مسارات الصّعود والنّزول في المتّصل الحضاري

نحو تصحيح مغالطات «علم» الأهالي عن التنوع الثّقافي والتّجانس المجتمعي في جزائر الأمس واليوم

بقلم: د ــ محمد العربي ولد خليفة

الثّقافة والحضارة: المفهوم ومستويات دلالاته
 يكثر في الكتابات غير المتخصصة وفي الخطاب العام، استعمال كلمة ثقافة وكلمة حضارة غالبا بمعنى واحد عند توصيف الموروث التراثي أو عند المقارنة بمثيله في بلدان أخرى في الحاضر أو الماضي، غير أن المصطلحات والمفاهيم تشبه العملة ترتبط قيمتها بالمجال الذي تستعمل فيه أي الموضوع والسياق الراهن، وما يحدث في المجتمع من تحولات ومدى تأثير أحداث الماضي في ما تحمله تلك المصطلحات والمفاهيم من شحنات في الذاكرة الفردية والجماعية.
إنّ كثرة استعمال بعض المصطلحات والمفاهيم لا يؤدّي إلى شيوعها فحسب في الأدبيات المنشورة والمنطوقة وفي وسائط السمعي البصري، بل يؤدي كذلك إلى غموض معناها وتداخل المفاهيم، وهي المفاتيح الأساسية في كل مجالات المعرفة بالإنسان والطبيعة والعلاقات بينهما بواسطة البحث التنظيري والبحث التطبيقي، ولذلك فإن البداية في تلك المباحث تتطلب تحديد دلالات المفاهيم والمصطلحات وفي مجالات انتشارها في الذهن والواقع.
بوجه عام نجد الاستعمالات الكثيرة لكلمة حضارة في ثلاث مستويات:
❊ أولهـــــا: المعنى الشائع عن المتحضّر من الأفراد والشعوب في مقابل غير المتحضّر أو البدائي أو المتوحّش، ومن الواضح أن هذا المعنى يحمل حكم قيمة ويستند إلى مقاييس يضعها طرف واحد يعتبر نفسه الأرقى كما هو الحال في دراسات ليفي برول Levy brouhl عن العقلية البدائية mentalité primitive
أو في الدراسات الميدانية للباحثة في الانثروبولوجيا الثقافية روث بينديكت R.Benidect عن الأنماط الثقافية Patterns of culture، وأبحاث تايلر Taylor عن قبيلة البوشمنوالدنكا في السودان.
❊ أما المعنى الثاني للحضارة فهو يرتبط بأشكال التعبير عن الحياة الاجتماعية عند أية أمة، ويدخل في أشكال التعبير العقيدة والعرف وتنظيم العلاقات داخل المجتمع ومؤسساته الرمزية أو التي تمارس السلطة، وكذلك العلاقات مع الطبيعة، وبهذا المعنى تعتبر تلك الأشكال ظواهر حضارية، فإذا تجسّدت في مؤسسات ومنتجات معنوية أو مادية فإنها تسمى منجزات حضارية.
❊ أما المعنى الثالث فهو يشمل الخصائص والسمات التي تشترك فيها مجموعة من الشعوب أو الجماعات في مرحلة ما من تاريخها وتميزها بمشتركات يمكن التعرف عليها عند مقارنتها بشعوب أو جماعات أخرى بالمعنى الواسع لكلمة حضارة، غيـر أنّـه في كـلّ الحضـارات ثقافـات فرعيـة - Subculture - (وكلمـة فرعيـة لا تعنـي التقليـل مـن شأنهـا وهـي تسميـة أفضـل مـن مقابلـها في اللغــة الفرنسيـة Sou culture  أو الإنكليزية subculture وقد تعني في اللغة العادية الدونية) داخل المجتمع الواحد وفي الوسع   - Air - الحضاري الشامل يطلق عليه الخصوصية المحلية أو الوطنية.
وقد اقترح عالم الاجتماع  ليفي ستراوس Levy Strauss تعريفا شاملا للثقافة، فهي في نظره مجموعة من الأنساق الرمزية في مقدمتها اللغة وقواعد التنظيم العائلي والعلاقات الاقتصادية والفنون والعلوم والدين.
وسواء رجعنا إلى المعنى الاجتماعي الثاني أو المعنى التطوري الثالث، فإنّ في مدلول كلمة حضارة معنى أوسع من ثقافة ويطلق عليه في اللغة الألمانية Bulding، وتعنى الحصيلة لمجمل التراكمات الثقافية للحضارة وتوحّد بين الكلمتين في الكل الاجتماعي والمنظور التاريخي، ويمكن القول بأنّ الثقافة والحضارة هما دائما حالة تجاوز لحاضر قد يصبح ماضي إلى مستقبل تقدّر قيمته بما يضيفه لمكانة الأمّة وسعادة الانسانيّة من ذخيرة ماديّة ومعنويّة.

التّغيّر والسّكون والسّمات الظّاهرة
أيّا كان مجال انتشار المفهومين السابقين، فإنّه يمكن لهدف إجرائي اعتبارهما معا الجذع المشترك لمرجعية متعددة الأبعاد روحانيّة ماديّة وسلوكيّة عند أغلبيّة من الجماعات البشرية في مجال جغرافي،  تمارس تلك المرجعيّة على الأفراد والجماعات جاذبية يتحقق بها الانتماء الخاص للقبيلة  أو الجماعة الأكبر (الوطن)، والانتماء العام في بعده التاريخي الذي تشترك فيه عدّة شعوب: الهندوس، البوذيون، المسلمون - المسيحيون، وكذلك المذهب السياسي السائد مثل الليبراليون الشيوعيون أو حتى لون البشرة مثل وصف قسم كبير من إفريقيا بالسوداء، وتمييز الأمريكيين من أصل إفريقي بوصفهم بالسود أو الملونين الأمريكيين بغض النظر عن الميزات الأخرى لكل مجموعة سكانية.
ومن الواضح أنّ الانتماء العام في بعديه السابقين لا يعني أن الجماعات الصغيرة والأوسع في حالة سكون وثبات، فالتغير فيها حالة دائمة، قد تتسارع فتؤدي إلى أشكال من الصراع داخل النخب وقلق وحيرة ومخاوف لدى شرائح من المجتمع، وتسفر عما يسمى الثورة الاجتماعية وخلخلة منظومة القيم، وقد تتباطأ سرعتها بين جيلين أو عدّة أجيال إذا بقيت النواة المركزية في حالة ثبات نسبي، أي أن التحوّلات تحدث في محيطها، كما هو الحال في العقائد الدينية الثابتة والظواهر المرافقة لها والتي قد تتغير وفق الزمان والمكان.
من الملاحظ أن هناك توصيفات يكثر تداولها بين عامة الناس، وحتى بين الدارسين غير المختصّين في الحضارة وفلسفة التاريخ، تتمثّل في انتقاء صفة غالبة على حضارة أمة أو منطقة بأكملها تختزل فيها كل الجوانب الحضارية الأخرى، فيوصف غرب أروبا بأنّه حضارة المكننة (Machinisme) أو حضارة السمعي البصري أو حضارة الترفيه، وأيا كانت الصفة التي تطلق على حضارة أمة، فإنّها توجد دائما في حالة تطور دائم وتأثّر وتأثير يتفاوت في الشدّة والسرعة حسب الزمان والمكان، وعوامل أخرى مثل الحروب والتجارة والهجرة والكولونية الاستيطانية، التي أدّت إلى محو أو تجميد ثقافة واستبدالها بأخرى كما هو الحال في شمال أمريكا وأستراليا وجزر الكراييب على سبيل المثال.
ومن المعروف أن تطوّر وكثافة وسائل الاتصال والإعلام وخاصة منذ أواخر القرن الماضي قد أدّت إلى عولمة ثقافية واٌقتصادية ونمذجة جعلت من أسلوب الحياة في بعض البلدان المهيمنة في شمال العالم النموذج الأرقى، لأنّه لا يوجد بديل يتفوّق عليه ثقافيا، وهو مؤسس على قاعدة تكنولوجية لا يوجد مقابل قادر على منافستها أو تحقيق حد أدنى من الاستقلالية عن تقاناتها savoir-faire والقدرة على الانتشار خارج الحدود، وما يعرض من تراث في مناسبات للتبادل الثقافي أو الإشهار السياسي يتمثل في الأغلب في الصناعات التقليدية والفنون التقليدية المتصلة بالحياة الريفية وثقافة الشعب العفوية Falkways (الأرتيزانا)، وهي كلها بالتأكيد جزء ثمين من التراث ينتسب إلى القديم ويعبّر عن إحدى مراحل التطور الحضاري، لا ينفي هذا الوصف ما فيه من جماليات فنية في الصناعات الخاصة بالحياة اليومية أو الشواهد الباقية من العمران.
وقد اهتم بعض الباحثين الجامعيين بمسألة التغير الاجتماعي واجتهدوا في الإجابة على سؤالين هما: كيف يحدث التغير؟ ولماذا؟ أي ما هي العوامل المؤثرة في الحالة الجزائرية بوجه خاص. من بين تلك الأبحاث دراسة حجيلة رحالي من جامعة محمد خيضر – بسكرة 2010 - أرجعت الباحثة ظواهر التغير إلى طوفان العولمة باعتبار أن مصدرها أجنبي يعيد تشكيل الاقتصاد، وبالتالي يؤثر على عالم الشغل والتنظيم الاجتماعي بكامله، فهي إذن ترجع التغير الثقافي ومرجعياته القيمية إلى عامل خارجي واحد هو تأثيرات العولمة، غير أن للتغير الاجتماعي في الجزائر عوامل أخرى لا تقل أهمية، وتمتد على مراحل زمنية طويلة ظهرت جلية بعد الاحتلال الكولونيالي، وتواصلت إلى اليوم في صورة العائلة النووية والحضرنة urbanisation والهجرة، ووسائل الاتصال السمعي البصري والتعليم وخاصة للبنات في المدن والأرياف، والارتفاع النسبي للدخل الفردي والآثار الخطيرة لمحنة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، التي أدت إلى خلخلة البنية الاجتماعية ومرجعياتها الثقافية وخاصة في معطياتها الدينية.
كما نشر الباحث دحو جربال بحثا بعنوان: «التغير في القيم والإيديولوجيات في المجتمع الجزائري»، Le changement des valeurs et des»  idéologies dans la société algérienne»، نُشر في يناير، جانفي من هذه السنة 2016 ضمن ملف الفضاء الأروبي المغاربي: المجتمع والثقافة في الفضاء المغاربي، خصّصه الباحث لدراسة تحليلية تاريخية اجتماعية سياسية للتحولات التي شهدتها الدولة والمجتمع في بداية الاستقلال من التخلص السريع من التركة الكولونيالية، وخاصة في عالم الفلاحة بعد التأميمات السريعة لأملاك الكولون وتحرير الفلاحين من وضعية الخماس الذي يتقاضى أجره من 5 / 1 المنتوج الزراعي، وانتقال سكان الريف من وضعية ما تحت البروليتاريا (sous prolétaire) والاكتفاء الذاتي إلى الاقتصاد النقدي والهجرة الداخلية إلى المدن، وظهور القوة العمالية المرافقة لتلك التحولات في إطار التوجه الاشتراكي لتلك المرحلة.
ويشير الباحث إلى أن فشل نموذج التصنيع الجزائري في نهاية عشرية السبعينيات قسم عالم الشغل إلى قطبين، الأول متشبّع بقواعد وقيم عالم الشغل الأروبية الموروثة عن مرحلة ما قبل الاستقلال، والثاني متمسك بطرق وأنظمة العمل المستجدة بعد الاستقلال، كما هي فيما يسميه الباحث خطاب الحزب الدولة والدولة الأمة.
ومن بين التحولات الهامة في رأيه تزايد الأزمات وظهور الحركات الثقافية المرتبطة بالهوية culturo-identitaires
في علاقتها بنظام التعليم القائم على التلقين والطريقة البافلوفية Pavlovienne، غير أن أهم تغير ظاهر للعيان هو تزايد عدد البنات في كل مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعة في وقت قصير نسبيا، والبنات اليوم أكثر عددا من الذكور في كل تلك المراحل، كما أن نسبة كبيرة من المجتمع انتقلت من الثقافة الشفهية oralité إلى المكتوب والمقروء.
غير أن رد الفعل جاء من الحركة البربرية في صورة احتجاجات على الإيديولوجية الرسمية التي لخّصها الإمام عبد الحميد بن باديس في ثلاثيته الشهيرة الإسلام ديننا العربية لغتنا الجزائر وطننا، تمثل الرّد في تصحيح التاريخ والاهتمام بجزائر ما قبل الإسلام، وإحياء اللغة الأمازيغية والدعوة لجمهورية لائكية، وسوف نخصّص فيما يأتي من هذه الورقة تحليلا لاستغلال خبراء الكولونيالية لبعض هذه المطالب المشروعة.
غير أنّ أخطر زلزال أصاب الدولة والمجتمع هو رد فعل آخر هو الإيديولوجية المتطرفة باسم الإسلام التي استندت إلى الجمهور الواسع، وبينما كان الخطاب الثقافي بشعاراته التي أشار إليها الباحث تضعها وتروّجها النخبة المثقفة، فإن خطاب وشعارات البديل الإسلاموي يروّج له بين عامة الشعب في الأحياء الشعبية ومناطق الريف التي تعاني من الفقر والبطالة والتهميش.
إنّ التّحليل المعمّق للأستاذ دحو جربال يقوم أساسا على منطلقات سياسية ومفاهيم إيديولوجية مستمدة من التنظير الخاص بمجتمعات العالم الثالث، وبالنقد الموجه سابقا للمنظومة الاشتراكيةعن الحزب الدولة ومركزية الدولة والخطاب الأحادي، وبالنسبة للمجتمع والدولة في الجزائر فلكي يقترب التشخيص والتوصيف والتحليل من حركية الواقع فإنه من المفيد، بل من الضروري أن نعتمد على التجربة التاريخية في مجتمع عاش بلا دولة، وبقيت أغلبية مؤسساته التقليدية فعالة إلى حد بعيد، وهو في آخر خطوطه الدفاعية وحرم من تحديثها ورفض التحديث المغشوش لهدف الإخضاع والإلحاق، وعلى أي حال ففي مجالات البحث الاجتماعي فإن كل مقاربة اجتماعية هي بلا ريب إضافة مفيدة إذا تحررت من الانغلاق الإيديولوجي.
«يتبــــــع»

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024