يحل شهر فبراير، وتحل معه الذكرى الـ89 لرحيل الشاعر المتصوف والقاضي المحنك محمد بن يعقوب، ابن مدينة العين الصفراء بولاية النعامة مداح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وموسوعة الحضرة، والذي يعد من عظماء عصره، ومن جيل كبار الشعراء آنذاك أمثال مصطفى بن براهيم الذي كان شاعرا وقاضيا، وعبد الله كريو وحمد بن قيطون والشيخ سماتي وغيرهم.
ألهمه الله قول الشعر بنوعيه الفصيح والشعبي، غير أنه برع وأبدع في قول الشعر الشعبي الراقي، حيث كانت له في هذا الفن موهبة خارقة، والتي تنوّعت لأغراض البحور والقوافي، كما برع في مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكتابة رموز الحضرة، حيث ترك مخطوطا كبيرا خصّصه لهذا الغرض.
مسار تاريخي وثقافي حافل
محمد بن يعقوب من مواليد قصر الصفيصيفة سنة 1869، من أسرة محافظة شريفة ذات علم وجاه، تلقى تعليمه الأول بكتاتيب قصر الصفيصيفة، فحفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد مشايخها، ثم انتقل إلى المغرب الأقصى، وبالضبط بمدينة وجدة (احفير)، ومدينة فاس لمواصلة دراسته، ليعود إلى مدينة تلمسان الجزائرية قصد التفقه في الدين على المذهب المالكي، حيث درس السيرة النبوية ومناقب الصحابة رضي الله عنهم، كما درس قواعد اللغة العربية والعروض، ليرجع بعدها إلى مسقط رأسه الصفيصيفة أين عمل خوجة على السيد مسعد الحاج محمد الذي كان - قايد - بالصفيصيفة وزوجه هذا الأخير ابنته الزانة وقبلها كان متزوجا بفاطمة قابو له 21 ابنا ( 12 ذكور و09 بنات) فكان حريصا ومهتما بتربية أبنائه وتوجيههم إلى الطريق الصحيح.
في سنة 1899 انتقل إلى مدينة عين الصفراء، حيث عمل خوجة للباشا اغا سيدي مولاي وبعد نجاحه في الامتحان، عين ليشغل منصب باش عادل أي نائب القاضي وكاتبه مكلف بالأحوال الشخصية والمدنية مع القاضي السيد حشلاف بالعين الصفراء، ليترقى إلى منصب قاض بالعين الصفراء. أما في سنة 1915 تولى مهنة القضاء بمدينة بشار، حيث افتك هذا المنصب عن جدارة واستحقاق، وهو ما جعله يحظى بتكريم من طرف المملكة التونسية بوسام أو (نيشان) الافتخار الذي يسلمه الوزير الأول ليقدم استقالته سنة 1922، من مهنة القضاء لثقل المسؤولية وكثرة المظالم بها، والتفرّغ لكتابة رموز الحضرة، حيث أصبح مريدا للطريقة الكرزازية الموساوية، وكان شيخه سيدي بوفلجة بن عبد الرحمان دفين مقبرة سيدي السنوسي بتلمسان، وهو الذي منحه إجازة لكتابة رموز الحضرة وقبولا لأشعاره، إلى أن وافته المنية في فبراير من عام 1933، ودفن بمسقط رأسه الصفيصيفة تاركا وراءه ارثا تاريخيا وثقافيا كبيرا.
نحو جمع أثاره ومخطوطاته
الشاعر المتصوّف والقاضي المحنك محمد بن يعقوب لم يكن راضيا بالعيش في هذا المجتمع، حيث كان كثير التنقل والسفر، باحثا عن مكان يخلو فيه بنفسه للعبادة وطلب العلم، فهو علم من أعلام الجزائر الذين غطاهم غبار النسيان، وضاعت الكنوز التي تركوها من بعدهم (مثلما وصفه شاعر المنطقة بوحميدة محمد بن عيسى) في كتاب سيرته، مضيفا أنه يضاهي بشعره الشعراء الذين عاشوا في عصره، فمحمد بن يعقوب شاعر متصوف وقاضي محنك، واليوم يسعى أحفاده إلى جمع مخطوطاته وأثاره من خلال الجمعية التي تمّ تأسيسها مؤخرا لهذا الغرض.
وقصد الحفاظ على ارث هذا الشاعر الصوفي ومساهمة في حماية التراث الثقافي وتعزيزه استلمت الجمعية الثقافية محمد بن يعقوب بمدينة العين الصفراء ولاية النعامة وثائق ثمينة ومخطوطات أشعار هذا الشاعر المحنك من طرف رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين - فرع النعامة ـ الذي تلقاها من طرف ابن المرحوم منتصف الثمانينيات، وذلك قصد الحفاظ عليها وارشفتها وطبعها، وكذا البحث في مضمونها وتحليلها من طرف المهتمين في إطار سلسلة التنقيب عن مآثر هذه الموسوعة، وتنفيذا لتوصيات اليوم الدراسي الذي تمّ تنظيمه منذ سنتين حول تخليد أعماله.
كما تطمح الجمعية إلى تنظيم ملتقى وطني يخلد أعماله من طرف أساتذة جامعيين، وتطلب بالمناسبة من كل من له أي وثائق أو مخطوطات حول أعماله التقرّب من الجمعية، خاصة المهتمين بالشعر الصوفي من ولايات بشار، تلمسان ووهران باعتبار أن الشاعر كان كثير التردّد لهذه المناطق.