لا أسعى إلى تمرير رسائل معيّنة عبر نهاياتي المفتوحة
الرّواية من أكثر الأجناس الأدبية استيعابا لإيقاع التحولات المُتسارعة، مُتفاعلاً مع شتى الحقول المعرفية وأصبحَ النص الروائي أداة لإثارة الأسئلة بشأن المواضعات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وذلك لأنَّ مبدأ الشك هو من الخصائص المائزة لفن الرواية، ما يعنى أنَّ النوعي يتصادم مع مفهوم المحرم بالاستمرار، وهذا ما يفسرُ مصادرة الأعمال الروائية ومحاكمة مؤلفيها. وطالت حملة المصادرة والحظر أعمال الكاتبة والروائية المغربية فاتحة مرشيد، كون الأخيرة تكتبُ بمنطق المعرفة مقتنعةً بضرورة التحرر من الوهم والخوف وكان لنا حوارُ مع صاحبة «مخالب المُتعة» حول خصوصية مضامين منجزها الروائي.
- تدورُ أعمالك الروائية حول ثيماتٍ نفسية كما أنَّ صراع الرغبات يُمثل ركناً أساسياً في تركيبة شخصيات من صنيعك، هل تعتقدين بأنَّ أهمية الرواية تكمنُ في الاشتغال على هوية الفرد؟
فاتحة مرشيد: أعتقد أن فعل الكتابة هو في حد ذاته بحث عن هوية، هوية الكاتب أساسا من خلال شخصيات يبتكرها. لا توجد للشخصيات الافتراضية، تماما كما في الحياة الواقعية، هوية واحدة قارة بل هي هويات متعددة، تتغير وتتطور وفق تجارب حاملها. وفي الأعمال الإبداعية غالبا ما تتطور هوية الشخوص بتطور الأحداث، التي كلما دخل عليها التحول غير المتوقع كلما كانت جاذبية النص لدى القارئ أقوى. وبصفة عامة، فإن بحث الكائن عن هوية هو بحث مستمر مع استمرارية الحياة. أما الثيمات النفسية فهي تعود لاهتمامي الشخصي بعلم النفس وإن لم يكن من اختصاصي، فأنا طبيبة أطفال ولست طبيبة نفسانية كما قد يعتقد بعض القراء.
- مقاربةُ المحرمات أو المسكوت عنه أصبحت سمةً فارقة في أسلوب كتابتك، برأيك ما دورُ مشاكسة التابوهات روائياً في ازدياد مساحة الحريات؟
هناك علاقة وطيدة بين الإبداع والحرية، بحيث لا إبداع دون حرية. والكلمات - كما الشخصيات - كائنات حية سرعان ما تتحرر من كاتبها لتعيش حياتها الخاصة..وأنا أحترم إرادة شخوص رواياتي في التعبير عن نفسها بلغتها الخاصة وتقرير مصيرها، لأن المفروض في الأدب أن يكون شجاعا ليؤدي وظيفته كمتراس ضد الخوف، والظلامية، لأن «الحياة تتقلص أو تتمدد حسب شجاعة كل واحد»، على حد قول أنييس نين.
وأنا أسعى من خلال الكتابة إلى تعلم الحياة والتقرب من بعض ألغازها كذلك، وعبرها أحاول إزاحة الستار عما هو موجود لكن مسكوت عنه..إن ما يهمني هو طرح الأسئلة أساسا وللقارئ بعد ذلك إيجاد أجوبته وحلوله الخاصة.
- تتناول روايتك الأخيرة «انعتاق الرغبة» موضوعَ التحول الجنسي، وهذا يبدو غريباً بالنسبة للقارئ العربي نظراً لحساسيته التي تتجاوزها جُرأة الكتابة عندك، فلماذا اختيار هذا الموضوع؟ هل مُشاغبة الذائقة التقليدية هو الهدف من مشروعك الروائي؟ وكيف تتلقين مصادرة كتبك في بعض الدول العربية؟
ظاهرة التحول الجنسي ظاهرة إنسانية قديمة قدم البشرية، وهي موجودة في كل الثقافات. إنّها وجه من وجوه إنسانيتنا المتعددة الوجوه، ففي الهند على سبيل المثال، يعود تاريخ مجتمع «هيجرا» إلى عهد الإمبراطورية المغولية، حيث هناك آلهة تحمل الجنسين معا. وفي بعض الدول الإسلامية مثل إيران وباكستان لا يعتبر الموضوع من الطابوهات، بحيث في إيران جاءت فتورة الخميني لتمكن هذه الفئة من إجراء عمليات تغيير الجنس والمصالحة مع ذاتها. أنا أكتب أدبا إنسانيا وما يهمني هو الإنسان بكل معاناته وهشاشته، هشاشة ألمسها يوميا من خلال عملي كطبيبة.
ومشاغبة القيم التقليدية السائدة، والثوابت الراسخة والوعي الراكد هي من مهام الأدب أساسا؛ إذ من المفروض أنه لا يقف عند الخطوط الحمراء والروايات بمثابة تلك الحجارات التي نلقيها في البرك الآسنة قصد تحريكها.
أما عن مصادرة كتبي في بعض الدول العربية فهي تحفزني أكثر على الكتابة لأنها تأكيد على أننا بحاجة أكثر إلى تعرية النفاق الذي نتخبط فيه والسكيزوفرينيا التي نعاني منها. ثم، الروائي ليس منظرا ولا قاضيا ولا مقدم دروس، وإنما هو مبدع يسعى إلى استفزاز القارئ وحثه على طرح الأسئلة دون السقوط في فخ الطرح الأخلاقوي.
لأن الإبداع الحقيقي هو أبعد ما يكون عن ثنائيات (الخير والشر) (الفاضل والفاجر). ثم إن القارئ عندما يجد إبداعا حقيقيا فإنه يتجاوز كل نظرة أخلاقية للعمل الإبداعي وينفعل ويتعاطف مع شخصيات وأوضاع قد يكون ضدها في تصوراته وإذا كان الأدب ذكيا ونافذا إلى العمق قد يؤثر في التمثلات، وهذا هو المهم لأن هذه التأثيرات تفعل فعلها في تحول المجتمعات نحو الأفضل.
ثم من يصادر الكتب؟ بالتأكيد ليس القراء بل الرقابة كسلطة هي التي تخاف الكتب وتشهر السيوف في وجهها. وأنا لا يهمني سوى القراء. نحن في عصر العولمة والقارئ عندما يريد قراءة كتاب ما فهو يبحث عنه بكل الوسائل ويتوصل إليه. والكتب التي تصادر علانية تقرأ في السر..تعجبني فكرة أن أقرأ في السر، لأن من بين الكتب التي ساهمت في رفع مستوى وعيي وجعلتني أكبر فكريا وحسيا وإبداعيا كتب مصادرة قرأتها في السر.
- تُعالجين في سياق «انعتاق الرغبة» ما يسمى بالربيع العربي، إلى جانب العلاقة القائمة بين الجنس والاستبداد واكتساب هويات جديدة كيف يمكنك تطويع كل هذه المواضيع الإشكالية في بناء العمل الروائي؟ ولأي قارئ تكتب فاتحة مرشيد؟
المواضيع تفرض نفسها ما دام الزمن الروائي يعكس فترة تاريخية معينة، أكتب للقارئ الذكي الذي يقاسمني حرقة الأسئلة، القارئ الذي سينفخ من روحه في الكتاب ويمنحه حياة أخرى. القارئ الذي لن يقتصر على قراءة رواياتي بل سيعيش كل قصة كما لو كانت قصته الخاصة..فيبكي في المقاطع التي كتبتها بدمي وبكيت أثناء تدوينها، ويضحك ملء الصوت في المشاهد والأحداث التي كتبتها بخفة وشغب. باختصار، أنا أكتب للقارئ الإنسان الذي سيجد في مرآة حروفي صورة لوجعه الوجودي، ويقر أن الوجع واحد عندما يتعلق الأمر بالإنسانية.
- تتواردُ في سياق رواياتك المعلومات الطبية ؛كما أنَّ اللغة تمتازُ بشعرية نابضة بالرومانسية. هل يهمّك حضورُ ذاتك الشاعرة وذاتك المهنية في النص الروائي؟
هي ذات واحدة تعبر عن نفسها شعرا وسردا وتحفر في تجربتها الحياتية التي تشكل الحياة المهنية جزءا منها. الشجرة واحدة يا سيدي والأغصان تتعدد.
- يتجاور الحب والموتُ في نصوصك الروائية خصوصاً في «التوأم» و»انعتاق الرغبة»، هل تأثرت في ذلك بالصوفية أو ربما بالثقافة اليابانية؟
غموض الحب والموت من غموض الكون، لهذا هما نخاع كل إبداع. وسيظل الموت قضية الإبداع الكبرى بكل أشكاله وتعبيراته. ونحن حين نبدع إنما نحاول سبر غموضه. وإذا كنا نستمر في الكتابة فذاك لأنه ينفلت منا..بحيث في كل كتاب جديد محاولة جديدة لفهم ما. نحن نبحث في الإبداع عن أبديات صغيرة تلهينا عن مصير محتوم ينتظرنا دون شك ممكن، الإبداع نوع من أنواع مراوغة هذا المصير في انتظار حدوثه، الإبداع ملطف لهذا الانتظار غير المحتمل، ونحن نبدع إنما نؤثت الانتظار..نملأه قطرة قطرة من نزيف أرواحنا، ونموت قليلا ليولد النص، ولأن في ولادته ولادة جديدة لنا فنحن ندمنه لأنه الفعل الوحيد الذي يشعرنا بأننا أحياء.
- تبقى نهاية رواياتك مفتوحة، وذلك يوحي بالتواصل مع فن السينما، ما هي الرسالة التي تضمرها تلك النهايات؟
لا أسعى إلى تمرير رسائل معينة وإن كنت أحبذ النهايات المفتوحة لأنها تسمح للقارئ بابتكار نهايات من صنعه وبدايات أخرى. أما السينما فعلاقتي بها علاقة وطيدة وكتاباتي تتغذى منها كما تنهل من فنون أخرى. الإبداع مرتبط بالحدس والانفعالات أكثر مما هو وليد التفكير العقلاني، وهو مدثر بالغموض لهذا لا يمكن أن نتحدث عن نهايات مبرمجة منذ البدء في العمل ومفكر فيها أو مخطط لها مسبقا، أتقدم دائما في منطقة الشك وليس في منطقة اليقين أو الثقة الكاملة، لا أعلم بشكل كامل ما أنا قادمة عليه، أبدأ بخطوة تتلوها خطى في شبه عتمة. أتقدم من المعلوم نحو المجهول تاركة لشخوصي حرية اختيار مصيرها، وكثيرا ما تفاجئني بنهايات ما كانت في الحسبان.