بوفاة الصحفي الفرنسي المصري بول بالطا تكون الجزائر قد خسرت واحدا من أهم أصدقائها الإعلاميين بعد أن فقدت في العام الماضي الصحفي السوري الجزائري قصيّ صالح الدرويش.
حل بول مراسلا لأهم الصحف الفرنسية “لوموند” في مطلع السبعينيات بعد مراسل آخر كانت له شطحاته وهو”بيرونسيل هوغوز”، الذي نقل إلى مصر، وكانت معرفة بول باللغة العربية فرصة له ليعرف الجزائر أكثر من زملائه ممن لا يعرفون إلا الفرنسية، فيظلون أسرى لبعض من يستعملون هذه اللغة، ولم يكن كثير منهم ممن يعيشون تجربة الجزائر بكل معطياتها ويتفهمون عثراتها ويثمنون إنجازاتها، ولعل هؤلاء كانوا، بشكل أوبآخر، من بقايا الجزائر الفرنسية.
وأحس الرئيس هواري بومدين بأن هذا الإعلامي يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة للجزائر، وتولى المكلف بالإعلام على مستوى رئاسة الجمهورية تنظيم لقاءات دورية مع الرئيس أحيانا ومع مجموعة المستشارين في الرئاسة، تماما كما تم ذلك مع آخرين مثل جون دانيال “أوبزرفاتور” وجورج لامبوط “ليومانيتيه” وجورج مونتارون “الشهادة المسيحية”، وبيير برنار “دار سندباد” وكذلك صحفيون من التلفزة مثل جيرار سباغ.
ويكفي لتأكيد العلاقة التي نشأت بين بول والجزائر أن الرئيس قال له في آخر لقاء له، والذي جاء إليه بالطا بالبرنوس: ليتك بقيت معنا لتعيش استكمال التجربة التنموية الجزائرية بعد إنشاء قمة الهرم التشريعي، أي المجلس الوطني الشعبي، والاستعداد لعقد مؤتمر الحزب الذي سيعرف إعادة تقييم الرجال والإنجازات، وكان بالطا سعيدا بهذا التقدير ولم يخفه عن زملائه في المركز الرئيسي، الذي كان قد اختار خليفة بول وهوالصحفي دانييل جنكا.
ومرت فترة كاد جنكا يحس خلالها بأنه غير مرغوب به في الجزائر، وكان عليّ أن أقنعه بأن وفاء الجزائر هوموقف طبيعي تجاه من يحبونها، وأننا نتصرف بنفس الطريقة مع كل صديق تنتهي مدة عمله كمراسل إعلامي في بلادنا، وسيحدث هذا معه إن كان يحبنا.
وكان بول واحدا من الصحفيين الذين يحرصون على اللقاء بشكل منتظم مع المستشارين برئاسة الجمهورية، ومكنه هذا من أن يكون من أكثر الإعلاميين معرفة بالجزائر، وكان غالبا ما يأتي للقاء الرئيس وهويضع على كتفيه برنوسا جزائريا.
والحديث عن بول يطول لكنني أسجل له هنا وقفة رجولية فاضل فيها بين السبق الصحفي، وأهم أرصدة الكاتب، وبين حب البلد الذي فتح له ذراعيه على كل المستويات، وضحى بالجانب المهني ليحافظ على المكسب الأخلاقي، وكان ذلك يوم أن هاتفني ليسألني عن صحة ما أوردته الصحافة الكندية في القضية التي عرفت بقضية “ماسكينو”، والتي ورد فيها اسم المناضل الجزائري مسعود زقار.
ورجوت بول ألا ينشر شيئا عن القضية، التي يبدوأنها ألهبت صحافة كندا، إلى أن يتصل به زقار ويضعه في الصورة كاملة، واتصلت بالمناضل الجزائري في العلمة لأبلغه بما حدث ورجوته الاتصال فورا بالصحفي الفرنسي، الواقع تحت سياط إدارة الجريدة لنشر أخبار القضية الساخنة.
واستجاب بول لرجائي ولم يرسل حرفا واحدا إلى “لوموند” حوالي ستة أيام، كان يهاتفني خلالها يوميا ليبلغني بأنه لم يتلق اتصالا من أحد، وبأن إدارة الجريدة تضغط عليه ليكتب مراسلته.
وبعد نحوأسبوع اضطر بول إلى الالتزام بمتطلبات المهنة، وكتب سطورا استقى معظمها من الصحافة الكندية، وقال لي فيما بعد أنه تعرض للوم كبير، وكدت أفهم منه أن هذا هوسبب إنهاء مهمته في الجزائر.
رحم الله بول بالطا، وألهم زوجه السيدة كلودين رولوالصبر والسلوان، ورزقنا بإعلاميين أجانب في نفس المستوى وبنفس الحب.
الراحل في سطور
- توفي المراسل السابق ليومية “لوموند” الفرنسية في الجزائر بول بالطا، مؤخرا في باريس عن عمر ناهز 89 سنة.
يعرف الجزائريون بول بالطا جيّدا بكونه “مقرّبا من الرئيس الراحل هواري بومدين”، الذي أجرى معه عشرات اللقاءات في سبعينيات القرن الماضي، كما ألّف عديد الكتب عن الجزائر وبومدين.
- ولد بول بالطا في مدينة الإسكندرية بمصر سنة 1929، درس الفلسفة والحضارات في فرنسا واهتم بشؤون المغرب العربي والشرق الأوسط ثم توجّه إلى العمل الصحفي، وبسبب اهتماماته انتدبته صحيفة “لوموند” للعمل في الجزائر بين 1970 و1985.
- في معرض الحديث عن سيرته الذاتية، كشفت وكالة الأنباء الجزائرية بأن بالطا “كان صديقا كبيرا للجزائر، استقبله الرئيس بومدين بصفته مراسلا لصحيفة لوموند لمدة 50 ساعة من اللقاءات، امتدت من سنة 1973 إلى غاية 1978، بحسب أقوال بالطا نفسه”.
- في بدايات حياته المهنية عمل صحفيا بوكالة “أسوشيتد برس” الأميركية ثم انتقل إلى صحيفة “باريس برس” ثم “لوموند” في 1970، كما غطى الأحداث الكبرى في منطقة الشرق الأوسط منها الثورة الإيرانية وحرب الخليج الأولى (1980-1988).
- كان بالطا قريبا جدا من الرئيس هواري بومدين، وفي هذا الشأن قال في محاضرة ألقاها في الجزائر “التقيت بومدين أول مرة سنة 1973، لقد قرّبني منه كثيرا، فاكتشفت أنه كان على معرفة بي ومطلعا على سيرتي وأصول أمي المصرية اللبنانية، وهذا ما جعله يقول لي: تسري في عروقك دماء عربية”.
- ألّف بالطا مذكراته، التي ضمنها لقاءاته مع بومدين، وهي في عدة أجزاء منها كتاب بعنوان “لقاءاتي مع بومدين” وكتاب “استراتيجية بومدين”، ومما جاء في شهادته “بومدين كان من الرؤساء الأكثر حضورا مع عبد الناصر وبورڤيبة.. كان صاحب فعل كما كان صارمًا وخجولا وفخورا، كان يحكم بنوع من الذاتية ولكنه كان إنسانيا”.