لطالما تساءلتُ عن أهمية ما نكتبه من أفكار وما ننجزه من أبحاث في ميدان الترجمة بمختلف مواضيعها وتخصصاتها، بغض النظر عما إذا كانت تحمل الكثير من الأفكار القديمة في قالب معاصر، أو حتى أفكارا جديدة تضيف الكثير الى المادة العلمية التي نستهلكها في قراءاتنا وأبحاثنا ومحاضراتنا، أظن أن القلق الداخلي الذي يستفز الكثير منا لا يتعلق بالقدرات ولا الكفاءات ولا المعلومة التي أصبحت ترافقنا في كل زمان ومكان، بقدر إنشغالنا بفعالية المجهودات الفكرية والمادية المبذولة في هذا السبيل، أو بمعنى آخر انعكاسها في الواقع العلمي كترتيب المؤسسات الأكاديمية أو الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة العلاقة القائمة بين هذه المجهودات والأهداف المفترض تسطيرها ضمن استراتيجيات شاملة ومتكاملة متوسطة وبعيدة المدى، وذلك من أجل زيادة وتيرة حركة الترجمة بطريقة ناجعة.
أعتقد أنه لا يمكن أن نمضي في طريق سيار بحمولة ثمينة دون عجلات رباعية الدفع، لأن حركات الأبحاث العلمية في الدول المتطورة تسير بوتيرة متسارعة سرعة فلكية رهيبة، فيما لا نزال اليوم نتساءل عن مواكبتنا للتطور التكنولوجي ونبحث في أساليب ونظريات الترجمة، وننظم الملتقيات العلمية الدولية والأيام الدراسية وننتج المؤلفات العلمية والرسائل الجامعية، وفي الأخير نجد أن النتائج المتوصل إليها لا ترقى إلى المستوى المرجو سيما وأن الأمر يتطلب منا قطع أشواط كبيرة بين سنين مضت في حركة الترجمة وحاضر نعيشه ونترقبه كل لحظة.
الترجمة في الجزائر.. حركية متمركزة داخليا
يمثل موضوع الترجمة في العالم العربي عامة والجزائر خاصة واحدا من أهم المواضيع المعقدة بسبب طبيعة التخصص واتساعه، إذ الذي لا يمكن حصره في اللغة والثقافة أو التواصل، إذ نجد في مسار المترجمين والتراجمة تخصصات عديدة تصّب في مشارب الفكر ضمن اللّغة الواحدة أو بينها وبين لغات أخرى، كالطب والفيزياء والرياضيات والفلسفة وعلم الاجتماع واللّسانيات، غير أن هذه النظرة الشاملة لماهية هذا التخصّص لا تتجسد في واقع حركة الترجمة الأكاديمية بالجزائر، لأن مفهوم استقلالية التخصص يبدو لدى البعض ممن درسوا الترجمة دون المرور على تخصصات مجاورة، هو للأسف أمر صعب جدا على من لم يستوعب أبجديات الترجمة ونظرياتها وطرائقها، أو بمعنى آخر أنه دخيل على هذا التخصص، والسؤال الذي أطرحه على نفسي وزملائي في هذا السياق يتمثل في ما يلي: هل كل متخرج من أقسام الترجمة ملمّ حقا بجل التاريخ الترجمي ونظرياته؟ هل هو فعلا متخصص في الترجمة؟
الإجابة واضحة كوني متخرجة من قسم اللغة الانجليزية الذي تعلمت فيه الكثير من المعارف والتقنيات في ظرف قياسي ثم مع زملائي في قسم الترجمة بجامعة قسنطينة في مرحلة الدراسات العليا في أول سداسي لمرحلة الماجستير حيث تلقينا فيه أبجديات الترجمة كعلم وفن، كما تعلمنا أساليب النقل من لغة إلى أخرى، والتي أصبحت فيما بعد نقطة انطلاق في البحث عن تفاصيل تتعلق بالمفاهيم التي تبنى عليها هذه النظريات والتي في أغلبها مسمّيات لثنائيات تداولها المنظرون في قوالب جديدة تطرح أفكارا حول علاقة المعنى بالمبنى والسياق والمتلقي والخطاب... وغيرها من الأبعاد اللّسانية والثقافية والإيديولوجية. لذلك فضلتُ أن أشارك بوجهة نظر تتعلق بهذا الأمر الذي يعد ـــ في تقديري ـــ أحد العوامل وليس أهمها في تحديد نمط واتجاه حركة الترجمة-الأكاديمية- بالجزائر والتي في تقديري تدور في حلقات متباعدة ومعزولة عن بعضها البعض، وقد يتساءل القارئ وقد يخالفني الرأي، لأن الواقع قد لا يعكس ما قدرتُه كأستاذة في معهد الترجمة بجامعة الجزائر2، إلا أنني أؤكد أن الاشكال ليس في كمية أو نوعية ما يقدم من أبحاث علمية فحسب، فالصورة التي ترسمها مخيلتي حول حركة الترجمة في بلادي تبدو وكأنها نشاط متمركز في نقاط متباعدة لا تقوى على إرساء شبكة خيوط تزيد من النشاط الحيوي الذي بدوره يفتح قنوات تواصل ميدانية مع التخصصات المجاورة أو حتى تلك التي لم يسبق لنا أن تعاملنا معها في تدريس الترجمة. وبحسب ـ رأيي المتواضع ـ، أعتقد أن اللاتمركز والانفتاح على التخصصات الأخرى لا يعني التعامل في مجال النشر الأكاديمي أو خبرات مناقشة رسائل الدكتوراه أو التأهيل الجامعي أو حتى تدريس مقاييس إضافية في أقسام الترجمة فحسب، وإنما يتعدى هذه الحدود من أجل انشاء شراكة علمية عملية تؤمن تكوينا نوعيا للطالب وتحفّزه على إنشاء مشاريع بعد التخرج تساعده على الولوج الى عالم التكوين المستمر، فمثلا قام أحد الأستاذة المحاضرين في جامعة ماينز بألمانيا، وهو مسؤول الابتكار في منصة KUDOway كلاوديو فنتينيولي بتطوير برنامج في الترجمة الشفوية يستعمل في المحاضرات والمؤتمرات كبديل للترجمة الفورية البشرية وقام بعرض نتائج تجربته في ندوة علمية افتراضية عبر الزووم بمركز دراسات الترجمة CENTRAS، بجامعة UCL لندن ليناقش آليات العمل بهذا البرنامج، كما عرض تفاصيل دقيقة تتعلق بالعراقيل التي تواجهه ويستلهم الحلول ويحسن من جودة بحثه ومنتوجه الذي ستقتنيه مختلف الهيئات والمؤسسات لتنظيم محاضراتها. وقد راودتني أسئلة كثيرة وأنا أستمع لشروحاته القيمة وتدخلات الباحثين الذين يحاولون بأسئلة بسيطة المضي في خطوات جبارة في أبحاثهم والتي قد تصبح يوما ما منافسة لما يقدمه هذا الباحث اليوم، إذ ندرك هنا أهمية التعامل مع القطاعات الأخرى في خلق ما ذكرته قبل قليل بحركة متشعبة من شأنها أن تسير في اتجاهات أخرى كالاقتصاد الذي يزيد من فرص التعامل مع أكثر من ميدان. غير أنه توجد أمور أخرى تتعلق بالسياسة المنتهجة من أجل خلق هذه الحركية أو تعديلها بما يتواءم مع الواقع المعيش، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة بنا، إذ يجب أن تدرس بمنهجية محكمة، وذلك بتقييم أهم الخطوات التي بذلت في هذا الاتجاه، ومعرفة الأسباب العميقة التي تكبح السرعة الكفيلة بجعل حركة الترجمة أكثر نجاعة وتشعبا وتشبّعا، بما فيها تبني استراتيجية بعيدة المدى تسخر الأدوات اللازمة للانتقال إلى سرعة أكبر في تنشيط العوامل الحيوية المحيطة بهذا التخصص من أجل استيعاب التحولات الكبرى المؤثرة في حركة الترجمة بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
وفي هذا السياق، أظن أنه من الضروري التطرق إلى دور أستاذ الترجمة والمؤسسات الجامعية كمنظومة متكاملة في مد أواصر التعامل مع التخصصات الأخرى بطريقة مغايرة لما يتطرق إليه في الأبحاث النظرية والمشاركات الأكاديمية، لأن الوقت يمضي بوتيرة مقلقة جدا بخصوص الحسم في طبيعة الهدف المشترك مع المؤسسات الاستراتيجية، فبغض النظر عن أهداف النشر والأبحاث التي تتعلق بالترقية العلمية، وهو حق مشروع يكتسب عبر مشوار علمي تحدّده النصوص القانونية، نتساءل عما قدّمته الملتقيات العلمية الدولية، على وجه الخصوص من فرص في استغلال الترجمة للتكنولوجيات في مجال التدريس على الأقل، ولا أتحدث في هذا السياق عن استخدام منصّات التدريس الافتراضية التي تعتبر من أبجديات التعليم عن بعد، بل يجدر إدراج مقاييس في الترجمة التحريرية والشفوية والترجمة السمعية البصرية، يستخدم فيها الطالب برامج يمكن اقتناؤها في مخابر التدريس أو حتى مخابر البحث التي يجب أن تكون أكثر عملية في تقديم يد العون للمؤسسات الأكاديمية والمهنية في كل القطاعات عبر كامل التراب الوطني، إذ يمكن أن تتكفل بتدريبات طويلة أو قصيرة المدى للطلبة والأساتذة وحتى العمال في المؤسسات الوطنية أو الخاصة، وذلك من خلال إبرام عقود شراكة من شأنها أن تزيد في جعل حركية الترجمة أكثر تشعبا ونجاعة.
والواضح أن غياب مثل هذه التصوّرات في الواقع دفع أغلب الباحثين المتخرجين من كل التخصصات بالتفكير في أن السبيل الوحيد للتوظيف بعد الدكتوراه هو التدريس الجامعي، إضافة الى غياب خارطة طريق يستخدمها المتخرجون في رسم مشاريعهم بعد انهاء مسارهم الجامعي، وذلك باختيار المجال الذي يجعل منهم عاملا فعالا على المستوى الفردي أو الجماعي.
وإن الإشكال في تقديري لا يكمن في الكفاءات البشرية والعلمية بقدر ما هو متعلق باستراتيجية مستعجلة في استغلال الأدوات اللازمة لمواكبة التطورات الكبرى بما يوائم الواقع المعيشي، لأن الهدف لا يكمن في مقارنة مؤسسات ريادية في البلدان المتقدمة ببلدان العالم الثالث أو البلدان السائرة في طريق النمو بقدر ما هو معالجة أسباب الكبح الملحوظ في محاولات مد جسور المعرفة بين مختلف التخصصات مع الترجمة والتي من شأنها أن تقوم بدور مصيري في تحرير الطاقات الوطنية وتحفيزها حتى تكون في تفاعل مباشر مع مراكز البحث الدولية من جهة ومحيطها الوطني الصناعي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي من جهة أخرى، وذلك من بغية تدعيمه بالمستجدات العلمية الاستراتيجية بمنهجية ووتيرة مدروسة.
لقد طرحت أفكار عديدة وآراء حول مشاكل الترجمة في الجزائر والصعوبات التي يواجهها المترجمون في مسارهم المهني، وهناك إجماع على أن الترجمة لم تكن بخير في يوم من الأيام بالجزائر لأسباب منها: إهمال الجانب الثقافي ناهيك عن إشكالية التنافر اللغوي في الساحة الترجمية، ثم غياب مشروع واضح للنهوض بهذا التخصص الحساس كإنشاء مؤسسة وطنية بفروع مختلفة عبر ربوع الوطن.
لقد تعددت المشاكل والعراقيل والمعضلات مما يجعل فعل الترجمة في الجزائر لا يزال يتخبط في متاهة الجهود الفردية للباحثين والأساتذة والمترجمين والتراجمة.
ـ الترجمة صناعة.. وتجارة
برزت في السنوات الأخيرة العديد من المؤسسات ودور النشر عبر العالم لترجمة ونشر الكتب والمؤلفات والبحوث والتقارير الاقتصادية والسياسية والأمنية بسرعة فائقة، وتقوم هذه الدور بتوظيف شبكة واسعة من المترجمين عن طريق التواصل عن بعد دون الحاجة لحضور المستخدمين أو إلزامهم بأي إجراءات بيروقراطية. ولا تتوقف أهمية ما تقوم به هذه الشركات ودور النشر في سرعة ترجمة ونشر المستجدات، بل هناك الجانب الاقتصادي والتجاري الذي يوفر مئات آلاف مناصب الشغل ومبالغ مالية بالعملة الصعبة.
إن الكثير من المترجمين الجزائريين يتعاملون مع هذا النوع من الدور ويقدمون ترجمات ذات جودة عالية، ومنهم من يقوم بمراجعة الترجمة والأصل وتقييمها، وأعتقد أن الوقت يداهمنا في لم شمل طاقات البلد لاستغلال خبراتهم في إنعاش حركة الترجمة بمختلف تخصصاتها، مما سيساعد في تواصل الأقطاب الفاعلة في تعامل وتعاون مختلف القطاعات والمؤسسات مع الترجمة. كما أعتقد أن الفرصة مازالت قائمة كي تنخرط الترجمة ببلدنا في مسارات التحوّلات المهمة الجارية عبر العالم، ولكن المؤكد أيضا أن الوقت يستنزف بالنظر إلى وتيرة التحوّلات الكبيرة في صناعة وتدريس الترجمة عبر كل العالم، ما يدعو إلى القول إن الترجمة تطور مفهومها من علم وفن ونقل للعلم والمعرفة، إلى كونها صناعة وتجارة، فالصناعة تبني البلد والتجارة تبني التاريخ.
ـ المؤسسات الإيجابية.. صلة الرحم بين كل التخصصات بما فيها الترجمة
لفت انتباهي، مؤخرا، محور بحث قيم في ميدان التعليم واللغات يتناول أهمية دور المؤسسات في مساعدة المستخدمين كالأساتذة والباحثين والإداريين في تكوينهم المستمر على طيلة حياتهم المهنية، والهدف من هذه المجهودات المادية والمعنوية هو مرافقة الأستاذ والمترجم والباحث وحتى عون الإدارة لإشعاره بدوره وأهميته في المؤسسة التي ينتمي إليها وجعله يقدم أفضل ما لديه من أفكار ومساهمات من جهة وزيادة الجودة التي يقدمها في مهامه بالمؤسسة من جهة أخرى، إذ في مثل هذا السياق من المهم التساؤل عن جدوى المواضيع التي نوقشت في مختلف التخصصات بما فيها الترجمة، لماذا هذا الكم الهائل من الأبحاث والمقالات والاستكتابات ونحن لا نزال نعبر عن عدم رضانا عن واقع الترجمة؟ ويبدو لي أن أهم الأمور التي يجب أن نلتفت إليها هو تغيير اتجاه البحث العلمي وتوسيع رقع اهتماماتنا إلى البحث في البحث العلمي بحد ذاته أو كما يقال بالإنجليزية Researching research . ويفترض قبل أن نفكر في هيئة وطنية للترجمة أن نبحث عن سبل استغلال الطاقات بطريقة إيجابية ومراجعة وتحسين جودة التكوين التي يتلقاها المترجم والأستاذ والعامل في هذه المؤسسات، أعتقد أنه لا يمكننا أن نطمح لما يجمعنا في مؤسسة وطنية إن لم نوفر الآن الظروف التي تسمح لنا بالبحث في أدوات رسم خارطة طريق تحدد الاتجاهات التي ستسلكها الترجمة نحو التخصصات والمؤسسات المختلفة، كما أنه من المستحيل النجاح في التعامل مع تخصصات أخرى، هي بدورها تتخبط في أزمات هوية الأهداف التي تجمعها بشركاء في مختلف المجالات، والمقصود هنا أن النهوض بالترجمة في الجزائر ليس مرهونا بالمختصين في هذا المجال من أكاديميين وباحثين ومترجمين، فالترجمة لن تنتعش في غياب حركة اقتصادية وثقافية واجتماعية، الترجمة مشروع حضارة بكل مقوماتها الفكرية والدينية والاجتماعية والفنية، وإن أزمة الترجمة في الجزائر لا يمكن أن تنفرج دون استراتيجية مستعجلة لحشد الكفاءات داخل الوطن وخارجه وتكريس الأدوات اللازمة من خلال بلورة سبل التعاون مع مختلف التخصصات، وأهم من هذا تقييم أهمية ما يبذل من أبحاث والعمل على أقلمة مسارات البحث باتجاه الحلول المرجوة، وذلك عن طريق فتح قنوات الاتصال بين المعنيين وإشراك كل الفاعلين من أكادميين، باحثين ومهنيين، ومباشرة حوارات ونقاشات جدية وشفافة تتدارك خطر خروجنا من دائرة الانجازات والاكتشافات ومنظومات الترجمة بمعايير عالمية. وأظن أن الترجمة لن تتمكن من الانتقال إلى سرعة أكبر دون إقامة شبكات اتصال فعالة ووظيفية مع جميع التخصصات ضمن مؤسسات إيجابية تتكامل في الأهداف وتتنافس في الجودة.
عن مجلة فواصل- العدد 2