ترك رحيل الأديب والإعلامي بلقاسم بن عبد الله الأثر العميق في نفوس من عرفوه من مثقفين وأدباء وحتى أصدقائه، الذين استرسلوا في الحديث لـ «الشعب» عن خصاله، وأشادوا بمسيرته كأديب وإعلامي ساهم في إثراء الحركة الثقافية في الجزائر، ولم يتوان في خدمة وطنه إلى آخر رمق من حياته، ليرحل ابن عاصمة الزيانيين تاركا وراءه أرثا خالدا.
الكاتب والناقد الحبيب مونسي
«رب اغفر لي ولأخي» آخر كلمة سجلها الفقيد في صفحته على الفيسبوك
رحم الله الأديب الصحفي بلقاسم بن عبد الله.. قال «رب اغفر لي ولأخي»، حين نقسو على من نحب علينا قبل أن نعتذر منهم أن نسأل ربنا المغفرة حتى يكون ندمنا لله وليس لهم.. إنها آخر كلمة سجلها الفقيد في صفحته على الفيسبوك..
وكأن النفس كانت على دراية بأنها مقبلة على رحيل إلى عالم أخروي، تختلف فيه الموازين والقيم.. كانت تشعر أن أكبر التبعات في هذه الدنيا وأثقلها هي الإساءة إلى الآخرين، وجرجرة ذلك العبء الثقيل إلى الآخرة، حملا تنوء به الأكتاف، وتسود به الصفحات، جاء بالآية القرآنية التي تحمل كل أسرار الأخوة، ومعانيها في إشراقاتها المختلفة، مفعمة بقداسة المكان والاتصال، ليطرحها بين أيدينا كلمة فيها كل معاني الحب للآخر، وكل معاني التسامح، وكل معاني التواضع ولين الجانب، فما أجمل من أن يدعو الأخ لأخيه بالمغفرة، ويتسامى الفقيد في فكره ويتعالى، حينما يجعل الاعتذار إلى الله أولا، لأننا أسأنا الفهم عنه، أسأنا التلقي، ولم ندرك أننا حينما نسيء إلى الأخر ونقسو عليه، إنما نسيء إلى الله ابتداء لأننا لم نحسن الحب والتسامح فيه..
كان الفقيد رحمه الله، قد كتب قبل هذه العبارة بيوم، عبارة أخرى أشد إيغالا في فلسفة الحب والتسامح، وكأنه يريد أن يبث رسالة مودع يعلم أن اللقاء مع الله عز وجل لن يكون بكثير من الأعمال، ولا بجيل من الأفعال، يعددها صاحبها عدا، وإنما يكون كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام «إلا من أتى الله بقلب سليم» ولا يكون القلب سليما إلا إذا أقر أن للأخوة قداستها عند الله، فيجدد قسم الله عز وجل كاتبا: «ولا أقسم بالنفس اللوامة» ثم يعقّب سريعا: «انتبه قبل أن تسيء للآخرين أول العقوبات سياط نفسك اللوامة ووخزها الموجع».
إنه التصنُّت الدقيق لخلجات النفس في إيحاءاتها الأخيرة، حينما تبث نصوصها بثا خفيا لا يدركه الكثير من الناس الذين أضحت قلوبهم كالحصير البالي، أشد خشونة من الحجر الصلد.. فالنفس اللوامة، ذلك الجهاز الدقيق الحي الذي ينطق كل حين، غير راض بما يقترف اللسان، وبما تخون العين، وبما تقدم اليد، ليقول لصاحبه احذر إن الإساءة لن تبلغ الآخر قبل أن تبلغك أنت، وأنها لن تؤثر فيه إلا بمقدار ما تؤثر فيك أنت أولا، ولا أحسب أن أديبا حساسا يَقْدر على هذا الضرب من الرؤيا إلا رجل عرف من خلال أدبه أن الحياة كلها صفحة أدب يخطها صاحبها بالأسلوب الذي يُحسن، يتخير لها كلماتها، وينتقي لها أحداثها، ويُزين استعاراتها وكناياتها، ثم يقدمها للناس بعد ذلك لقراءتها.. فإن أحسن أحسنوا ذكره، وشكروا سعيه، واستمر فيهم بعد رحيله علما يذكر، ونصا يُقرأ يحبون الرجوع إليه متى أعوزهم الرجوع، وإن أساء طووه كما يطوي الريح الورقة الشاردة، ويمرغها في الترعات والأوحال، أو يطير بها هباء في سماوات النسيان.. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.