قدّم الدكتور محيي الدين عميمور محاضرة بتونس حول أبعاد وخلفيات تقسيم الوطن العربي إلى مشرق ومغرب، وما رافقها من حسابات الخارج وأجنداته للابقاء على وضع جيو سياسي مهتز رغم ترسيخ الوحدة الديمغرافية. لأهمية التّحليل ننشرها. (التحرير)
لم يكن تقسيم الوطن العربي إلى مشرق ومغرب فرزا دائما ، بل ارتبط يوما بالعواصم التي انتقلت من المدينة إلى دمشق ثم إلى بغداد فالقاهرة، وكان مصطلح المغرب يعني الأقاليم التي تقع غربها، وانطلاقا من هذا فإن الشام ومصر اعتبرتا في العصر العباسي من بلاد الغرب.
وفي العصر الحديث، كان مفهوم المغرب العربي خلال مرحلة طنجة في 1958 يعني أقطارا ثلاثة، تونس والجزائر والمغرب الأقصى، أو مراكش آنذاك، وجرى تناسي ما يقع جنوب المغرب وحتى نهر السنغال بما في ذلك شنقيط التاريخية، وما يمتد نحو الشرق حتى الحدود المصرية ليشمل طرابلس وبرقة وفزان.
وتعقّدت الأمور في الستينيات نتيجة لتداعيات استقلال موريطانيا، ثم نتيجة لنظرة سياسية معيّنة كانت ترى في تعبير المغرب العربي فكرة استعمارية لإجهاض الوحدة العربية، كتعبير الهلال الخصيب، وهو ما كان يراه الأشقاء في ليبيا قبل ثورتها، وتغير الوضع عندما انضمت ليبيا إلى اتحاد المغرب العربي المشلول.
وأقحمت يوما قناة السويس لتكون خط الاستواء العملي الذي يُقسّم المنطقة إلى مشرق ومغرب، وربما كان هذا هو المبرر السياسي الظاهري لفكرة إلحاق مصر بالمغرب العربي.
لكن الوحدة الديموغرافية لمشرق الوطن العربي ومغربه أصبحت أمرا من الصعب التشكيك فيه، حيث أنّ السائد هو أن البربر في الشمال الإفريقي هم عرب قدامى، وهم يرفضون الأصل الشمالي (الأوربي) لمجموع السكان، منطلقهم في ذلك أن أوروبا كانت، عندما تكون المجموعات البشرية الأولى عندنا، مجرد مساحات جليدية واسعة، وهم يبرهنون على ذلك بالسرعة التي تمّ بها تقبّل اللّغة العربية في الشّمال الإفريقي، مقارنة بشبه الجزيرة الهندية وبلاد فارس التي فتحت في نفس الوقت، ولكن العربية لم تصبح أبدا لغة البلاد لوجود لغة محلية بعيدة في النّسب عنها، بينما كانت لهجات الشمال الإفريقي جزءاً من اللغة العربية، تطورَ بعيدا عنها ولكنه لم يفقد انتماءه لها.
وسنجد أنّ العلاقات بين غرب المشرق العربي وشرق المغرب العربي تعود إلى أزمان غابرة، ولا أتوقف عند المرحلة القرطاجية والصلات الفينيقية مع الشمال الإفريقي، فالمجال الزمني لا يسعفني، وكانت المنطقة الواقعة غرب مصر تسمى لوبيا (بالواو)، وكانت لها في الأزمنة الساحقة علاقات وثيقة بالممالك الفرعونية، وثابت أن شيشنق الأول ملك الأسرة الثالثة والعشرين هو من أبناء المنطقة التي أصبحت تعرف فيما بعد بالجزائر، وبغض النظر عن تناقض الروايات بالنسبة لظروف وجود الملك هناك وعما إذا كان مهاجرا أو فاتحا، لكنّني أتذكّر ما يمثل طرافة ملحوظة، وهو المصاهرة المصرية الجزائرية بين كليوباترا سيليني، ابنة كليوباترا من مارك أنطونيو، وملك الجزائر يوبا الثاني (52 ق م 23 م).
وللتذكير، كان عدد سكان المنطقة الواقعة غرب مصر وحتى المحيط الأطلسي عند انطلاق الفتح الإسلامي، في حدود خمسة أو ست ملايين، حمل إليهم رسالة الإسلام عدة آلاف، ولو أضفنا إلى ذلك عددا لا يتجاوز ثلاثمائة ألف وفدوا إلى المنطقة، فيما اصطلح على تسميته بالغزوة الهلالية سندرك بأن عدد الوافدين العرب، لا يصل إلى أكثر من نصف مليون نسمة، وهو ما لا يُمكن أن يُغير الطبيعة العرقية للمنطقة، بل إنه سيذوب فيها، وهو ما حدث بالفعل.
وكان الرومان، واليونانيون قبلهم، يطلقون على الشمال الإفريقي تعبير بارباريا، المشتق من كلمة البربر (Barbare) التي كانت تعني غربة المكان واللسان والخلق والطباع، وحُرّفت الصفة تدريجيا إلى أن أصبحت تنطق بالفرنسية بِربِر (Berbère)، واعتبر حمقى كثيرين، بتأثير الفكر الاستعماري الرافض لأي علاقة بين المشرق والمغرب، أن الصفة تعني جنسا متميزا ذا أصل آري، ولا يرتبط بأي حال من الأحوال بالشعوب السامية، هذا إذا قبلنا فكرة السامية والحامية التي روّج لها اللغويون الألمان، ويرى كثيرون أنها خرافة تاريخية.
ومن هنا يأتي اليقين بأنّ الأغلبية الساحقة لسكان الشمال الإفريقي هم، بتعبير اقتبسه الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد عن العلامة المصري الشيخ محمد الغزالي، هم بربر عرّبهم الإسلام، ومن هنا كانت سعادة الرئيس البالغة عندما اقترحتُ عليه في بداية الثمانينيات استبدال صفة “الأمازيغية”، التي لم تكن متداولة شعبيا، بتعبير كان الاستعمار وعملاؤه يتمسّكون به، وهو صفة “البربرية”، التي يجب أن تحذف نهائيا من قاموس التداول، وهو ما حدث فعلا.
وهناك نقطة يجب أن نتوقّف عندها ونتمعّن فيها، وهي أن الغزوات التي عرفتها المنطقة منذ الاحتلال الروماني جاءت إليها بكثيرين من غير المنتمين عرقيا وجغرافيا لها، وهؤلاء استقرّوا بها وتسمّوا بأسماء أبنائها وتزوّجوا فيها، وأضيف لهم أسْرى وربما عبيدٌ اعتقوا، وهو ما يعني أن بعض من ينادون بالعربية أو الأمازيغية اليوم يفعلون ذلك اعتمادا على مُعطىً لغوي مكتسب يتناسى الأصل الجغرافي أو العرقي، وهو ما يعني أن بعض من يتعصّبون للعربية مثلا يفعلون ذلك كرها في الأمازيغية، والعكس أكثر صحة، وهنا تتّضح الأهداف الحقيقية لمن يُحاربون العربية، حيث يتأكّد أنّهم يحاربون من خلالها الإسلام، كرباط استراتيجي مع المشرق العربي.
ومعنى ذلك كلّه أنّ الأمازيغية في الجزائر ليست صفة لأقلية، ولكنها عمق تاريخي للأغلبية التي تتمسّك بتعبير رسول الله عليه الصلاة والسلام بأن العربية هي اللّسان، وهكذا أعطت الجزائر للعروبة وللإسلام فاتحين من طراز طارق بن زياد، ونحويين من طراز ابن معطي الزواوي، كما انطلقت منها نواة الفاطميين الذين أقاموا دولتهم في مصر بعد تبلور خلافتهم في المهدية.
وهنا نكتشف أهمية التكامل بين التمسك بالعمق التاريخي الأمازيغي وبالبعد الحضاري العربي الإسلامي، والذي يريد له البعض أن يكون تناقضا عدائيا، خدمة لمن يريد تقسيم الأمة لصالح أطماعه ومصالحه.
ولأنّني أشرت للإسلام أحب أن أوضّح بأنّ المسيحية الموجودة اليوم في الجزائر هي مسيحية مستوردة من الشمال وغير أصيلة، كاليهودية مثلا.
ولا أعرف شخصيا كيف وصلت المسيحية الأولى إلى بلادنا؟ لكنّني أتصوّر بأنّ السكان تلقّوا الدين المسيحي في بداياته عن المشرق، وبرزت، في الجزائر على وجه الخصوص، الدعوة الدوناتية، نسبة لقسيس جزائري يُدعى الأب “دونا”، وكانت، فيما يُقال، مسيحية أقرب إلى القبطية في ارتباطها بالوطن وبالأرض، وأقرب إلى النظرة التي يراها الإسلام للمسيحية، خصوصا فيما يتعلق بقضية التثليث، وكان ذلك جسرا مشرقيا نحو الشمال الإفريقي.
ولكن الغزو الروماني قلب المعطيات المذهبية واتجه نحو التخلص من الدوناتيين الوطنيين والمدافعين عن حريتهم واستقلالهم، واستعمل في سبيل ذلك روميّاً وُلد في الجزائر يُسمى “أوغستان”.
وتعرّضت المسيحية الأصيلة إلى اضطهاد رهيب لمصلحة الكاثوليكية المستوردة من روما، وهو ما دفع الكثيرين من أبنائها في القرن الميلادي السابع إلى الترحيب برسالة الإسلام ثم إلى اعتناقه. وأصبح الراهب الروماني بعد ذلك مرجعية مسيحية للغرب الاستعماري، حمل لقب “سانت أوغستان”.
وكان هذا هو ما جعل الجنرال شارل دوغول يسترجع الأمر وهو يواجه الثورة الجزائرية في الخمسينيات، ويبذل كل الجهود العسكرية والاقتصادية والسياسية لتكون الجزائر لفرنسا ما كانته هذه لروما القديمة، عقيدة دينية وتبعية ثقافية وامتدادا جغرافيا.
والحديث يطول، وسيكون في مساهمات الأشقّاء إثراء كبير، لكنّني قد أتّفق مع من يرون أن العلاقات الثقافية بين المشرق والمغرب عرفت في العصور الحديثة خللا في العلاقات الحوارية يشير له ما ذهب إليه الدكتور عصفور، من ضرورة الالتزام بالحوار الذي يثري الثقافة العربية، ويبتعد بأهل الفكر في المغرب العربي عن المشاعر السلبية التي يمكن أن يقود لها ما يُنقل من تعليق لبعض المشارقة على إنتاجهم الفكري، بالقول إنّها “بضاعتنا رُدّت إلينا”، التي قالها الصاحب بن عباد حين عُرض عليه كتاب العَقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، وللأمانة، فإنّ هذا التّعبير يُقال أحيانا خارج سياقه، حيث أن الصاحب كان، عن حق، يريد أن يقرأ أدبا يمثل المغرب العربي والأندلس بدلا مما جُمع عنه في النصوص المشرقية.
وربما كانت هذه الخلفية جزئيا وراء الصراع بين الفكرة الإقليمية، التي تريد أن تجعل لكل إقليم طابعه الفريد والمتميز عن طابع إقليم آخر والذي يتطور إلى شوفينية مقيتة، وبين الفكرة القومية التي انطلق بها ساطع الحصري ومفكرون آخرون من منطلق تأكيد وحدة الأدب العربي والثقافة العربية.
الحلقة ١