إنها أسئلتي الثقافية، إنّني أكتب من قلق وجودي مقيت وأخرج كينونتي الغائبة، إصطلاحات متواثرة، نواميس تأتي هكذا بحمولتها، أفرغها إفراغا الشعر أقصي رغبة مضيئة هادئة، أستنفر أدواتي الإبداعية لأكتب مضامين ما يرشدني إلى الخيال، أحاول أن أشرك القارئ عنوة، بيني وبين الكتابة، سرّ لا خطيئة، نحن الشعراء لم يسقط علينا التفاح كي نقيس زمنيته، نحن نخرج ما كدّسنا من ألم وفرح. إنه زخم الهيولي، نكتب المفردات المشتهاة البكر، نحن الشعراء نقع صرعى «عشق اللغة» المخملية، نحن نفرد لها حيزات، نحن نرقص في محفلها، نحن نجيئها من حيث لا تجيء، نحن نكتبها ليس على ناصية قط مستقيم في صراط مبين، نحن نوقع بها كيما تصير أكثر جمالية وإبهارا.
النصوص الأولى ولدت مستكينة، تصالحية، «إرهاصات من ذاكرة الورق»، مجموعتي الشعرية الأولى البكر، مادهى الناس يسألونني عن «ارهاصات» إنّها تجربة حادة في عالم شعرية عصرتها عصرا، قرأت خلال تلك الفترة لخليل حاوي، تساءلت لماذا اغتالت اللغة هذا الشاعر الرائع، عمر أبو ريشة، البياتى في اندحاره واستفاقه على المطر، همس الرذاذ، اسئلته المتفككة، طلاسم اللغة، إغواءها جيران «نبئيها» ايليا أبو ماضي، مقابسات الجمال، محمود درويش كانوا جميعهم يعينونني على اللغة التي أشتهي أن أبوخ في معبدها وثناياها، أرصفها نصفا، يسوقنني إليها التراث «الجاحظ» البحتري، عذابات التألق، حتى قلت لما طبعت «إرهاصاتي» سنة ٢٠٠١ لقد وجدتها وجدت اللغة، حنينها، لوثت الجدران، اشعلت البياض حبرا، سابقت لرسم شجرة أو حرف، فعل فعلة الشوق، لم أبقى متقربا بعد ما طبعت ديواني الأول، إنما حاولت الولوج والتوغل إلى أقصى المعبد الذي ما رأيت فيه سوى الكتابة، ألمّ فيها أشلائي، أغزو مدني المتهالكة التي صارت تسلم لي مفاتيحها وغوياتها طائفة، أعراشها حينما كانت تتهشم إنثناءات وإبهار، كان علي أن أكتب في محراب الغفوة «رأيت في المعبد» مجموعتي الشعرية الثانية سنة ٢٠٠٦ التي جاءت من تمزقات سنوات التسعينيات، كتب بمثل طفل رأى، طفل يرتعش من خوفه، يستند إليّ، يكتب مغافلاته الجريحة وصبره وفرحه وجذوة ألمه، يقول: أكتب اصوت منفردا، متغلغل في الافتضاح، كان وكنت حينها ألتهم أي رواية تأتي أمامي، أقبع إليها أساور قلاعها، أنتيذ منها مكان قصتي، رواية الحلزون العنيد «ذاكرة الماء» «رائحة الكلب» «الجازية والدراويش» «أولاد حارتنا» ثم أنزاح شعريا، أقرأ اللغة بعمق بتهج صارخ، أخلصت لها في نصوصي، صنعت لها مملكة للإدهاش بل مماليك إشتهاء بقدر ما كتبت فصولها، سكون، جنون، عنفوان، حبور تخلصت من تمردي، من صمتي، حاولت تجسيد فاصلة معتمة، بمثل الضباب الذي يستر عن أسرار المدن المتآكلة حينما تجعلها الذاكرة رميما أو حيوية هاتفة متسلقة تجيء مجموعة شعرية أخرى بحمولة بياضها وكان حتما عليّ مقضيا أن أخلق توجساتي، وأحاصر الممرات، أدنو من الأزقة الضيقة الرخوة الباهتة لأإكتب عن البحر ولو مجازا لأكتب عن الموانىء الغبشية أنصهر فيها انصهار، إذن مجموعتي الشعرية التي حدثتكم عنها للتو فقط هي «أقانيم البياض».
طبعت سنة ٢٠٠٧، قلت للمدن تزاحمي على صرحي الممرد بهاء الحضور، الآن أدركت سرّ اللغة، اعتكفت في خلوتي، «الأقانيم» التي كانت إحالات مرمزة، بمناطق.. هذا ماوردت أن استجليه وأعبر عنه وفي الوقت ذاته كنت أود أن اتخلص من هذا اليقين من هذه الشعرية، لأنني بالفعل أردت أن أكتب نصا طويلا جدا رواية ربما مليئة بالعصافير الزاحفة نحو نهر، أعتقد جازما أن النهر سيعود إلى مجراها ولو بعد أربعين سنة من هذا المنطلق كتبت «عصافير النهر» متكأ أردته، لكن الشعرية توهجت اندفعت في مملكتي اندفاعا رهيبا، لامست عمقي وتسألت: هل اتشرد أمام هذا النص عميقا وبكل غواية وسحر، التقطت أنفاسي المبعثرة والمتجددة، لأكتب للبرد سيرته، حاولة أن أكتب لفظة الأمكنة المتعددات العابرات لفصول ذاكرتي ومواسمها، ولذا كانت مجموعتيّ الشعريتين «أمكنة وأكثر من برد» طبعتا سنة ٢٠١٣، لا أنكر أن العاصمة كان ملهمة للإيداع، كنت أسافر إليها دوما، كان بيننا ما يشبه التناغم كان هناك قرب..وكان هناك بعد وهكذا كتبت مجموعتي الشعرية «هذا البعد..هذا القرب» المؤهلة للطبع بمطبعة الفنون المطبعية.
أسئلـــة الكتــابة في نصوص الشاعر عيسى نكاف
الشاعر: عيسى نكاف
شوهد:1567 مرة