التطورات الأمنية في منطقة الساحل:

التنافس الدولي وعلاقته بتنامي ظاهرة الإرهاب

د. آسيا قبلي (باحثة في الدراسات الاستراتيجية)

شهدت منطقة الساحل في الآونة الأخيرة هجمات إرهابية ضد المدنيين في عدد من الدول، ويشكّل هذا التطوّر تعميقا للتهديدات اللاتماثلية لدول المنطقة. وبالرغم من مرور ثماني سنوات على التدخّل العسكري في مالي، وتأسيس ما يعرف بمجموعة الخمسة ساحل، إلا أنه لم يتحقّق أي من الأهداف العسكرية من وراء التدخل، فالمجموعة بقيادة فرنسا لم تفلح في القضاء على ظاهرة الإرهاب ولا حتى الإرهابيين، ولم تستطع إيقاف الاشتباكات بين الحكومة المالية وحركة الأزواد في الشمال، ناهيك عن فشلها في إرساء الديمقراطية بالنظر إلى الانقلابات العسكرية التي حصلت مؤخرا في مالي وفي تشاد عقب مقتل رئيس هذه الأخيرة.




تعتبر منطقة الساحل فضاء لتقاطع مخطّطات عدد من القوى الكبرى، باعتبارها منطقة استراتيجية تربط بين شمال القارة الافريقية وجنوبها، وهي على الرغم من فقرها غنية بمواردها الطبيعية والمعادن النفيسة، ما جعلها محل أطماع تلك القوى، بداية بفرنسا التي تعتبرها منطقة نفوذ تقليدية، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تهتم بها منذ بداية التسعينات طمعا في نفطها، وصولا إلى الصين التي تغلغلت اقتصاديا وروسيا التي أعادت علاقاتها مع الدول التي انتهجت نظام الاشتراكية خلال الحرب الباردة، من خلال التعاون العسكري مقابل المصالح الاقتصادية. لكن هذا التواجد لم يخل من سلبيات أهمها تنامي الظاهرة الإرهابية. ويبحث الموضوع العلاقة بين التنافس الدولي الأجنبي على المنطقة وارتفاع عدد التنظيمات الإرهابية والعمليات الإجرامية ضد المدنيين والعسكريين على السواء.

أولا: تعدّد المبادرات العسكرية في المنطقة:
تجمع دول الساحل والصحراء المعروفة اختصارا (س ص):
هي مبادرة دعت إليها ليبيا العام 1997، ليجتمع رؤساء كل من تشاد، النيجر، مالي وبوركينافاسو إلى جانب السودان، يوم 4 فيفري 1998، في العاصمة الليبية طرابلس واتفق المجتمعون على إنشاء تجمع اقتصادي إقليمي للحدّ من التوترات الأمنية والسياسية وفقا لمبدأ التسوية السلمية للنزاعات. لكن التجمّع فشل في تحقيق أهدافه، فبعد 23 عاما من تأسيسه مازالت الدول المؤسسة والمنضمّة لاحقا تعاني فشلا اقتصاديا وأزمات سياسية وأمنية بل وبعضها أصبح دولة فاشلة بما فيها الدولة الرئيس في التجمع وهي ليبيا.

لجنة الأركان العملياتية المشترة «CEMOC»:
أنشئت اللجنة في 21 أفريل 2010، في الجزائر ومقرها ولاية تمنراست، تجمع أربعا من دول الساحل (الجزائر، مالي، النيجر وموريتانيا) أو ما تسميه الجزائر دول الميدان، وأطلقت الجزائر المبادرة باعتبارها الدولة الوحيدة بين مجموعة دول الميدان التي تتوفر على إمكانيات مادية وعسكرية للتصدي للتنظيم الإرهابي
«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، على أن يبلغ تعداد قوتها 70 ألف رجل. وهدفت المبادرة إلى: مكافحة توسع «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» ومكافحة توسّع الجماعات المسلحة الإرهابية في المنطقة، بسبب ارتفاع الهجمات الإرهابية وعمليات الاختطاف، ومكافحة الجريمة المنظمة، تجميع الوسائل لتحسين فعالية مراقبة الحدود والمناطق الحدودية على وجّه الخصوص، الرد الجماعي على التهديد، من خلال تقوية التعاون الأمني والعسكري بين الدول المذكورة. وتعمل الجزائر على تكوين جيوش دول الساحل في مكافحة الإرهاب، من خلال التعاون المشترك مع دول المنطقة وتقديم الدعم اللوجستي وتبادل المعلومات.
وردا على التحديات الجديدة، عقدت اللجنة العملياتية المشتركة لدول الميدان، اجتماعا شهر فيفري 2015 في مدينة تمنراست، لمناقشة الدور الجديد لهذه الآلية، ومواكبتها مع التطوّرات الجديدة الحاصلة جراء انهيار الدولة في ليبيا وتداعياتها على كامل منطقة الساحل، وتنامي خطر الإرهاب والجريمة المنظمة. وأعلن خلال الاجتماع عن العمل على «ترسيم دور جديد لآلية التعاون في ظلّ التطورات التي تعيشها المنطقة، واتخاذ تدابير ملموسة، وتندرج المهام الجديدة في إطار مبدأ التكفل بمكافحة الإرهاب من طرف كل بلد بالاعتماد أولا على قدراته الخاصة، باعتبار اللجنة هيئة تعاون ذات طابع عملياتي محض.
لكن يعاب على لجنة الأركان العملياتية، قيامها على مبدأ تولي كل دولة على حدى تنفيذ الأهداف من داخل ترابها دون التدخل في الدول الأخرى، مع ضعف جيوش الدول الأعضاء، التي تعتمد في تمويل جيوشها على المساعدات الفرنسية إلى جانب الدعم اللوجستي والمالي، إضافة إلى قيام العقيدة العسكرية الجزائرية على عدم خروج الجيش الوطني الشعبي خارج حدوده للمشاركة في حروب خارجية، ما يحدّ من فعالية السياسة الخارجية الجزائرية تجاه منطقة الساحل التي تشهد تنافسا دوليا وتدخلات خارجية.
تميز اجتماع تمنراست، بظروف استثنائية تمثلت في وجود مبادرة موازية، هي مبادرة مجموعة 5 ساحل، التي أطلقتها فرنسا بالتعاون مع دول ساحلية (مالي، موريتانيا، النيجر، التشاد وبوركينافاسو) شهر فيفري 2014. أي شهرا بعد آخر اجتماع للجنة شهر جانفي 2014 في نيامي عاصمة النيجر. ويشكل هذا تحديا لجهود الجزائر في منع أي تدخل أجنبي في قضايا القارة، بسبب تعدّد المبادرات في ظلّ تضارب المصالح، وعدم التزام الدول الأفريقية باتفاقاتها مع الجزائر، والانخراط في المبادرات الفرنسية بحكم وجود اتفاقيات دفاع مشترك بينها وبين عدد من الدول الأفريقية. علاوة على رغبة فرنسا في ضم المملكة المغربية إلى مبادرة مجموعة 5 ساحل بعد أن أقصتها الجزائر من المشاركة في لجنة تمنراست باعتبارها ليست دولة ساحلية، وهو ما يشير إلى عدم التوافق الجزائري الفرنسي فيما خص التعامل في منطقة الساحل.

مجموعة الخمسة ساحل:
تأسست المجموعة يوم 16 فيفري 2014، في نواقشوط عاصمة جمهورية موريتانيا، وتضمّ كلا من مالي، النيجر، تشاد، موريتانيا وبوركينافاسو، بهدف «ضمان شروط السلم والأمن والتنمية المستدامة في دول المنطقة، ومواجهة التحديات المتمثلة في ضمان ديمومة الأمن والسلم، الحاجة إلى توفير مؤسسات ديمقراطية مستقرة ودائمة وانخراط قوي للسكان. لكن وبعد سبع سنوات من إنشاء المجموعة، لم تحقّق الغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله وهو ضمان الأمن وديمومته، حيث أشار تقرير لمجلس الأمن الدولي، أن الوضع في منطقة الساحل استمر في التدهور، وامتدت تداعياته إلى دول الجوار خاصة البنين، كوت ديفوار والطوغو.
وحمل البيان تقريرا مفصلا عن مفعول عكسي لوجود هذه المبادرة في المنطقة، حيث ازدادت الهجمات المسلحة ضد العسكريين، لكن أكبر عدد من الضحايا كان من جانب المدنيين. وإضافة إلى الفشل العملي، تواجه المبادرة تحديا آخر هو غياب الرؤساء الأفارقة المؤسسين لها وآخرهم الرئيس التشادي إدريس ديبيي الذي لقي مصرعه في عملية اغتيال يوم 20 أفريل 2021، وآخر المستجدات هي سحب تشاد 600 جندي من أصل قوة قوامها 1200 عسكري تشادي من مجموعة الخمسة ساحل. إن غياب هؤلاء القادة قد يفتر من عزيمة خلفائهم على المضي قدما في المسار الذي بدأوه بسبب عدم جدوى المجموعة التي لم تتمكن من تحقيق هدفها الأساسي وهو مكافحة الإرهاب. ولم تحظ المبادرة بموافقة مجلس الأمن الدولي على إنشاء قوة عسكرية بعد اعتراض بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها لم توفر إلا نصف الميزانية المقدرة بـ 423 مليون يورو. وبمقارنة الأهداف مع النتائج نجد أن المبادرة فشلت كونها لم تحقق نتائجها بل زادت الأمور سوء.

مبادرات أخرى:
من بينها الشراكة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب، وهي مبادرة أمريكية جاءت عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، تحت مسمى مبادرة عموم الساحل، ثم شملت عددا أكبر من الدول الأفريقية وأصبحت تسمى المبادرة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب، تحمل هدف تسميتها إلى جانب تكوين جيوش الدول الأعضاء. هذه المبادرة هي الأخرى فشلت في تحقيق هدفها بالنظر إلى الواقع الذي أثبت هجرة جماعات إرهابية من المشرق إلى منطقة الساحل على غرار تنظيم «دتعش» إلى جانب تفريخ جماعات إرهابية جديدة، وهو ما يبقي التساؤل مطروحا حول علاقة انتقال الجماعات الإرهابية باستراتيجيات الدول الكبرى في انتقالها من منطقة نفوذ إلى أخرى، بمعنى أن الإرهاب يتبع الدول الكبرى حيثما حلت وكأنه البعبع الذي يبرر تواجدها هنا أو هناك.

ثانيا: التنافس الدولي على منطقة الساحل:
ونركز في هذه النقطة على فرنسا وروسيا:
إن حال فرنسا في منطقة الساحل يشبه حال الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، فبعد عقدين من غزوها البلاد لم تتمكّن من إحراز نتائج تذكر، ولم تتمكن من القضاء على طالبان التي عادت وسيطرت على السلطة هناك، وقد دعت مجلة «لوبوان» الفرنسية في وقت سابق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاقتداء بنظيره الأمريكي وتنظيم الانسحاب قبل أن تضطر إلى ذلك في وقت ضيق لاحقا.
وعليه تواجه فرنسا ضغطا داخليا من أجل الانسحاب العسكري من المنطقة، بسبب العبء المالي وارتفاع حصيلة قتلى الجيش الفرنسي، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا المقررة مطلع 2022، وهو ما دفعها لإعلان الانسحاب من مالي عقب الانقلاب العسكري الذي قاده أسيمي غويتا شهر ماي الماضي، وكذا سقوط ذريعة مكافحة الإرهاب نظرا لارتفاع عدد العمليات الإرهابية ضد التواجد العسكري الأجنبي عموما والفرنسي على وجه التحديد، تزامنا مع الرفض الشعبي في الدول التي تعتبر تقليديا منطقة نفوذ فرنسي وأيضا الاتفاق العسكري بين مالي وروسيا.
العامل الآخر لإعلان فرنسا انسحابها هو الاتفاق بين عدد من الدول الأوروبية على المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة من خلال إرسال أفراد من جيوشها لدعم «جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة». حيث دعا وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو إلى تشكيل قوة دولية واسعة لمواجهة تهديدات «داعش» في منطقة الساحل، التي انتقلت من المشرق لتستقر في المنطقة، ولقيت الدعوة تأييدا من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وذلك خلال الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد «داعش» المنعقد يوم 28 ماي 2021، وحضره ممثلون عن دول بوركينافاسو وغانا وموزمبيق، وقبلت خلاله أيضا عضوية كل من موريتانيا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية. ومن شأن هذه المبادرة تخفيف العبء المالي والعسكري عن فرنسا.
السبب الثالث للانسحاب هو زيادة مستوى العداء الشعبي في المنطقة للتواجد الفرنسي فيها، وكثرة «التجاوزات» ضد المدنيين التي عادة ما تبررها بوقوع خطأ تقني. وقد حدث غير مرة كما كان الأمر في شمال مالي حيث قصفت مدنيين في عرس راح ضحيته أطفال ونساء، وقالت إنها استهدفت إرهابيين دخلوا المكان، لتبرّر ذلك لاحقا بأنه خطأ تقني، ومما يدعّم هذه الفرضية هي الاحتجاجات الواسعة في مالي والنيجر ضد التواجد الفرنسي ومطالبة القوات العسكرية الفرنسية بالرحيل عن المنطقة، وصرّح بعدها الرئيس الفرنسي أن «أطرافا من المنطقة تؤجج الوضع ضد بلاده»، في إشارة إلى الجزائر التي تتعارض استراتيجيتها في المنطقة عن نظيرتها الفرنسية.
 ففي حين تعتمد هذه الأخيرة على التدخل العسكري والعنف تركز الجزائر على عنصر التنمية باعتباره الكفيل بالقضاء على التوتر، ويمنح عيشا كريما للسكان، وبالتالي يقطع الطريق أمام الجماعات المسلحة الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة التي تستغل فقر السكان لتجنيد الشباب في صفوفها وتنفيذ مخططاتها الإجرامية. وهذه المقاربة السلمية السياسية والدبلوماسية لا ترضي فرنسا التي تتخذ من اللااستقرار ذريعة للبقاء ونهب ثروات تلك الدول كي تبقى تابعة لها. لذلك تسعى في كل مرة إلى إجهاض كل محاولة وساطة جزائرية لتهدئة الأوضاع هناك واستتباب الأمن.

المد الروسي:
استطاعت روسيا التدخّل في جمهورية أفريقيا الوسطى التي شهدت حربا طاحنة بين المعارضة والرئيس فرانسوا بوزيزي الموالي لفرنسا، الذي أزاحته المعارضة عن الحكم في انتخابات رعتها روسيا وأوصلت المعارضة إلى الحكم العام 2020، وبالتالي إقصاء كل الفصائل الموالية لفرنسا، وبالنتيجة اقتنصت روسيا عبر شركة روساتوم» Rosatom عقدا تفضيليا للتنقيب في مناجم اليورانيوم في منطقة «باكوما»، وما يعنيه اليورانيوم الأفريقي بالنسبة لفرنسا، وهذا يعني أن الصراع المحلي له امتدادات خارجية حول التواجد العسكري واستغلال الموارد. وفي مالي استغلت روسيا الرفض الشعبي للتواجد الفرنسي لتقدّم نفسها بديلا عنه، حيث خرج المتظاهرون يطالبون بالتدخل الروسي ضد فرنسا، كما أبرمت صفقات توريد سلاح مع مالي واتفاقات تعاون عسكري مع دول المنطقة موريتاينا ومالي والنيجر بوركينافاسو وهي دول أعضاء في مجموعة الخمسة ساحل، وهذا ما يغضب فرنسا التي تستشعر خطر استيلاء روسيا على مناطق نفوذها.
 ويمكن تفسير ارتفاع العمليات الإرهابية ضد المدنيين بكون الجماعات الإرهابية الناشطة في المنطقة ما هي إلا صناعة للدول الأجنبية المتدخلة لتكون ذريعة لها من أجل البقاء لوقت أطول فيها حماية لمصالحها ونهب المزيد من ثروات الدول التي يراد «حمايتها» من الجماعات الإرهابية. حيث لا يستبعد وقوف قوى من فرنسا خصوصا وراء الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين، من أجل إجبار قادة الدول المعنية خاصة في مجوعة الخمسة ساحل للالتزام أكثر وتلميع صورة فرنسا باعتبارها الحامي من الإرهاب، وبالتالي تبرير بقائها وتوفير غطاء سياسي للتدخل العسكري، وربما يكون الدافع وراء ذلك أيضا الصاق التهمة بفاعل يتغلغل في المنطقة وهو روسيا، ليسود الاعتقاد أن التوتر الأمني قد زاد بفعل التواجد الروسي وعليه تريد أن تجابه هذا التوسّع في مناطق نفوذها.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024