في القرن الثالث قبل الميلاد كتب الاستراتيجي الهندي كوتيليا(Kautilya) في كتابه المشهور (Arthashastra) عن العلاقة بين التحالفات والتعاون الاستراتيجي من ناحية والجغرافيا من ناحية أخرى، وأشار إلى مفهوم «التطويق» للعدو استنادا إلى دول «الجوار الجغرافي» لذلك العدو.
ويبدو أنّ استراتيجية التطويق هي الاستراتيجية الكبرى لكل من إسرائيل وإيران في مواجهة بعضهما، فقد تمكّنت إيران من إيجاد قواعد ارتكاز لها حول «إسرائيل» في لبنان من الشمال، وفي غزة من الجنوب، وفي جوار البحر الأحمر في اليمن للتأثير على طرق الامداد والمضائق الاستراتيجية (وحاولت مع السودان قبل انقلاب السودان الأخير) وفي سوريا قرب العنق الاسرائيلي، وفي العراق ليكون عمقا استراتيجيا لوجودها في سوريا ولبنان.
وترد إسرائيل على ذلك، باختراقات استراتيجية مقابلة، فهي تتواجد وبشكل مؤثّر في أذربيجان على الحدود الشمالية لإيران إلى حد أن جعلت من أذربيجان الزبون الثاني في قائمة الدول التي تشتري السلاح الاسرائيلي بعد الهند، الى جانب التعاون الكبير بين البلدين في مختلف المجالات، وتحاول تعميق صلاتها مع الاكراد في العراق وإيران بجوار الغرب الايراني، ثم بدأت مؤخّرا بتعزيز تواجدها في دول مجلس التعاون الخليجي بخاصة في الامارات والبحرين، وبتواجد مموّه في كل من عمان وقطر والسعودية، ناهيك عن تسلّلها عبر اختراق لبعض التنظيمات المعارضة في سوريا ولبنان، وعبر ما تسميه الأدبيات السياسية الاسرائيلية «حلف الضواحي» المتمثل في الأقليات العرقية والمذهبية والدينية.
ويقوم كل من الطرفين بعمليات لسع متبادل على الطرق المؤدية إلى مراكز الجوار لكل منهما، ضرب الناقلات، او تصيد الخبراء والعلماء، أو محطات التنصت وشبكات التجسس والهجمات والاختراقات السبرانية.
والملاحظ أنّ تراجع المكانة الجيواستراتيجية للمنطقة في الاستراتيجية الأمريكية لحساب مناطق أخرى حددتها وثيقة بايدن الأخيرة، وعبّر عنها بوضوح الانسحاب التدريجي الأمريكي من المنطقة وجوارها بخاصة من أفغانستان، يقابله تزايد هذه المكانة الجيواستراتيجية لكل من الصين وروسيا، وهو ما عبّرت عنه ظاهرتان تستحقا التأمل وهما اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران مؤخرا، الى جانب انضمام إيران لعضوية منظمة شنغهاي، ذلك يعني أن هذا التحول في المكانة الجيواستراتيجية للشرق الاوسط ينطوي على ميزة لصالح ايران على حساب اسرائيل في هذا الجانب تحديدا، نظرا لأن امكانية التوظيف الإسرائيلي للوجود الأمريكي المباشر في المنطقة أضحى موضع مناقشة واضحة.
ويبدو أنّ تركيا تدرك أهمية هذا التحول لكنها تريد أن توظف هذا التحول لصالحها، فهي تدعو على لسان أردوغان مؤخرا الى الانسحاب الامريكي من سوريا (إلى جانب أن الوجود الامريكي في العراق سيتقلص الى حد بعيد مع نهاية العام الحالي)، كما أنها تصر على صفقة اس - اس - 400 الروسية، ومع تنامي الحساسيات بين أطراف الناتو الذي تمثل تركيا احد اركانه، فإن المصلحة الاستراتيجية التركية ستكون اقرب للقوى التي تتزايد أهمية المنطقة لها، وهو أمر لصالح إيران أيضا، ويبدو لي أن المباراة «غير الصفرية» بين تركيا وإيران تسير بشكل يرضي كلا منهما بنسبة معقولة رغم خيوط العلاقات التركية الاسرائيلية، بل إنّ العلاقة الصينية التركية ستتجاوز موضوع «اليغور» لاسيما أنّ انحسار الظاهرة الدينية سيتواصل ممّا يظلّل على ما جرى سابقا بين البلدين في موضوع اليغور.
ذلك يعني، أنّ دور القوى الاقليمية المركزية في تشكيل المنطقة سيتزايد، وستستثمر هذه القوى الحاجة الاستراتيجية للقوى الكبرى الصاعدة للمنطقة، وهي قوى اقرب في رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة لإيران منها لاسرائيل (دون مبالغة في هذا الجانب) تاريخيا وحاضرا ومستقبلا.
إنّ انهيار المنظومة الاستراتيجية للمنطقة خلال العشرين سنة الماضية بسبب «ربيع يابس»، وحروب أهلية، وتفكك منظومات اقليمية، وتطبيع عربي إسرائيلي، وطغيان سياسي له ملامح جديدة الى جانب ما أشرنا له من تغير في المكانة الجيواستراتيجية للقوى الكبرى، سيدفع نحو وضع سيناريوهات مختلفة للمنطقة، ولما كانت الدول الكبرى القادمة (روسيا والصين) ومعها الدول الاقليمية المركزية (تركيا وإيران وإسرائيل) بلورت منظومتها الجيواستراتيجية عبر التطويق المتبادل، فإنّ المنطقة العربية مقبلة على تحوّلات قسرية لكنها تستبطن تغيّرات جوهرية سنعمل على تفصيلها في مقال آخر.