الحادث الأول: وقع لنا في قرية واقعة بين رأس العيون ونقاوس تدعى «قوشبي» ويدعى مسئول لجنة القرية المسبل: سي الشريف. كان معنا في الانتقال من قمة الجبال إلى هذه القرية الواقعة في الوهاد كل من الشيخ الصغير قارة من سطيف ومن أبرز معلمي جمعية العلماء يشغل مهمة قاضي المنطقة في جيش التحرير، والحاج بوليلة ممرض المنطقة من بلدة قسنطينة، وكل من مرافقي سي مسعود الجنديين: السعيد، وعياش الذي كان يشغل منصب ممرض في مستشفى باتنة الجامعي ولا أدري إذا كان ما يزال حيا.
بمجرد أن انتهينا من وجبة السحور - في منزل مناضل شعبي نسيت اسمه ـ وكنا في شهر رمضان، ونحن على أبواب بزوغ الفجر عرفنا أن فرنسا جيشت جيوشها للقيام بعملية تطويق كبرى للجبل الذي كنا فيه قبل نزولنا إلى جهة نقاوس. وتقرّر أن نحتمي في مغارة أرضية (كازمة) واقعة بالبستان المحاذي للمنزل الذي طعمنا فيه، ودخلنا جميعا المغارة المظلمة التي كانت تهويتها ضعيفة أو منعدمة وأغلق علينا مدخلها، وبدأت أعد الدقائق بل الثواني قبل الاختناق أي الموت لأن الالتهاب الرئوي المزمن الذي كان يلاحقني من المعتقلات الاستعمارية لم يكن ليرحمني. وهنا صاح سي مسعود بمسئول القرية: الشريف أسرع ناد المناضل الذي أغلق المغارة أن يسارع إلى فتحها بلا انتظار لنموت بالرصاص إذا لزم الأمر لا جِيَفا في كازمة. وسارعنا جريا من هناك إلى الضفة الأخرى لمنبسط الأرض المشجر الذي كنا فيه، قاطعين بالتداول الطريق المعبدة التي كانت شاحنات جنود العدو تمر بها أمامنا لإحكام التطويق، وبوادر طلوع الشمس على الأبواب. وأخيرا وصلنا ممر ساقية يتدفق فيها الماء بقوة لتصب في قناة واسعة ضاربة في عمق الأرض. واسترعى انتباهي وبقية الصحب توقف سي مسعود في فم القناة وسط الماء بعد أن شمّر سرواله إلى ما فوق الركبة، ونكب سلاحه في الوضع الذي يجنبه ملامسة الماء. وبأمر منه فعل الجميع المثل وانطلقنا داخل القناة مسافة ما يزيد على عشرين أو ثلاثين مترا في تقديري، كل ذلك وسط المياه إلى أن عثرنا بالتلمس على فتحة كسر جانبية فيها وراءها مخبأ أقامه الفدائيون احتمينا به طيلة اليوم، لنواصل بعد ذلك عملية الكر والفر في الكفاح مثل غيرنا من أبناء الوطن بعزيمة صادقة وإرادة لا تلين جعلت فرنسا وطابورها الخامس من الخونة ينهزمان رغم الفرْق الشاسع في العدد والعدة بين الفريقين المتصارعين: صاحب الحق وعدوه.
- أما الحادث الثاني، فقد تعرضنا له بقيادة سي مسعود بن عبيد دائما في مزرعة في ضواحي نقاوس، شهرين أو ثلاثة أشهر قبل وقف القتال، وكان سي مسعود يلقي خطبا في اجتماعات ليلية للمواطنين مؤطرين بالمسبلين والفدائيين حاثا على مواصلة الكفاح والتضحية. وفي أمسية يوم من الأيام ظننا فيها أن الجو صاف، وصفاء الجو بالنسبة للمجاهد هو: لا معركة، ولا تطويق أو حصار من طرف العدو، ولكن على حين غرة زارت المكان الذي كنا متواجدين فيه دبابتان بعسكرهما، فقرر سي مسعود إخلاء هذا المكان فورا حتى لا يتعرض المدنيون - كالعادة مع فرنسا - للتعذيب والتنكيل وربما حتى التقتيل من العدو خصوصا إذا كانت هناك وشاية. وفعلا وقع الانسحاب فرديا بانتظام إلى الموقع المعين في الاتجاه المحدّد لترتيب الدفاع الضروري إذا اقتضى الأمر لأن الاشتباك مع العدو في المساء يشجّع المجاهد على النيل من العدو دون خسارة تذكر في صف المقاوم، وكان سي مسعود بن عبيد آخر منسحب. وهذا هو الشاهد في هذا الحادث الذي مرّ بسلام.
3 ـ علاقتي بسي مسعود بن عبيد بعد استعادة الاستقلال
^ اقترنت صلتي بالمرحوم في ثلاث مراحل بعد الاستقلال:
كانت المرحلة الأولى بعد استعادة الاستقلال مباشرة لمدة عامين أو ثلاث سنوات (1962 - 1964)، كنت فيها كاتبا عاما لاتحادية حزب جبهة التحرير بعد تسريحنا معا من الجيش: جيش التحرير قبل أن يحمل عنوان الجيش الوطني الشعبي، وكان على رأس الاتحادية في هذه الفترة: إسماعيل شعبان، محمود الواعي، فبلقاسم هني... إلخ، وكان سي مسعود دائما حجر الزاوية كما يقولون لا يُستغنى عنه في الرأي والمشورة ومدافعا شهما ومتمرسا قويا في صالح المجاهدين وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين وعموم الشعب، لا يداري ولا يحابي، وصريح في المناقشة يدافع عن رأيه بكل قوة مع احترام قواعد النظام التي حفظها وتربى عليها أثناء ثورة التحرير، ويكره ضربات تحت الحزام ـ كما يقولون ـ والتلون والإيغال في الحسابات، ولم أره قط يخرج عن الصف حتى ولو لم يقتنع بحجة المناقش له والمعارض له.
وفي مرحلة ثانية، عرفت سي مسعود مستشارا تربويا في سلك التعليم معي بأكاديمية باتنة، كان مربيا ممتازا وبارزا في التكوين البيداغوجي رغم ممارسته السياسة قبل ذلك لفترة طويلة ومواصلته النضال في صفوف الحزب ومنظمة المجاهدين التي كانت في مرحلة النضج.
وفي مرحلة ثالثة: تزاملنا أثناء محاولة كتابة تاريخ الثورة في الثمانينات، وقد حالت ظروف عملي المهني في التعليم دون مواصلة المشوار، فكانت مشاركتي له في التحرير وفي حضور الملتقيات والذكريات أقل من المأمول، أما هو فقد واصل المسيرة والنشاط بجد في إطار منظمة المجاهدين فكان الفارس المجلي الذي لا يمل ولا يكل من السعي في الإبقاء على الشعلة وعلى تنظيم صفوف المجاهدين والدفاع عنهم وإشراكهم في مشاريع بناء الوطن والمحافظة على الذاكرة حتى في أحلك الأوقات التي مرّت بها البلاد (عشرية 1992 مثلا) وبالجملة أدى واجبه الوطني على أكمل وجه.
4 ـ وفاته
اطلعت عليها يوما كاملا بعد لحاقه بربه مما حرمني حتى من توديعه حيا على فراش المرض أو مسجى على باب القبر، وهو ما تأثرت له كثيرا وكثيرا جدا يشهد الله، والحقيقة أن تأثري بلغ مداه حين تذكرت أن مثل سي مسعود من المجاهدين الذين حرّروا الجزائر يفارقوننا يوميا الواحد تلو الآخر، وأبناؤنا من جيل ما بعد حرب التحرير لم يتشبّعوا بالروح الوطنية التي كانت تسري في عروق ودماء أسلافهم ممن حرّروا الجزائر ووقفوا غصة في حلق فرنسا الاستعمارية الاستيطانية، من أمثال مصطفى بن بولعيد الذي كان ولا يزال وسيبقى إلى الأبد مضرب المثل وطنيا في الشهامة والشجاعة والتضحية والخلود، وأمثال العربي بن مهيدي الذي عرض عليه حاكم الجزائر روبير لاكوست أثناء الاحتلال بعد سقوطه في الأسر عرض عليه المقابلة فكان رده في أنفة وشمم: «إن كان سيقابلني كعقيد في جيش التحرير فإني أرفض، وإن كان سيقابلني كأسير فلا فائدة له في ذلك».
وأعود إلى القول: يقينا إن هناك تقصيرا فظيعا منا في غرس الروح الوطنية في أبنائنا إلى حدّ أن أصبحت فكرة «قابلية الاستعمار» التي اكتشفها الفيلسوف الجزائري العالم مالك بن نبي، وسماها العالم الجزائري الكبير الآخر مولود قاسم «القابلية للمركوبية»، قلت: إلى حدّ أن أصبحت هذه الفكرة، والعياذ بالله، قابلة للنمو في أوساط جيلنا المطالب اليوم بحمل أمانة الشهداء.
بالطبع يجب الاعتراف بأنه قد تكون وقعت أخطاء ممن تحمل المسئولية بعد الاستقلال وحتى أثناء ثورة التحرير، ولكن المسئول أولا وأخيرا بشر عرضة للخطأ وبعيد عن عصمة الأنبياء. وقديما قال علماء الاجتماع «أن الجيل الواحد لا يتحمل عبء القيام بثورتين»، فمجاهدو أول نوفمبر 54 - وفي ضمنهم هذا الرجل الذي نحيي ذكراه ـ قد قاموا بما استطاعوا القيام به، ويبقى على جيل الاستقلال مواصلة الدرب فيما سماه الرسول الأعظم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجهاد الأكبر: جهاد البناء وجهاد النفس.
ومن اليقين أنه مهما قيل ويقال عن دور المجاهدين في بلادنا فإنهم - في اعتقادي كمواطن ملتزم - سيبقون أو سيبقى من لا يزال حيا منهم «صمام أمان» للوطن مما يتهدّده من أخطار من الخارج أو من الداخل. وهم بذلك أهل للتقدير والاحترام، وتحضرني بالمناسبة قصة رواها لي الأخ المجاهد محمد مهري المحامي، قال: «التقيت بالعقيد عبد الحفيظ بوصوف - وهو من هو - قبل وفاته بأشهر، وقد كثر اللغط حول موت المرحوم عبان رمضان وعلاقة بوصوف بهذا الموت، فوجدته مهموما مضطربا، فقلت له مخففا: يا أخي أنت واحد من المجاهدين الذين حرّروا البلاد من المستعمر الدخيل، ويكفيكم هذا الإنجاز لتغفر كل ذنوبكم: ما ظهر منها وما بطن وما سبق وما جاء من بعد، فسري عنه وتبسم»، والحديث - كما يقال ـ قياس.
الحـلـقـة 2 و الأخيرة