عندما نناقش الحقبة الاستعمارية التي سادت العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة (من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين)، فإن هناك مصطلحات ومفاهيم عديدة ترتبط بها، نظرا لكونها حالة من الاستعلاء العسكري والسياسي على شعوب العالم الضعيفة الفقيرة من أجل استغلالها اقتصاديا، الأمر الذي يستدعي إسقاط هذه الشعوب في حالة من التبعية والانهزامية والاستسلام، كي يترسّخ في وعيها النهائي أن من حقّ الرجل الأبيض السيطرة عليها لتفوقه وتقدمه، وأن احتلاله لأرضها جاء بسبب حالة ضعفها الشديد حضاريا وثقافيا وعسكريا وتقنيا، ولا فكاك أمامها إلا الرضوخ واتباع خطوات المستعمِر، لعلها تلحق به يوما أو تقارب مسيرته.
يمثّل مصطلح الهيمنة Hegemony ارتباطا بفكر الاستعمار Colonialism في دلالته على التسلّط من قبل فئة / طبقة/ جماعة / دولة / ثقافة، على من هم أدنى أو أقل منها، أو يتحكمون فيها. فالاستعمار الغربي كان في أقل توصيف له هيمنة على الشعوب الضعيفة، والتحكم في مقدراتها، ونهب ثرواتها، والسعي للسيطرة المطلقة على مصائرها، وأيضا محو هويتها، والتحكم في ثقافاتها.
لذا، فلا غرابة أن يكون هذا المصطلح أحد المفاهيم الأساسية لآداب ما بعد الاستعمار Postcolonial literature، من خلال تركيزه على البعد الثقافي / الفكري، في وصف نجاح القوى الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، ضد الشعوب المستعمَرة، وفي تبيان مظاهر قمعها النفسي والفكري كي تمتنع عن التفكير في حق تقرير المصير، وهي الفكرة المهيمنة على أي شعب يسقط تحت نير الاستعمار. وكانت مسوغات الاستعمار عددا من الشعارات الأساسية تظهر في قيم ومبادئ عادة من مثل: الحفاظ على النظام الاجتماعي، والاستقرار، والتقدم؛ مصحوبة باستدعاء الخطاب الإمبريالي الذي يتمّ فيه تسويق القيم والافتراضات الفكرية والعقائد والسلوكيات الأوروبية، فيما يسمى «الاستدماج الإيديولوجي»، والذي تمّ عبر وسائل عديدة، منها التعليم والإعلام والأدب، وكلها تأتي محملة برؤى ظاهرة ومبطنة، لصالح الاستعمار، وتتسلل إلى الوعي العام لدى الشعوب المستعمَرة، فلا فكاك إلا الاستسلام وتقليد المستعمر، أي استمرار الهيمنة من خلال تبعية الشعوب.
سنلاحظ انتقال مصطلح الهيمنة من دائرة الاستعمارColonialism وهي دائرة تحمل أبعادا عسكرية وسياسية واقتصادية بحكم طبيعة دلالة المصطلح نفسه؛ إلى دائرة الآداب ممثلة في أدب ما بعد الاستعمار؛ لتكون مقتصرة على البعد الثقافي/ الفكري / الأدبي، وكي نستطيع قراءة آداب ما بعد الاستعمار في دائرة واسعة، تأخذ في طياتها السياقات والعوامل التي كوّنت هذه الآداب ومسبباتها.
أيضا، فإن مصطلح الهيمنة، لا يمكن فصل تشابكاته الفكرية والثقافية عن المركزية الأوروبية Euro Centrism، والتي هي العملية الواعية أو غير الواعية التي من خلالها تشكّل أوروبا، والافتراضات الثقافية الأوروبية بوصفها المألوف أو الطبيعي أو العالمي، كما تشمل معايير في النظر إلى العالم والتاريخ، وبمفاهيم مثل العالمية الأدبية، وتفسيرات جازمة للتاريخ من وجهة نظر المنتصرين، ووضع معايير أوروبية للحكم على التاريخ والحضارة، وهي حاضرة أيضا في ممارسات وافتراضات مسيحية عبر التعليم والنشاط التبشيريين، وممارسات أخرى ثقافية.
فمن الطبيعي تسويق المركزية الفكرية الأوروبية، ضمن الهيمنة الاستعمارية لأسباب عدة، أبرزها: أنها نتاج للحركة الاستعمارية الأوروبية، وأن الاستعمار الأوروبي حرص على تسويق نموذجه الحضاري إلى الشعوب المستعمَرة، لمزيد من السيطرة النفسية والثقافية عليها، ومن أجل تبرير دعاواه المتعددة بأنه صاحب رسالة سامية للشعوب المتأخرة، ممثلة في نشره التقدم والحضارة والتنمية.
وللأسف، فإن جهود الاستعمار، ومن خلال مؤسساته التعليمية والإعلامية، نجحت في إيجاد فئات من أبناء الشعوب المحتلَّة، تشبعت بأفكاره، وواصلت تعليمها في جامعاته، وعادت لتبرز في مجتمعاتها مكانة الريادة وفق العقلية الاستعمارية.
وذاك هو السقوط النفسي الحضاري، والذي ينعته المفكر الجزائري المعروف «مالك بن نبي» بـ : معامل القابلية للاستعمار»، ويعرّفه بأن السلطة المستعمِرة تتعمد أن تضع الشعوب المستعمَرة في نطاق ضيق، تمنع عنها أي تقدم أو إظهار للمواهب والقدرات، مما يجعل هذه الشعوب راضية بهذا المسار، ويترسخ فيها إحساس الكائن المغلوب على أمره، وينعكس ذلك على حالة الناس، ليصبحوا في حالة من الفقر والجهل، تغمرهم الأوساخ، ويغيب عنهم الذوق الرفيع، وتعمّ فيهم دناءة الأخلاق، ليظل الرجل الأبيض عنوانا -وعلامة ومثالا -على التقدم والنظافة والرقي والتحضر والذوق، وأنه يستحق أن يكون مستعمِرً.
وهو ما نجده جليا في التصورات التي حملتها الآداب المختلفة، والتي صورت المستعمر في حالة من السمو الحضاري والاجتماعي وأنه يقدم دوما العلم والطب والتقنية والابتكار، بل ورسخت نظرة المستعمر نحو العادات والقيم والدين والأخلاق والحب والنظرة إلى المرأة، كما يقدم متعلمي الاستعمار على أنهم راقون متمدينون.
وبالطبع لم ينتهِ الأمر مع رحيل الاستعمار في «مرحلة الاستقلال والتحرر الوطني «، ذلك أن كتابات ما بعد الكولونيالية تشير بوضوح إلى أن جلاء المستعمر تم بعدما أدرك حجم الفاتورة العسكرية والسياسية التي يتوجب عليه دفعها في احتلاله للشعوب، مفضلا في الوقت ذاته أن يستمر الاحتلال والهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وفكريا وثقافيا، من خلال أتباع / أذرعة الاستعمار المحلية والتي تمّ تشكيلها غربيا في لغتها وتصوراتها الدينية والثقافية والفكرية، مما يستلزم تسليط الضوء على ما قامت به هذه الأذرع، بعد جلاء المستعمر، وكيف أنها واصلت نشر الهيمنة الاستعمارية الشعورية ونشر ثقافة المستعمِر، من خلال الأدب والفكر والإعلام، ويتوجب في المقابل وضع منهجية لكشف هذا الاستعلاء وفضحه وتقويضه.
ومن هنا، فإن الامتداد الزمني لآداب ما بعد الاستعمار يبدأ مع الحقبة الاستعمارية ذاتها، من خلال جدليات ثنائية: الذات والآخر، والمستعمِر والمستعمَر، الشرق والغرب، وتستمر إلى يومنا، في ضوء اتخاذ الاستعمار صورا عديدة، لمواصلة الهيمنة على الشعوب، وآخرها ظاهرة العولمة Glbalization.
ويتبع مصطلح الهيمنة مصطلح آخر وهو الهجنة Hybridization « والمستمد من حقل علم الوراثة، ويعني الاختلاط بين جنس وآخر، ولكن دلالته تحورت في دراسات ما بعد الكولونيالية إلى عملية اختلاط الثقافات وتمازجها من تفكيك المركزية الأوروبية، وتجاوز الفكر والذات الاستعلائية، فمن المهم مواجهة الذات الاستعمارية ثقافيا، مثلما تمت مواجهتها ومقاومتها عسكريا . فـ»الهجنة» تعني ذلك الفضاء الذي يحمل المعاني والآثار الثقافية، وفيه أيضا آثار المعاني والهويات الأخرى، فهناك هجنة وتقارب وتلاقي بين الثقافات، ولا يوجد ثقافة نقية خالصة..
كما تدل ـ كذلك - على خلق كيانات وأشكال تثاقفية داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه المستعمر، ويستخدم التهجين سبلا كثيرة: لغوية، ثقافية، عرقية، سياسية.. إلخ، وتتحرّك في فضاء مزدوج ومتناقض لأنه مزيج من ثقافة المستعمِر والمستعمَر، فهو فضاء الـ»ما بين» الذي يحمل عبء الثقافة ومعناها، كما أن الهجنة تخفي محاولات لتأكيد التبادلية الثقافية في العملية الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، ويصاحبها تعبيرات مثل: التوفيق بين المعتقدات والتآزرية الثقافية والتثاقف، وتطرح نقاشات حول طبيعتي التبادلية الثقافية والهرمية للإمبريالية وفكرة التبادل المتعادل.
وبعبارة أخرى، فإن الهجنة هي عبارة عن نقاط التقاء بين المستعمِر والمستعمَر، في مساحات ومناطق عديدة، يتقدّمها الإنسان، من خلال ذوات تعلمت في بلاد المستعمر، ثم انتقدت المستعمر بلغته، وكتبت إبداعات أدبية وفكرية بلغته، والعكس قائم أيضا، فهناك ذوات استعمارية تعلمت وأتقنت لغات المستعمرات، وعرفت عادات أهلها وثقافاتهم، وبعضهم توحّد معهم فكريا وثقافيا، وتبنى قضاياهم، وناصرها، وبعضهم كان جسرا بين الثقافتين، وآخرون منهم، كانوا وبالا على المستعمرات.
وهناك أيضا نقاط التقاء مكانية تتمثل في المؤسسات التعليمية والإعلامية والفكرية ومراكز البحث، وأيضا هناك أحياء ومدن كانت بمثابة ساحات للتلاقي أو للصراع بين المستعمر وأبناء المستعمرات، وكلها كانت سبلا للتبادل الثقافي بدرجاته، وأيضا في الآداب نفسها، بكافة أشكالها، سواء كتبت بلغات المستعمر أو المستعمرات.
فعلى صعيد السرد، نجد الروايات التي تناولت الحقبة الاستعمارية، والتي كتبها مبدعون من العالم الثالث / الدول المستعمَرة سابقا أو حتى من الدول الاستعمارية ذاتها، عن واقع الحياة والاستعمار في هذه الشعوب المستضعفة، وقد شكلت تبادلا ثقافيا، من كونها معبرة عما يسمى مناطق اتصال Contact Zones، وكانت ظاهرة تستدعي البحث ضمن أطر من التأثر والتأثير الثقافي، في فضاءات اجتماعية متصارعة وغير متماثلة، كانت يوما ساحات للالتقاء والصراعات والكراهية، رأينا فيها ألوانا من الهيمنة والاستضعاف والتبعية من المستعمر والمستعمرين، كما أن هذه الشعوب عانت من تداعيات الانفصال الجغرافي والتاريخي عن العالم من حولها بحكم الجبرية والتحكّم والهيمنة الاستعمارية، كما عانت من غياب المساواة والعدالة، ولكن من المسلَّم به وجود حالة الاتصال والتأثير والتفاعل، أيا كانت أشكالها ومستوياتها، ضمن أنظمة وبنى من السيطرة والهيمنة.
فقد عبرت الروايات ومختلف أشكال السرديات التي تناولت الحقب الاستعمارية، في طيات أحداثها وشخصياتها وأفكارها عن ممارسات استعمارية بغيضة ومدانة إنسانيا وفكريا، ولكنها في الوقت ذاته، شكّلت مناطق اتصال وتلاق اجتماعيا وثقافيا، لذا، فمن المهم دراستها والتعمق فيها، من أجل مزيد من الفهم الثقافي والإبداعي والاجتماعي.
فالآداب ما بعد الاستعمارية هي بمثابة أجنحة موازية للتاريخ المدون سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، لأنها تصوغ في نصوصها ألوانا من الواقع الاجتماعي الذي عاشته المستعمرات، وأشكالا من الهيمنة الثقافية، فتكون بذلك رديفا موازيا، وموثّقًا، عن الوقائع التي رصدها الأدباء والمثقفون عن الحقبة الاستعمارية وما بعدها.
فقد ساهمت آداب ما بعد الاستعمار في كشف الكثير من ثقافات الشعوب البدائية أو المجهولة أو البسيطة، ولننظر إلى قارة أفريقيا مثلا، والتي رزح فيها ثلاثة وخمسون بلدا تحت الاحتلال الأوربي، وتحوي على أرضها ثمانمائة جماعة مختلفة في أعراقها ولغاتها وثقافاتها وتاريخها ودياناتها، وهذا ما أظهرته هذه الآداب، جنبا إلى جنب مع أشكال المعاناة والقهر والدماء والاستعباد التي عاشتها هذه الشعوب. فسرديات ما بعد الاستعمار تناولت مأساة العبيد الذين خُطِفوا في غارات على القبائل في الساحل الإفريقي الغربي ونقلوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على مدار مئات السنين..
كما نرصد - على الجانب الآخر - التغيرات التي حدثت في هذه الشعوب على مستوى الهوية والثقافة واللغة، حتى بعد جلاء المستعمر، ولذا فإن آداب ما بعد الاستعمار تساهم في المناقشات ذات الصلة عبر التحليل الأدبي لنصوصها، في عمليات التحليل الثقافي، والنظر في متغيرات الهويات الوطنية للشعوب المستعمرة.
فهذا كله، يثري الثقافة والفكر، ويغذي مجالات خصيبة في علوم الأنثربولوجيا والاجتماع والثقافات، من خلال نصوص الإبداعات السردية المعبرة عنها، مما يجعلنا نشعر بأهمية القراءة الثقافية لهذه الشعوب وما مارسه الاستعمار فيها من مآسٍ، كما يجعلنا نقرأ تاريخ هذه الشعوب والجماعات بعيدا عن القراءة الاستعمارية لها.