التطرّف المناخي

البحــــث عـــن المهــد البيئـــي الأوّل

عـــادل بلغيـــث

نوعٌ آخر من التطرّف بدأت المخابر العلمية تتداوله بجدية، أعتقد أنّه سيتصدّر مستقبلاً كلّ أنواع التطرّف.. هو «التطرّف البيئي»، العدو الّذي لن يرحم إنسانًا دون غيره،، ولا بلداً دون آخر، أو بالأحرى ستكون البلدان قليلة الصناعة كثيرة الفلاحة هي الأقرب لتمثيل العالم الجديد،، التطرّف البيئي المُتمثل في التغيرات المناخية السلبية التي أحدثها الاِحتباس الحراري بسبب اِرتفاع الحرارة على سطح الكوكب تحت تأثير الغازات الصناعية هو العدو الّذي لا يُميز بين إيديولوجيا ودين، ولا يحتاج أصلاً إلى حليف.

قبل قرنين كانت درجة الحرارة أقلّ بنصف درجات الحرارة الموجودة في العالم اليوم. طوّر الإنسان حياته بشكلٍ خرافي على الأرض، لكنّه نسي أنّ الأرض موجودة في طابقٍ ما من العمارة الكونيّة، وليست الكون كلّه،، الأرض كوكب يحميه غلاف غازيّ من التغيّرات الحرارية التي تُسببها الظواهر السديمية هناك،، هناك خارج حلبات الصراع السّياسيّة والريعية،، هناك حيث لا يستطيع بشريّ أن يملك سلطة ولا ريعا، ولا أن يملك الحق حتّى في التنفس.
هذا ما أدركه العالم الفلكي «ساغان» حين رأى الأرض عبر صورة منظارية مُتطوّرة على شكل نقطة صغيرة باهتة، فكتبَ: «أنظر مرّة أخرى إلى هذه النقطة. إنّه هناك: الوطن. ها نحن. عليها يُوجد كلّ من تحبه، كلّ من تعرفه، كلّ من سمعت عنه، كلّ إنسان كان موجوداً في أي وقت. هي جملة أفراحنا ومعاناتنا، آلاف الأديان والأيديولوجيّات والمذاهب الاِقتصادية الواثقة، كلّ صياد أو رحالة، كلّ بطل أو جبان، كلّ بانٍ أو مُدمر للحضارة، كلّ ملك أو فلاّح، كلّ زوجين شابين مُتحابين، كلّ أم وكلّ أب، كلّ طفل واعد، كلّ مُخترع ومُكتشف، كلّ مُعلم للأخلاق، كلّ سياسي فاسد، كلّ مشهورٍ، كلّ قائد أعلى، كل ّقديس أو آثم في تاريخ نوعنا.. قد عاش هنا - على هذه الذرة من الغُبار المُعلقة في شعاع شمس». هكذا ساغان Carl Sagan تعرف على مقدار قوّة الأُمم، فوجد أنّها لاشيء يُذكر، حين نضع الأرض في محيطها الخارجي اللامتناهي.. ومن مقام إلهي أعلى هي (لا تُساوي جناح بعوضة).
هو التطرّف الأكثر بطشًا سيشهده العالم، وشعاره: «كُن من الآن مُتصحراً وكفى»..  بالفعل، ففي السنوات الأخيرة اِتسعت الصحاري، رغم محاولات بعض الحكومات في التصدي لهذه الظاهرة، لكن للأسف النُظم الفلاحية تملك البذور وسياسات التشجير وإرادة الدول لكنّها لا تمتلك المناخ... لا تملك السلطة على المناخ، حتّى وإن رشّدت الدول من كمية اِنبعاث الغازات الدفيئة من مصانعها، فعدم اِلتزام دول أخرى بهذا الترشيد على مستوى صناعة الطاقة الأحفورية، سيُبقي الأمر على ما هو عليه،، حرارة الأرض تزيد سنويا درجة،، لا شيء حاليًا عمليّ يُوقف هذا الوباء الحراري.
أعتقد الإنسان وهو يخوض حربه ضدّ الجهل والتخلّف العلمي، ويُحدِّث من إمكانياته لإخضاع كلّ الظواهر الطبيعية لمصلحته، أنّه الوحيد المُتّصل بالشمس،، والوحيد المُخوّل له التعامل مع الضوء وعقد حلف معه، واعتقد أنّ المواد الأحفوريّة التي وجدها كاسدة في باطن الأرض وأحياها بعبقريّته، ستتلاشى بمجرّد إحراقها في أفرانه العالية، أي يُحييها ويُميتها كما شاء. مبدئيًا حقّقَ نجاحًا مُؤقتًا، ففي بداية العصر الصناعي كانت الأفران العالية تُناطح المآذن العالية، وقبب الكاتدرائيات، وتهزمها تباعًا، مُقنعةً الكثير من النّاس بعدم جدواها،، إلى أن حدثت المعجزة التي شغلت تفكيره سنوات، لا من أجل إنهائها بل لفهمها وتحليلها ومحاولة النجاة من عواقبها: أكثر من أربعين غازاً ناتجًا عن حرق المواد الأحفورية، تنبعث في الجو ولا تتلاشى، بل تُصافح الشمس، وتُخزّن إشعاعاتها كما تمتص الأشعة الحرارية (ما تحت الحمراء) الموجودة على سطح الأرض وتُحبس حرارتها باِمتياز،،، ولا ترحل، بل تبقى مُخيّمة على سطح الأرض، مُحدثةً تغييرات مُناخيّة شاذة ورهيبة وغريبة، مُتحكمةً في مصير النبات والحيوان والإنسان.
هكذا وسهواً منه أنتج الإنسان «الغازات الدفيئة» ولأوّل مرّة بدأ يبحث عن اِسم كبير يشمل كلّ خصومه الجُدد Gaz à Effet De Serre ،، فاكتشفَ أنّ الكبريت الّذي نقله من الاِستغلال التقليدي من على فوهات البراكين إلى الاِستغلال العلمي الذكي باِستخلاصه من البترول قد اِستقوى عليه l’Hexafluorure de soufre ، وأنّ الكاربون قد تحوّل من جوف الأرض إلى السحاب le Dioxyde de carbone.. وأنّ بُخار الماء الّذي كان مُتكاثفًا بوداعة من البحار والأنهار والسدود H2O قد اِختزن حصته من الشمس وقرّر أن يكون عدائيًا بعد أن أدخله الإنسان في حروب علمية خارجة عن فطرته، بإقحامه في المجال النووي.. وتشويه اسمه الشاعري المُقدس من نافورة الشباب الأسطورية
fontaine de jouvance légendaire ، إلى بُخار الماء المُحمّص vapeur d’eau torréfiée ... مُجرد الكلمتين لم تكونا لتجتمعا (ماء / تحميص) لولا قرار الإنسان بأن يتجاوز الماء درجة غليانه بكثير ويتمّ اِستعماله في مجال تحريك العنفات الميكانيكة..
هكذا بعد أن حاول الإنسان تجاهل قوّة الأعلى الإلهي، واثقًا في عقله، اِضطر للخوف من «الأعلى الصناعي» الجاثم على مصير الأرض.. وبدأت اللعبة الكبيرة الخطيرة: بدأت الغازات الدفيئة تخترع ألعابًا مناخية مختلفة، إذ أصبح اِلتقاء الساخن بالبارد جواً يَحدثُ خارج رزنامة الفصول الأربعة، إذ يكفي تصادم واحد بين مياه المحيط الباردة والغازات الدفيئة لإنتاج أعداء جُدد أكثر سرعة وأكثر بسطة في الجسم..
التورنادو Tornade (الإعصار القُمعي)، الّذي يبلغ عشرة أمتار أصبح هاجسًا أمريكيًا،، وعاد الإنسان بكلّ ما أوتي من ذخيرة علمية إلى حالة من البدائية، فاُسُتنسِخ صائد «الأيائل» من جديد على هيئة عالم مناخي بكاميرا مُتطوّرة يقوم بتعقب هذه الأعمدة المائية الضخمة المُدمرة لفهمها فيما يُسمي بــ»صائدي الأعاصير» لكنّه للأسف هذه المرّة لن يصطاد غير صورة.. وأصبحت الأقمار الصناعية لا تُراقب فقط شبكات اِتصال الإرهابيين ومواقعهم، بل أضحت تُراقب مسارات الترانيد العملاقة وتُحاول فكّ ألغازها.. ولم ينتبه الإنسان الأكثر لياقة علمية في الأرض وهو يُصوّب مقرابه الاِلكتروني نحو الفيروسات (وآخرها الكورونا)،، إنّه يعيش داخل جسم كونيّ كبير أخذ ينتج «خلايا رعديّة» تتحوّل إلى أعاصير مُدمرة.. سرطان في جسد الأرض، لا يمكن تفاديه تمامًا، طالما نحن نعيش داخل هذا الجسد الكوني الفسيح. كانت منذ سنوات قليلة ظاهرة الأعاصير محدودة الزمان والمكان، حتّى أسبابها كانت طبيعية جداً.. وكان سكان «ميامي» مثلاً يترقبونها في الربيع، ومن الطبيعي جداً أن تحدث ظاهرة  cisaillement de vent في حالة منطقة ما تختلف فيها سرعات الريح بين مكانين يختلفان في الخصائص الجغرافية وفي الاِرتفاع لتنتج هذه الطفرة الجوية. اليوم تسبب اِرتفاع درجة الحرارة في الجو بفعل الغازات الصناعية باِرتفاع الرطوبة في الأماكن المحاذية للمحيطات وهذا ما منح الأعاصير طاقة إضافية، زادت في قوتها التدميرية وفي اِتساعها المكاني وكذا أطالت مُدة مكوثها على الأرض (10 أيّام).
طبعًا نخبة العالم الجشعة مازالت لا تتقبل فكرة فوز حزب سياسي ذو خلفية بيئية في الاِنتخابات، بل إنّ الرأي العام في أغلب الدول المُتقدمة لم يُحضّر المواطن بجدية ليحس بأهمية الأحزاب السّياسيّة ذات الخلفية الإيكولوجية التي بات العالم اليوم في أمس الحاجة إليها.

مرجعية إيكولوجية للسياسيين؟
نعم، ولِمَ لا؟... تُزاحم تلك الإيديولوجية والدينية التي ما فتئت تُفرق الإنسان عن الإنسان، وعن محيطه وعن بيئته الخضراء وتَحولُ بينه وبين سلّة غذائه الطبيعيّة الصحيّة بسبب خضوعها لجشع أرباب الصناعة الغذائية والصناعة بشكلٍ عام... ظاهرة الأحزاب الخضراء في أوروبا وأمريكا مازال مُضيقًا عليها، بيد أنّ المجتمعات المُتحضرة مازالت تفصل بين «البيئة والحُكم» فتحيلُ البيئة إلى العمل الجمعياتي النضالي الّذي عادةً ما يكون ضاغطًا على المركز لا شريكًا فيه. وتُلحقُ المسألة البيئية بذيل البرنامج السياسيّ للأحزاب القوية الطامحة في الحُكم، فغالبًا ما نسمع المُرشح للرئاسيّات الأمريكية أو الفرنسية من الأحزاب العريقة، يُرافع عن اِتفاقيّة «كيوتو» وما ترتّب عنها من اِلتزامات بتخفيض اِنبعاث الغازات الدفيئة من ترسانتها الصناعية، لكن في الواقع نجد قرارات الحرب والحصار الاِقتصادي على دولةٍ ما، والدعم اللامشروط لدولة إرهابية ضدّ حركة تحرّر (الشأن الفلسطيني) هي ما يتصدّر قائمة منجزاته. ومع الوقت غدت «قِمم الأرض» المُنعقدة، مجرّد أعلام بيضاء تُغرس على مزابل الطاقة المؤذية عبر العالم، مستفيدة من ما تبقى من هواء نقي لترفرف.
كما لم يتمكّن السياسي - السياسي من التحوّل إلى سياسي - بيئي لإيقاف المجازر المُرتكبة في حق أشجار الأمازون التي تُعتبر من رئات العالم الكُبرى، ذلك مردّه لـ»عقيدة التسوية» التي يتبناها السياسي المحض مع كبار صناعيي بلده، دون أن يُناورَ من أجل البيئة مُرتكزاً على شرعيته الشعبية، هذه المعضلة تُحيلُ اِضطراراً إلى نقل النضال البيئي إلى الشارع، حيث يتواجد المواطن الّذي عليه أن يُساهم في رفع الضغط الاِجتماعي والسياسي على الحكومات من أجل البيئة دون أن ينتظر تأطيراً أو قرارات جاهزة من رأس الحُكم.
مرجعية إيكولوجية للمواطنين؟
نعم، فالمواطن اليوم لابدّ أن يحس بالمسؤولية تُجاه بيئته، كما يحسّ بها تجاه هويته الوطنية وانتمائه الحضاري،، وهذا الأمر ليس بجديد على العقل البشري، وقد بدأ التفكير فيه اِنطلاقًا من المجال الفلاحي فيما يُعرف بــ: «الآغروكولوجيا L’agro-écologie «، التي تدعو عبر مُفكريها وناشطيها إلى توسيع الفهم للفلاحة بتوسيع عدد الشركاء اِبتداءً من الباحث العلمي، مروراً بالفلاح، والشريك الاِجتماعي المُتمثل في جمعيات المواطنة والمواطنين أنفسهم من أجل اِبتكار طُرق فلاحية تحترم البيئة، وتُناقش الوسائل التكنولوجية المُسنِدة للمُمارسة الفلاحية، وتعطي للمواطن دوراً في المحافظة على البيئة والدفاع عنها، فهو المعني الأوّل بسلامة غذائه، وبالتوازن البيئي الّذي يضمن له «سلّة آمنة...».
الكثير من الحركات النضالية في هذا المجال ظهرت، منها: ( les sans terre فلاحون بلا أرض)، وحركة الطيور الطنانة بفرنسا mouvement des colibris. هذا المسار الإنساني يجعلنا جميعًا متطوعين من أجل قضية الأرض بإعادة البيئة ومنها أغذيتنا إلى حالة النقاء الأولى. ويجعل مناقشة الغذاء والفلاحة على طاولة اِجتماعيّة أوّسع من الطاولة التقنيّة المُرتبطة بجديد التطوّر التكنولوجي على حساب الحالة الإنسانية التي هي أمّ القضايا.
طاقات نظيفة؟
نعم، فالاِستغلال الأحفوري وما ينجر عنه من تلوث أصبح خطراً على أنفاسنا العذراء، وعلى تُرابنا، وعلى المناخ بشكلٍ عام، لذا فاللجوء إلى الطاقات البديلة النظيفة، عبر طاقتي الريح énergie éolienne والشمس énergie solaire  في توليد الكهرباء بل والاِستعاضة بالكهرباء عن المحروقات في تشغيل المصانع أصبح حلاً بديلاً..
مزرعة ريح نموذجية في نيجيريا les fermes de vent.. وهي تشكيلة من العنفات المُولِّدة للكهرباء مُمتدة على مساحة 70هكتار.. كانت كافية لإحراج أخواتها من الدول البترولية الكُبرى، وهي نيجيريا التي تعتمد على النفط بقيمة تُساوي الثلثين من الدخل الوطني العام.
اِقتصاد تدويري؟
نُظم الاِقتصاد الحالية في أغلب الدول فقيرة كانت أو غنية قائمة على القيمة المُضافة، وتطوير الثروة،، في المقابل ينجم عن هذا الهدف مراراً، اِستنزاف كبير للموارد الطبيعية بحكم المنافسة وسياسة اِكتساح الأسواق، وكرد فِعل على المخاطر التي تتهدّد البيئة اِنطلقت حركة تفكير جديدة تضعها في جوهر التصوّر الاِقتصادي وهي مقاربة تُعرف بـــ: écoconception.. تدعو إلى إعادة تدوير المواد المُنتجة منتهية الصلاحية، للكبح من إنهاك الأرض حفراً وتنقيبًا وزيادةً في التلوث، مع المحافظة على جودة المُنتج المُعاد بعثه من رفات سابقة.
ظهر المشروع بعنوان فلسفي «براغماتي-أخلاقي» في الوقت ذاته.. يرفض الضدية المُخيمة على مصير الإنسان والكوكب بشكلٍ عام هذه الضدية التي عنوانها (من المهد إلى اللحد) ليستبدلها الكيميائي الألماني
Michael Brangart  والمعماري الأمريكي  
William Mc Dounought بالتماثلية التي عنوانها (من المهد إلى المهد).
أخيراً تمّ إطلاق مبادرة Cradle to cradle  التي سرعان ما تحوّلت إلى إجراء اِقتصادي مُرخصٌ له بشهادة رسمية ممنوحة لأصحاب المشاريع ذات العقيدة البيئية.. تقوم هذه المقاربة على إعادة تغذية العوز التقني بِمَا تمّ إنتاجه سابقًا.. هكذا ستكتفي الصناعة بِمَا تمّ تصنيعه.. بل وإعادة تغذية البيئة نفسها بِمَا يلزمها من نفايات معدنية.. هكذا دورة الحياة تبقى مُتوازنة للمادة والأحياء معًا.. شركات تمّ تأسيسها بسرعة في أوروبا تخدم هذه المُقاربة لتنتشر عبر العالم.. ما دام الجميع مُعفى من تكلفة اِستخراج الطاقة الكلاسيكية (الأحفورية) الباهظ.. مقاربة أظهرت فعّاليّة وأخذت في التنامي.. فهل ستنجح في إعادة الكوكب إلى مهده الفسيح السخي؟.. ومعه الإنسان الّذي عليه مسؤولية كُبرى هي المؤاخاة بين المنفعة والنقاء البيئي.. بعدما أصبح على مشارف سقوطه في مقلاة كونية لا حد لسعتها إلاّ بإصلاح علاقة الإنسانية بتوأمها الحتميّ الأبديّ «البيئة».
عن مجلة «فواصل»- العدد 7

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024