لعل الاتكاء على النصوص الدينية «للتنبؤ بالمستقبل» غير مقتصر على الديانات الإبراهيمية فقط، فحتى الديانات الآسيوية تنطوي على نبوءات وإن كانت تتميز بأنها مشروطة (إذا – فإن)، كما أنها أقل عناية بالتنبؤات الخاصة بالنصر والهزيمة والتطور والتراجع، إلى جانب أنها أقرب للتنبؤات الخاصة بالوحدات الاجتماعية الصغيرة (الفرد، الأسرة).
وبحكم عنايتي بالدراسات المستقبلية، حاولت تتبع «تقنيات التنبؤ» في الأديان، من حيث كيفية وضع الفرضية، ثم كيف يتم برهانها، وصولا لبناء تطورها على أساس فهم حركية الظاهرة موضوع البحث، وأخيرا التنبؤ بها.
وما لاحظته في التنبؤات الدينية السياسية (عند اليهود والمسلمين والمسيحيين)، أن كلا منهم يطوع النص لرغباته وميوله، وهو بهذا يظلم النص الديني. وسأعطي بعض الأمثلة من الأديان الإبراهيمية على التحايل المعرفي والمصالحات الذهنية.
ففي قضية التنبؤ بانهيار إسرائيل عام 2022، والتي وجدت صدى كبيرا في مجتمعات جوعى للنصر، تتبعت تقنية التنبؤ، وجدت أن الأمر مرتبط بما يطلق عليه «بالإعجاز العددي». ويرى صاحب الفكرة أنه- على سبيل المثال - وجد تطابقا بين عدد الكروموسومات للنحل وترتيب سورة النحل في القرآن (كلاهما 16)، فبحثت من جانبي- بالمقابل- عن عدد كروموسومات البقرة فوجدتها 60، وترتيب البقرة في القرآن رقم 2، ولا يتطابق ترتيبها ولا عدد آياتها ولا حروفها ولا كلماتها مع الرقم 60... وهنا المشكلة ليست في النص، بل في منهجية تطويع النص لمصادفات رقمية. ولكننا إذا نقلنا هذه المصادفات الرقمية لجعلها قاعدة منهجية، لا نجد الأمر قابلا للتطبيق، وهو ما أراه تشويشا على النص، ثم إن العدد لا دلالة له مفصولا عن السياق، فالنبي موسى تم ذكره 136 مرة في القرآن وهو الأكثر ذكرا مقارنة بالأنبياء الآخرين، وهنا يمكنك أن تترك لخيالك المجال ليركب استنتاجات كثيرة، فنقول إنه ذكر 136 مرة في 34 سورة. ولو قسمنا 136 على 34 يكون الجواب 4 مرات وهو عدد أحرف اسم موسى... ولو أضفنا 4 الى عدد الأسباط وهم 12 يكون المجموع 16، ولو جمعنا من 1-2-3-4-5-6... إلى رقم 16 سيكون المجموع 136 وهو يشمل النبي موسى وكل اليهود... وهكذا يمكن توليد نتائج رقمية لا تنتهي، ثم البحث عن وقائع ولصقها بما وصلنا له.
وبالمقابل، نجد الأمر كذلك عند اليهود والمسيحيين، ففي سفر حزقيال نبوءة مزدوجة لشعب إسرائيل. ففي الجزء الأول، يخبر الله الشعب اليهودي أن الأرض المخصصة لهم ستبقى مقفرة ما دام يحتلها الغرباء وما دام اليهود في المنفى. وهكذا يصفها النص بأنها كانت - أرض قاتمة وقاحلة وغير مطورة - لأكثر من 2000 عام. وفي النصف الثاني من النبوءة، يصف الله علامات الفداء الأولي – بأن مظهر الأرض سيختلف قبيل عودة الشعب اليهودي، بدأ هذا الجزء من الوعد يتحقق أيضًا خلال العقود التي سبقت قيام الدولة اليهودية في أرض إسرائيل. ويضيف التنبؤ هذه هي دولة إسرائيل، المشار إليها في صلاة يهودية على أنها «أول ازدهار لخلاصنا». من سبات النسيان العميق في غياب أبنائها وبناتها، استيقظت الأرض أخيرًا، فالنص هنا يعني أن النبوءة تحققت...
وفي الرؤيا رقم 12 نجد الإشارة إلى: «آية عظيمة في السماء، وهي امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت قدميها وعلى رأسها إكليل من 12 نجمة»، وقد فسرها الكاثوليك والعديد من اللاهوتيين أن المرأة في هذا المقطع هي الكنيسة، بينما فسرها الحاخامات وبعض الأنجليكان المسيحيين بأنها إشارة إلى إسرائيل، ووافق ذلك آخرون لكنهم رأوا أن ذلك كان في الماضي وليس المستقبل، وأن الشمس تشير هنا إلى يعقوب والقمر إلى زوجته راحيل والنجوم الاثني عشر هي إشارة الى أبناء يعقوب 12 والى 12 قبيلة من قبائلهم، وبالتالي هي وصف واقع وليس تنبؤا.
ويذهب كتاب ديفيد ريغان (David Reagan) وعنوانه (Israel in Bible Prophecy)، إلى تقسيم كتابه (255 صفحة) الى سرد التنبؤات الواردة في التوراة حسب التسلسل الزمني والتي يرى انها تحققت او في طريق التحقق وهي:
أولا: تنبؤات أشارت لها التوراة قبل وقوعها، لكنها تحققت بعد ذلك (في الماضي):
أ- تشتت اليهود في جميع أنحاء العالم.
ب- اضطهاد اليهود بلا هوادة.
ج- الحفظ الإعجازي لليهود.
د- خراب أرض إسرائيل.
ثانيا: تنبؤات واردة في التوراة وتحققت حاليا (خلال العصور الحالية):
أ- لمّ شمل الشعب اليهودي.
ب- إعادة قيام دولة إسرائيل.
ج- إحياء اللغة العبرية.
د- - استصلاح أرض إسرائيل.
هـ - انبعاث الجيش الإسرائيلي.
و- إعادة احتلال مدينة القدس.
ز- إعادة تركيز السياسة العالمية على أمة إسرائيل.
ثالثا: تنبؤات في التوراة ستتحقق في المستقبل:
وتتركز هذه على ظهور المسيح المنتظر (أو الماشيح أو المسيا) ليملأ الأرض عدلا ويلمّ شتات اليهود ويعيدهم لأرض الميعاد...
ولن أناقش تنبؤات الماضي والحاضر، ولكني أتساءل مع ألكسندر دوغين، كيف سيأتي»المسيا» ليعيد اليهود الى «أرض الميعاد» وهم الأن فيها... أي أنهم تجمعوا فيها قبل ظهوره، وهو ما يخالف النص التوراتي، فالحدث وقع قبل وصول صاحب الحدث، فهم رجعوا قبل إرجاعهم (حسب نصوصهم)؟؟ فهل هذا تنبؤ غير دقيق؟؟
أرى ضرورة الابتعاد عن النصوص الدينية للتنبؤ في الشأن اليومي السياسي (أو غيره من الشؤون الدنيوية العامة)، لأن في ذلك توريط للنص، ولا يصلحه «عبارة آسف»...
فالدراسات المستقبلية بمعناها العلمي، يجري تدريسها في جامعات ومعاهد جميع الدول الصناعية دون استثناء، إلى جانب 43 دولة نامية (ليست الجامعات العربية ضمنها)، بل إن بعض الدول الغربية أحدثت دوائر وزارية للدراسات المستقبلية... هذا العلم له أصوله وصعوباته وتقنياته الكمية والكيفية. وتشير الدراسات المتتبعة لهذا العلم، أن نتائجه تعرف تحسنا ملحوظا ومتزايدا مع تطور تقنياته وتزايد خبرة العاملين فيه. ومن خلال اطلاعي على الخطط الدراسية لهذا التخصص في عدد من الجامعات المرموقة، يتم تدريسه استنادا إلى فروع أربعة هي تقنياته الخاصة (وهي الآن 28 تقنية والبعض يفرعها الى أكثر أو يدمج بعض التقنيات ببعضها)، ثم ثانيا علم الإحصاء (ليس كله بل ما يخدم التنبؤ)، وثالثا علم المنطق بأشكاله الستة (الرمزي والمشروط والرسمي وغير الرسمي والرياضي أو المعاصر)، ثم رابعا نظريات الميدان الذي يريد الدارس أن يتخصص فيه (العلاقات الدولية، علم الاجتماع، العلوم الطبيعية...إلخ).