هي اليوم فرصة أخرى ليُذكّر بعضنا البعض بزعيم كان عصاميا بكل معنىً للكلمة، كان يُمثل الإيمان الذي يصدقه العمل ويجسده حب الوطن ويتكامل معه الزهد في كماليات الحياة.
هو قائد حكيم تجسدت فيه معالم الرجولة الحقة والثقافة العميقة والنظرة المستقبلية وعبقرية ترتيب الأسبقيات واختيار أحسن البدائل، ورائد أهمله الوطن العربي والعمق الإفريقي والعالم الإسلامي لأن قومه لم يعطوه ما يستحقه من تكريم، ولم يدركوا أنهم كانوا بذلك يكرمون أنفسهم ويذكرون العالم كله بدور بلادهم الرائد في القضاء على آخر قلاع الاستعمار، لكن القدر أراد أن يذكر القوم بالمقولة الشهيرة: في الليلة الظلماء يُفتقد البدر.
وهنا تأتي أهمية الدور الكبير الذي يقوم به شباب لم يعيشوا مرحلة الرئيس هواري بومدين، ولكنهم أدركوا، بصفاء قلوبهم ونقاء سريرتهم، أن أمة لا تحترم رجالها سوف تلقى الإهانة من أسوا أبنائها، فراحوا، بإمكانياتهم المحدودة، يستذكرون مآثر الرئيس الراحل ويذكرون بها، ويتفهمون أخطاءه ويدركون تعقيد الظروف التي وجد نفسه أمامها، وهكذا تجاوزوا عجز الشيوخ وتقصير المخضرمين ورفضوا أن يدفن محمد بو خروبة مرتين.
وهنا تتضح أهمية العمل الذي تقوم به جمعية الوئام في قالمة، برغم أنني كنت ولا زلت أرفض أن يقتصر تكريم رجال الأمة وقادتها على مسقط رأسهم، وهنا أيضا أسجل الدور الذي يقوم به الشباب والأقل شبابا على منابر التواصل الاجتماعي، التي منحت الفرصة لشباب الوطن العربي لكي يتعرف، ولو في أضيق الحدود، على شخصية الرجل الذي وضع بصماته على مسيرة العالم الثالث، منذ وقفته في 1967 ضد العدوان الإسرائيلي ثم رعايته للمؤتمر الرابع لعدم الانحياز في 1973، ثم دعمه الهائل للمواجهة العربية وموقفه في موسكو في نفس العام، ثم خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام التالي، وصرخته التي هزت العالم يومها وهو يقول إن النظام العالمي الحالي يجب أن يتغير، لأنه أقيم في غيبتنا، وهنا نفهم لماذا يعتبر كثيرون أن وفاة بو مدين لم تكن أمرا طبيعيا.
وأرجو أن تصدقوني إذا قلت لكم أنني قضيت المدة كلها منذ لقائنا الأخير وأنا أفكر فيما سوف أقوله في سنوية الرئيس الراحل.
كان هاجسي دائما في هذه اللقاءات حرصي على ألا أكرر نفسي، وألا أجتر ما سبق لي أن تناولته في لقاءات سابقة، فأنا أرفض أن يشعر المستمعون، والشباب منهم على وجه التحديد، بأنني أقدم لهم قهوة أعيد تسخينها أكثر من مرة.
من هنا، سأكتفي بكلمات قليلة حول مضمون احتفال اليوم، لأترك المجال للرفقاء من الإعلاميين الذين يحضر بعضهم معنا هذا اللقاء للمرة الأولى.
ولعلكم تلاحظون أنني، على غير عادتي، أعددت نصا مكتوبا، والسبب هو حرصي على الالتزام بالوقت المحدد للمداخلة، ولأن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا.
وعندما أتحدث عن علاقة الرئيس هواري بو مدين بالإعلام يمكنني أن أقول أنه كان يتمتع، فيما يتعلق بالإعلام، بشيئ يشبه ما اصطلح على تسميته بالحاسة السادسة، وكان يتمتع بخاصية يتميز بها خبراء الإعلام، وهي أنه كان يفضل أذنه على لسانه، ويستمع بأكثر مما يتكلم ، ويعرف الفرق بين الفضة والذهب عند المقارنة بين الكلام والصمت.
ويمكنني أن أقول بأن تعامله مع الإعلام كان مرتبطا بالمرحلة الزمنية والمكانية التي يعيشها، ومن هنا فإن تصرفاته في مرحلة جيش التحرير تميزتببعد عن الاستعراض الإعلامي،ربما كان سببه أنه كان عاكفا على دراسة واستيعاب كل المعطيات التي سوف تشكل صلب رسالة إعلامية ستعبر عن مشروع مجتمع كان يغلي في أعماقه، منذ بدأ في تحمل المسؤوليات العامة، ويمكن أن أقول نفس الشيئ تقريبا عن مرحلة ما بعد استرجاع الاستقلال وقبل 19 جوان 1965، وهذا هو ما يفسر أسطورة الغموض التي نسجتها الصحافة حول بو مدين، وأعني على وجه التحديد الصحافة الفرنسية.
والغريب أن المخابرات الفرنسية لم تستطع أن تسبر أغوار قائد جيش التحرير الوطني آنذاك وأن تتعرف على حقيقة شخصيته، ومن هنا جاء كرهها الشديد له، وحرصها على تشويه مسيرته، وهو ما واصل القيام به كل من يندرج توجهه في إطار منطق الاستعمار الجديد، وخصوصا تجمعات الرأسمالية الطفيلية التي تشكل حصان طروادة داخل أسوار البناء الوطني، والتي تستعمل النعرات الجهوية المقيتة لتفتيت الوحدة الوطنية لمصلحة الاحتكارات الأجنبية.
وقد روى بول بالطا قصة طريفة تؤكد الجهل المطبق للمخابرات، حيث رفعت للجنرال شارل دوغول قائمة توضح تقييمها للقيادات الجزائرية التي ستتعامل معها الدولة الفرنسية، بعد إقرارها للشعب الجزائري بحق تقرير المصير الذي انتزع بدماء الشهداء وتضحيات المجاهدين.
وكان من بين الأسماء اسم العقيد هواري بو مدين، الذي وضعت المخابرات أمام اسمه تعليقا يقول:» ضابط غامض لا مستقبل له».
ويقول بالطا أن الرئيس الفرنسي كتب أمام هذا التعليق عبارة تقول: «هذا أمر غير مؤكد»، وهنا أيضا يجب أن أذكر بما قاله خصم قديم للرئيس بو مدين مؤخرا، حيث صرح جيسكارد ديستان بأن من العسير على الجزائر أن تعوضه، وهو ينسى في هذا أن أمة أنجبت يوغرطة وتاكفاريناس وطارق بن زياد وبن بو العيد وديدوش وعميروش وبيطاط وبن بلة وآل خليفة وبن باديس ومصالي الحاج والآلاف من العظماء في كل مجال، هذه الأمة لا يمكن أن تكون عاقرا، وأن بلدا يلد الرجال لا يمكن أن يكون عقيما.
وسنجد أن تعامل الرئيس بو مدين مع الإعلام بعد 19 جوان كان منسجما مع مرحلتين، كانت المرحلة الأولى هي استكمال أهم عناصر البناء الداخلي عبر برنامج التنمية العام والبرامج الخاصة الموجهة لبعض الولايات الفقيرة، بدءا بالصحراء ومنطقة القبائل، وكذلك استرجاع الثروات الوطنية وبناء الهياكل القاعدية للممارسة الديموقراطية، وهي المرحلة التي اختتمت بتأميم النفط في 24 فبراير 1971.
أما المرحلة الثانية فكانت انطلاق البرامج الاستراتيجية، داخليا عبر الثورات الثلاث، وخارجيا بالعمل على صياغة العمق الاقتصادي لحركة عدم الانحياز.
وكانت المرحلة الثانية هي تلك التي تشرفت فيها بالعمل إلى جانب الرئيس، رحمه الله.
وأتوقف هنا لحظات لأوضح أمرا نبهني له ما ورد في كتاب الأستاذ محمد الصالح شيروف، وأحسست أنه يسيئ للرئيس وغالبا بدون قصد، حيث قال الكاتب أن فلانا من الناس لم يكن يعمل إلى جانب الرئيس ولكن كان يعمل عند الرئيس.
كان تعامل الرئيس واحترامه لكل مساعديه يتميز بالاحترام والمودة،وكان يقول عن كل العاملين إلى جواره أنهم يعملون معه، وسواء تعلق الأمر بأهم الوزراء أو أبسط الحراس، ولم يكن بو مدين الذي وقف ضد نظام «الخماسة» من يرتضي أن يكون إلى جواره خمامسة.
هنا تأتي نقطة أخرى أحس بأن علي التوقف عندها، وهي أنه ليس هناك من يستطيع أن يدعي بأنه يعرف كل شيئ عن الرئيس الراحل، وخصوصا فيما يتعلق بحياته الخاصة، وهذا جانب هام من جوانب تعامله مع الإعلام، كان علي أن أتكيف معه.
وأستطيع أن أقول بأن عدد من رأوا الرئيس بالبيجاما قد لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
ويمكنني أن أقول بأن أول من يعرف الكثير عن الرئيس بو مدين من السياسيين رفيقه القديم عبد العزيز بوتفليقة، وهذه المعرفة تتجاوز، حجما، ما عرفه رفقاء آخرون مثل شريف بلقاسم وعلي منجلي رحمهما الله، بحكم المدة الزمنية للرفقة، لكن وزير الخارجية الأسبق ما كان ليعرف عن بو مدين في شبابه الأول ما يعرفه رفيقه الأقدم، محمد الصالح شيروف.
وأنا أقول هذا حتى لا يحملني البعض فوق ما أحتمل، فأنا أعترف بأنني عرفت محمد بوخروبة عن بعد خلال مرحلة القاهرة، ثم عرفت وزير الدفاع بشكل محدود خلال عملي في البحرية الوطنية إثر استرجاع الاستقلال، وعرفت الرئيس بشكل أكثر خلال السنوات الثمانية التي عملت فيها إلى جواره بشكل مباشر، وكل هذا تناولته في مداخلات كثيرة، مكتوبة ومسموعة.
وهنا أصل إلى نقطة أراها بالغة الأهمية في لقاء كهذا، وهي نقطة تناولها البعض في وسائل التواصل الاجتماعي بل وأحيانا في لقاءات عامة، وأعتقد أنها تتطلب اهتماما خاصا.
هذه النقطة هي اتهام كل من حاول استعراض مسيرة الرئيس أو تناول إنجازاته أو الدفاع عن بعض مواقفه، بأنه يحاول احتكار الحديث عن بو مدين، أو المتاجرة بتاريخه.
والاحتكار، فيما أعرف، هو تعبير اقتصادي أساسا، معناه محاولة التفرد بأمر ما للحصول على فائدة ما وحرمان الآخرين من الاستفادة منها، والمتاجرة هي عمل يستهدف تحقيق أكبر حجم ممكن من الأرباح.
وليس سرّا أننا مررنا بمراحل كان يمكن لكلمة خير تقال في الرئيس بو مدين أن تكون مصدر ضرر لقائلها، بل وسامعها، ولست أعرف أحمقا يحتكر الضرر لنفسه، خصوصا في زمن رديء بصر فيه البعض على ديموقراطية الإضرار بالآخرين، وضمان أن يصيبهم أضعاف ما يحاول أن يتفادى الإصابة به.
غير أنني لا أعرف من الرفقاء من منع أحدا من الحديث عن بومدين، ولم أسمع أن هناك من استعان بالشرطة لإغلاق فم كان يحاول أن يقول كلمة خير في رجل هو اليوم في رحاب الله.
والواضح أن هناك محاولة لتعقيد كل من رأى أن تمجيد قيادات الأمة هو دعم لثقة هذه الأمة في نفسها وفي مقدرتها على تجاوز الصعاب ومواجهة العدوان، أفرادا أو دولا أو وضعيات اقتصادية.
واحتراما للمدة الزمنية التي قررتها الجمعية، أتوقف عند هذه الكلمات، وأوجه في الختام التحية الخالصة لجمعية الوئام، التي سهرت على إعداد هذا اللقاء، وأرفق هذا بالشكر الجزيل للسيدة والي قالمة، التي عرفت أنها احتضنت كل الجهود العاملة لتحقيق النجاح.
وأضع نفسي تحت تصرف كل من يرى أنني قادر على الإجابة عن التساؤلات التي أعرف أنها تغلي في نفوس الكثيرين.