جامعية.
لقد رفض والدها تغيير لقبهم العائلي، بدعوى أن جدهم لم يفعل ذلك، فضلا على أنه تعوّد عليه كل ما اهتدى إليه الأبناء وضع (الشّدة) على حرف الحاء حتى يصير اسمهم حَمَّار.
وضع سارة حمار يشبه وضع عشرات الآلاف من الجزائريين الذين يحملون ألقابا مشينة ورثوها عن الحقبة الاستعمارية، ولدّت لديهم أزمات نفسية مزمنة، تزوجت سارة من محام ابن حيّها الشعبي، وساعدها على تجاوز محنتها بعد الموافقة على طلب تغيير لقبها الذي قام بإيداعه لدى وزارة العدل. فرِحت جدا لتحرّر سارة صديقة الصغر من لقبها المشين، كان يشبه التحرر من العبودية، لقب سارة ظل سجنها، وها هي تتحرر منه اليوم بفضل زوجها المحامي، لا ترغب سارة في أن يكرّر أبناءها نفس تجربتها المريرة مع لقب الأم العائلي، هي تريد أن تجنبهم الأزمات النفسية التي مرت بها، ولهذا السبب سارعت إلى طلب تغيير لقبها ونجحت في ذلك.. احتفَلتٌ وسارة بالمنجز الاجتماعي وتقاسمنا الكعكة والشاي أيضا.
خطيب ابنتي، «سفيان بوطويطة» متخرج منذ ثلاثة سنوات من كلية الطب بالعاصمة الجزائر، يرفض إلى اليوم البدء عمليا في ممارسة مهنته الطبية (طبيب أطفال)، واضطر إلى الاشتغال كسائق طاكسي مؤقتا في انتظار موافقة القضاء على ملف طلب تغيير اسمه، وهذا لتفادي الحرج الذي يسببه لقبه العائلي المشين في الوسط الاستشفائي! نتقاسم معه هذه المعاناة ونرغب في مساعدته على تجاوزها، بقبول خطبته لابنتي ومرافقته في مسار تغيير لقبه قضائيا. شجّعني كل هذا على تناول الموضوع، فكان فيلم «ألقاب الجزائريين.. النقمة الفرنسية».
- هل من دوافع أخرى شجعتك على خوض هذه التجربة؟
ما شجعني أيضا على معالجة الموضوع سينمائيا في شكل فيلم وثائقي يستند على حقائق ووقائع ملموسة، تنظيم جامعة البليدة 2 قبل 6 أشهر ملتقى وطني حول موضوع ألقاب الجزائريين انطلاقا من قانون الألقاب 23 مارس 1882، الذي أصدرته الإدارة الفرنسية وأقرّ نظام الألقاب العائلية في الجزائر، وتداعيات التطبيق الخطأ لهذا القانون على هوية الجزائريين، حيث سمح لنا الملتقى بمعرفة الموضوع معرفة دقيقة وتحديد المتدخلين فيه من باحثين وأساتذة جامعيين ومعرفة ألقاب بعض الأسر التي وصلت ملفاتها إلى القضاء وتمكّنت من تغيير ألقابها المشينة، فضلا عن تحديد المدن الجزائرية (اسما باسم) التي تضرّرت من نظام الألقاب العائلية.
- يعتبر فيلمك رائدا في المجال، بالرغم من الأبحاث الأكاديمية وفقامة المشكل النفسي الذي يعيشه أصحاب هذه الألقاب، إلا أن أحدا لم يجرؤ على تناوله في عمل سمعي بصري، لماذا؟
الحقيقة منذ استقلال البلاد إلى اليوم، لا وجود لأفلام سينمائية أو وثائقية تناولت موضوع الألقاب المشينة التي (ورثها) الجزائريون عن الحقبة الاستعمارية، على الرغم من القضايا الكثيرة التي يعالجها القضاء الجزائري يوميا، ترفعها العائلات المتضرّرة التي ترغب في تغيير لقبها بسبب الإحراج الذي تسببه لأبنائها في الشارع والمدرسة والجامعة وحياتهم الاجتماعية عامة. وحتى الكتابة حول الظاهرة على مستوى البحث العلمي أو الإعلام نادرة جدا، وما تمّ الاشتغال عليه في هذا الملف (أكاديميا) على قلته حبيس أدراج الجامعة للأسف.
- كلمة أخيرة؟
أعتقد أن فيلمي الوثائقي سيكون مادة سينمائية مهمة للراغبين في الاشتغال على هذا الموضوع لاحقا، ومادة تاريخية تساهم في إثراء ما تمّ تناوله إلى اليوم من مواضيع تؤرخ للفترة الاستعمارية في الجزائر وممارسات الإدارة الفرنسية.
وأطمع كثيرا المشاركة به في المسابقات والمهرجانات السينمائية التي تنظمها دول عربية وغربية، بهدف تعزيز مكانة الجزائر في المحافل السينمائية الهامة وتقديم تاريخها بأعين أبناء الجزائر وبأدواتهم الخاصة.