كانت ولازالت الثورة الجزائرية المظفرة مدعاة للدراسة والتمحيص التاريخي، نظرا لدقة ووضوح إستراتيجيتها، فالأهداف المعلنة في كل أدبيات الثورة، بدءا ببيان أول نوفمبر ومرورا بأرضية مؤتمر الصومام وكل مقررات دورات المجلس الوطني للثورة، حددت الهدف الإستراتيجي من العمل الثوري بتحقيق الاستقلال الوطني، بل استفاضت في طرق الكفاح، بين العمل العسكري في كل ربوع الجزائر بأريافها ومدنها وبين العمل السياسي الذي يعنى بدوره في عدة ميادين كالتعبئة والدعاية الإعلامية والمثابرة الدبلوماسية.
واستطاعت الثورة الجزائرية تجديد أساليب الكفاح بحسب متطلبات المعركة، وهذا ما ضمن أغلب فرص النجاح للقضية الجزائرية ونضع هذا المثال أكثر فأكثر في مقاربتنا للأحداث في مظاهرات ديسمبر سنة 1960.
إن اعتلاء ديغول لمقاليد الحكم في فرنسا في الثامن والعشرين من ماي 1958 كان عبارة عن محصلة لأزمة سياسية خانقة كان يضرب في صميم المؤسسات السيادية الفرنسية من جراء حرب الجزائر، تتجلى مظاهرها في العزلة الدولية التي حجبت فرنسا عن دورها الريادي في العالم أو حتى في علاقتها مع مستعمراتها وكذلك عجز الجيش الفرنسي على إحراز التفوق العسكري على جيش التحرير الوطني، ثم تنامي حدة الصراع بين المعمرين في الجزائر مع الفرنسيين في الوطن الأم من جراء سيطرة لوبي المعمرين أو الأقدام السود على أغلب مناحي الحياة السياسية في فرنسا وسعي هذا اللوبي الحثيث على تجنيد كل الطاقات الفرنسية لإنهاء حرب الجزائر، مع كل هذه المعطيات برزت شخصية الجنرال شارل ديغول كالمنقذ التاريخي لفرنسا، وهو ذلك القائد الذي أنقذ فرنسا من براثن النازية وعاد كالعظماء ليعيش حياته الخاصة تاركا السياسية لسياسيين.
لقد برز اسم الجنرال الذي عقد صفقة مع الأقدام السود ممثلين في لجنة إنقاذ العمومي، والتي تشكلت في الجزائر من جنرالات على رأسهم ماسي معلنين شق عصا الطاعة عن حكومة الوطن الأم ونادوا بالجنرال ديغول للحكم.
وفور مجيئه إلى الحكم باشر الجنرال ديغول بمخططاته الهادفة إلى القضاء على الثورة الجزائرية في كل الميادين، ففي المحور العسكري عمل الجنرال على إطلاق ما يعرف بمخطط شال والذي يهدف إلى خنق الثورة الجزائرية في الأرياف وهو مخطط شامل سهر على تطبيقه أكبر الجنرالات الفرنسيين، وتم في شكل عمليات عسكرية تمشيطية شاملة بقوة تدميرية موجهة للحروب المفتوحة ولا تستعمل في حرب العصابات كم هو الحال في الجزائر.
إضافة إلى الطيران والقنابل المحرمة دوليا، وكذا العمل على عزل وحدات جيش التحرير الوطني لوجيستيكيا وبدأت هذه العمليات من الغرب الجزائري إلى الشرق وليس العكس لقناعات ديغول وشال أنه من الخطأ ضرب الثورة في مهدها، لقد تمكن جيش التحرير الوطني من إبقاء الأسبقية العسكرية لوحداته نظرا لتمكنه من العمل في ظروف مخطط شال.
وكما أن مشاريع ديغول السياسية استهدفت كل شرائح الشعب الجزائري كمشروع قسنطينة، والذي أطلقه ديغول بهدف عزل الثورة شعبيا وضخ في غلافه المالي أموالا باهظة وعمل ديغول كذلك على طرح تصوره للقضية الجزائرية والذي إختصره في»الجزائر جزائرية»، وهي محاولة لتشكيل جبهة ثالثة في الجزائر تقحم في المفاوضات. وهذا ما أثار حفيظة المعمرين الذي تهيكلوا في «جبهة الجزائر الفرنسية» وقرروا التخلص من ديغول لمجرد تفكيره في تقرير المصير للشعب الجزائري.
لكل هذه المستجدات قررت القيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني ممثلة في الحكومة المؤقتة أخذ زمام المبادرة، هذه المرة في قلب المدن عبر انتفاضة شعبية عارمة في كل أنحاء الوطن وتكون صورة العلم الجزائري هي السيدة وتتزامن مع زيارة ديغول المقررة للجزائر في أواخر ديسمبر 1960، والتي تأتي كحملة يقوم خلالها الجنرال بشرح مشروع «الجزائر جزائرية» وتزامن كذلك مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي ستدرس القضية الجزائرية.
لقد بدأ الجنرال ديغول زيارته للجزائر من يوم التاسع من ديسمبر 1960 وحبذ أن تكون البداية بالغرب الجزائري، ومن مدينة عين تيموشنت، نظرا لكتلة المعمرين بهذه المنطقة ولكي يجابههم لأنه فضل خيار مواجهتهم إن تحتم الأمر، ولهذا فقد استقبله المعمرين بمسيرات مضادة وعدائية له، وهنا كانت المصالح الإستعمارية أعدت العدة بإخراج الشعب الجزائري ليهتف بحياة ديغول لمشروع الجزائر الجزائرية أمام الرأي العام الدولي وللتقليل من شأن جبهة التحرير الوطني وكذلك للتخلص من ضغوطات المعمرين على الحكومة المركزية.
وهنا عملت الجبهة على الخروج من هذه الحالة بفرض شعاراتها وإخراج الشعب الجزائري عن بكرة أبيه بالعلم الوطني، ويهتف بالاستقلال وشعارات جبهة التحرير الوطني، وكانت عين تيموشنت هي المحطة الأولى وامتدت شرارة المظاهرات إلى كل من تلمسان ثم وهران فالأصنام والعاصمة، ومنها إلى قسنطينة وعنابة وكل مدن البلاد وكان العلم الجزائري هو سيد الموقف كما وصف المراسلين الصحفيين الأجواء، أو كما عبر عنها أحد الضباط الفرنسيين حين قال إن علم الفلاقة أصبح يرفرف في شامونيفر بقلب الجزائر بعد أن كانوا لا يرونه إلا في مخابئ جيش التحرير في أعالي الجبال.
لقد صبت الآلة العسكرية الاستعمارية جم غضبها على الأمواج البشرية في المدن وتعاملت معها بالذخيرة الحية، ثم بالطائرات العمودية في كل من نواحي القصبة وبلكور وباب الوادي وسقط ما يربو عن ألف شهيد جزائري ثمنا لكرامة جبهة التحرير الوطني ولكرامة الجزائر.
ونقلت وسائل الإعلام صورة واضحة عن بشاعة الاستعمار الفرنسي واستطاعت أن تكسر حالة الضبابية التي أراد ديغول أن يسيرها لصالح الإستعمار، هذه الصورة التي نقلها الإعلام كانت محور نقاشات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 ديسمبر 1960 لتدار في مقر منظمة الأمم المتحدة بنيويورك معركة أخرى دبلوماسية ضد الإستعمار، حيث طرحت القضية الجزائرية أمام الجمعية العامة وتمكنت دبلوماسية جبهة التحرير من ضمان تصويت الأغلبية الساحقة من الأعضاء لصالح تقرير المصير للشعب الجزائري، وخرجت فرنسا خائبة مرة أخرى أمام المجتمع الدولي.
بعد أن حققت المظاهرات الأهداف المسطرة لها أضطر الجنرال ديغول إلى فتح باب الحوار مع جبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري وهو ما كان يرفضه قبل المظاهرات.
إن الثورة التي تبدأ من الجبل وتصونها القرى والمشاتي، ثم تحضنها المدن ويكون وقودها الشعب يجب أن يكتب لها النصر، وهذا ما تأكد في الثورة الجزائرية.