في القاموس العربي تعدّدت مسميات الخائن بل وتداخلت حدود جغرافية الخيانة وتضاريسها، فهناك العسس والعيون والجواسيس والخونة والعملاء والمندسين ممّن يعملون في الاطارين الداخلي والخارجي، لكنّي أود التمييز بين اطارين عامين للخيانة هما الخيانة الذاتية والخيانة الموضوعية:
فالخائن الذّاتي هو موظّف رسمي يعمل بشكل سري لصالح جهة معادية، ويتقاضى عن ذلك مردودا ماديا (بالمعنى الواسع للمادية)، ويموّه سلوكه ونشاطاته للتضليل، أما العميل الموضوعي فهو شخص وطني ومخلص في عمله لكن محصلة قراراته تخدم العدو وربما أضعاف خدمة الجاسوس.
إنّ نقل الجاسوس الذاتي معلومات لمن يعمل لصالحهم أمر خطير، لكن كثيرا من الوطنيين الصادقين انتهوا بسياساتهم «الوطنية» والغبية في نفس اللحظة إلى نتائج فيها من الأوزار عشرات أضعاف نتائج العميل الذاتي ولنتأمّل:
1- إنّ الديكتاتور أو الطاغية يحرم الدولة والمجتمع من مساهمة المفكرين والخبراء وقادة الرأي والقوى المنظمة في وضع الخطط والتصورات إلا من خلال الثقب الذي يرى منه ذلك الطاغية، فننتهي الي سياسات اقتصادية او عسكرية أو أمنية أو اجتماعية كارثية تفوق كثيرا عواقب معلومات سربها الجاسوس الذاتي، ودعوني أعطي مثالا، لا يساورني أدنى شك في وطنية العديد من الزعماء العرب، لكن طغيانهم ونرجسيتهم المرضية وأحيانا جهلهم أودى بدول عربية لدمار شامل يعجز عن انجازه آلاف العملاء الذاتيين.
2- إذا كان الحاكم الطاغية يوصلنا إلى ما أشرت له في النقطة السّابقة، فماذا سيكون عليه الوضع لو كان الطاغية:
أ- تيارا سياسيا ربط الحياة «بأمْراسِ كتانٍ الى صُم جَندَلِ».
ب- منتجا سينمائيا لا هم له إلا إشعال الغرائز.
ت- أكاديميا شهادته مسيجة بعلامات الاستفهام.
ث- خطيبا دينيا يغلب على مستمعيه شرود الذهن خلال خطبته.
3- عند انتهائي من دراستي لمؤشرات ترتيب الدول العربية - التي نشرت مؤخرا - في المجتمع الدولي تبين لي أن العالم العربي تراجع خلال فترة العشرية الماضية قياسا للعشرية السابقة عليها في 413 مؤشرا للقياس بمعدل 47,6 %، فهل تم هذا بفعل الخونة الذاتيين أم بفعل تكاتف بين الخائن الذاتي والخائن الموضوعي؟
4- وتزداد الأمور قتامة عندما تكون السلطة مجرد «وكيل لقوة دولية»، هنا يتم تحويل الدولة إلى دولة «عميلة بكاملها ذاتيا أو موضوعيا»، وكثيرا ما موّه الوكيل نفسه بعباءة النزاهة والشرف والعقلانية ويتم تطريز العباءة بالأهازيج والأغاني والقنوات الفضائية المموه بالدين أو المذهب أو القبلية أو حتى بتمجيد الحيوانات المنوية التي لا تنتج إلاّ حكاما.
أخيرا: أدرك أنّ عالم السياسة وتشابك العلاقات الدولية يحتمل الخطأ في الحساب، لكن أن يصر المخطئ على أن خطأه هو عبقرية تقصر أذهان القطيع عن إدراكه..فهذه هي الخيانة العظمى...