تعتبر الكتابة عند الكاتب والإعلامي الجزائري خليفة بن قارة رسالة حضارية قبل أن تكون متعة ذاتية، وهذا ما يمكن أن يخرج به القارئ العربي المتتبع لكتاباته، ولعل النبض الوطني والروح النوفمبرية هي التي تطغى على كل نبض وروح في كتابه «الجزائر التي بإمكانها أن تقلع» -منشورات السائحي، 2011، الجزائر -
إن الكتاب الذي جاء في 432 صفحة قد تضمن العديد من الفصول التي توقفت عند القضايا الاجتماعية والثقافية التي تهم المجتمع، مثل الصراع مع الإرهاب، وإشكاليات البيئة والمدينة، ومسائل التطرف الديني، ومهنة الإعلام بكل ميادينها ومشاكلها، والعلاقات الجزائرية المصرية وأزمة كرة القدم…
كما تتوقف بعض الفصول عند الحضور الفرنسي في الجزائر ضمن المجالات المختلفة، وآثار الاستعمار الفرنسي وجرائمه، ويتحدث خليفة بن قارة عن الدول العربية والكثير من القضايا السياسية والفكرية التي تهمها، وكذلك الصراع العربي الغربي والعربي الصهيوني.
وإلى جانب هذا الكتاب فإن بن قارة ألف كتاب «الإذاعة كما رايتها واراها»(2013) وكتاب «أمة في المفترق» (2013)، وللأسف لم تتحصّل عليهما.
هذا القلم..تلك الرّوح
ليسمح لي القارئ هذا الخروج المؤقت عن جوهر المقال، فذلك لزام التوضيح فقط، ونحن نريد التوقف عند بعض مقالات الكاتب بن قارة حول المسائل الوطنية الجزائرية، بامتداداتها الثقافية والاجتماعية.
يرى الكاتب بأن الجزائر مازالت تعاني من الثنائية السوسيو ثقافية، رغم سنوات الاستقلال والبعد الزمني عن فترة الاحتلال إلا أن القرب اللغوي والفكري والسياسي حاضر، فالجزائر من منظوره تسير بفريقين:
1 - الفريق الأول يعتقد انه وريث ثقافة هي الأجدر بقيادة المجتمع نحو العصرنة، ويجزم إلى حد الإيمان أن تلك الثقافة هي وحدها التي تستطيع انتشال الأمة من تخلفها الطويل.
2 - الفريق الثاني يستمد شرعية وجوده من امتداد الجزائر الطبيعي في الحضارة العربية الإسلامية، وهذا الفريق - حسب بن قارة - لم يستطع خلال معظم سنوات ما بعد استرجاع السيادة أن يحتل واقع نافذة مؤثرة.(انظر ص 17-18).
لكن بن قارة لا يقدم الأسباب الجوهرية التي تقف خلف السيطرة الفرنسة والتراجع العربي الإسلامي (حتى الأمازيغي) في المشهد الاجتماعي والفكري والثقافي الجزائري، و نحن نراها باختصار شديد في انتشار ممارسات خيانة مجد الشهداء وعدم الوفاء لهم وعدم تجسد القيم الحضارية الوطنية التي استشهدوا لأجلها؟؟
نقول هذا ببساطة، والأمر يحتاج إلى تأملات أنتروبولوجية وسياسية للمجتمع والدولة لنعرف أسباب وملامح هذه الخيانة.
ويدرس شخصية ووعي المثقف الجزائري وتفاعله مع الأمور السياسية والمجتمعية، فخليفة بن قارة يحاول أن يكشف مواقف المثقف المدجّن الذي أصبح الكرسي دليله في تحليل ما هو محرم للسياسي، ومن المثقفين - عنده - من انحسر في فئتين:
1 - فئة فرت بجلدها إلى الخارج للدفاع عن العلم والفن والإبداع والحياة…
2 - فئة انطوت على نفسها بالداخل في البحث الأكاديمي المجرّد وغرقت في مشاكل الحياة اليومية. (ص 21)
وهي رؤية صائبة من الكاتب، في ظل الصعوبات المادية والاجتماعية التي يعانيها أصحاب العقول في جزائرنا، وأرقام الهجرة غير الشرعية أو الشرعية في ارتفاع، ولا داعي لكي نفتح ملف الحركات الاحتجاجية المتتالية للمعلمين الأساتذة، الطلبة، الأطباء…في وطن يكرم بأمواله محركي القدم على أنغام العنف في الملاعب والكفر والشتم والدم فيها، ولا يكرم محركي العقول وحفظة القرآن إلا بالقليل؟ ولا يحفز العلم والعلماء في مؤسساته؟ ولا يخصص لشعبه فضائية تربوية تعليمية؟ وقنواته التلفزية الرسمية تسوّق للشطيح والرديح لأيام - من دون فتح تحيق من وزارة الاتصال - في الوقت الذي يدفن فيه الشعب شهداء الطائرة من رجال الجيش الوطني الشعبي وأسرهم؟؟
وعلى ذكر الهجرة غير الشرعية (معروفة في المجتمع بالحرقة، ولست ادري لماذا هذا الوصف، هل هو قادم من الاحتراق العقلي والجسدي في وطن البترول؟؟) فقد تنبأ الأديب خليفة بن قارة في سنة 2011 بارتفاع أرقام الحراقة في الجزائر وفي إفريقيا عوما، نقرأ له: «إن أعداد المهاجرين في ازدياد مضطرد، برغم إرادة بعض الخيّرين السياسيين الأفارقة الذين أحسنوا مرافعاتهم لصالحها…وقد تشهد السنوات القادمة نموا كبيرا لهذه الهجرة بسبب تزايد عدد سكان القارة، مع بقاء الحكم ضعيفا ومعيدا لدورة الفساد (ص 45)
وكأني بهذا الكاتب يكتب بروحه الوطنية الصوفية قبل أن يكتب بقلمه الأدبي الفكري، وإذا لم تستمع الدولة لفكره وآرائه ستعيد المشاريع الفاشلة و ستكرر الأخطاء السياسية والاقتصادية، فقلمه يقترح من حين إلى آخر الرؤية الاستشرافية التي تحتاج للتتبع والقراءة الواعية من القارئ.
نحن نعلم أن هذا الكاتب يتفاعل مع الشأن الجزائري من خلال مقالاته الدورية في جريدة «صوت الأحرار» جريدة حزبية لجبهة التحرير الوطني)، فلماذا لا ينتبه أبناء الجهاز السياسي الجبهوي لمواقف الاستاذ خليفة بقدر انتباههم لأخبار وبرامج وتحركات القيادة السياسية؟
الجزائر والاستقلال الناقص؟
إن مقاله «النصر الذي يحتاج إلى إسعاف» يطرح الكثير من الأسئلة حول الراهن الجزائر، ويبحث في الآثار الاجتماعية والثقافية التي خلفها الاستعمار، والآثار الصحية التي سببتها التجارب النووية المدمرة، وضمن افقه الفكري نقرأ مقال «الفرنسية في الجزائر..الغنيمة المسمومة»، وكذلك مقال «الفارون إلى أفواه غيرهم» حيث يتحدث عن الواقع اللغوي في الجزائر، ونتأمل الطابع الساخر في العناوين، و الطريقة الطريفة الذكية في التفاعل مع القضايا، قصد جلب المتلقي لعالمه التعبيري ومن ثمة الوجداني والفكري.
يكتب مقالا عبر السؤال «هل العربية بخير؟»، نقرأ منه: «مازالت اللغة العربية تتعثر بين أبنائها رغم ابتعاد فترة الاحتلال، التي عانت فيها هوية الشعوب كثيرا، إذ تعرضت اللغة باعتبارها جوهر هذه الهوية إلى التشويه والإقصاء والنعت بكل النعوت المنحطة…مما أثر سلبا على الانتشار اللغوي الواجب حدوثه في تنمية المجتمع العربي من اجل استعادة لسانه وهويته». (ص 103).
يريد الكاتب - من خلال مقالات عديدة - تنبيه المجتمع والدولة لإعادة النظر في التعامل مع فرسا الرسمية، وعدم نسيان التاريخ الكولونيالي، ووضعه في الاعتبار عند فتح العلاقات مع الآخر، وقد كتب خليفة بن قارة مقالات كثيرة تحضر فيها فرنسا وممارساتها الماضية والحاضرة من العنوان وصولا للمتن، لدرجة أنني عندما جمعت بعض العناوين وجدت نفسي أمام شبه قصيدة وطنية من أجواء قصائد مفدي زكريا.
سأضع أمام القارئ بعض عناوين المقالات، وليتأملها بروح الشعر، فسيجد الشعر الوطني النوفمبري الجزائري، لنقرأ:
@ فرنسا التي أجرمت واستكبرت
@ فرنسا التي مازالت تقتل في الجزائر
@ فرنسا تصر على تمجيد الجريمة
@ الحمق الفرنسي..من يرد عليه؟
@ أما آن لفرنسا أن تعتذر؟
@ لا..لا تحسبوا أن الجرح اندمل.
هذه بعض عناوين مقالات خليفة بن قارة عن فرنسا الاستعمارية و الإنسان في أرض الجزائر المسقية بدماء الشهداء، والمروية - من بعدهم - بعرق الخيانة، خيانة الرفاق قبل كل خيانة؟؟ فمن يقرأ لكلماتك يا بن قارة؟ ومن يستمع لصرختك الوطنية النوفمبرية قبل أن (…)؟
يدعو الأستاذ الفاضل والإعلامي الوطني إلى سن قوانين لتجريم الاستعمار وانجاز خطوات عملية لمواجهة العودة الفرنسية ، وخطوات الضغط على فرنسا الرسمية يحددها في:
- إسدال الستار أمام الاستثمارات الفرنسية في الجزائر وتغيير الوجهة التجارية إلى دول أخرى في أوروبا آسيا، أمريكا…
- إفساح المجال للغة الأجنبية الحية الأولى في العالم (الانجليزية)، والانفتاح على لغات شعوب البحر المتوسط، عبر شبكة بيداغوجية لتعليم اللغات، وعدم الاكتفاء بالفرنسية فقط.
- رفض القضاء الجزائري النظر في دعاوى استرجاع الأملاك التي رفعها المستدمرون الذين رحلوا مع فرنسا المرحّلة.
وإذا قامت الجزائر بمثل هذه الخطوات @ حسب بن خليفة - ف: «ستأتي فرنسا حاملة بيد اعترافها بجرائمها وباليد الأخرى اعتذارها، ربما يكون مصحوبا بالتعويض المناسب رمزيا عما فقده الجزائريون في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر» (ص 244).
عن الدين والتطرف
كتب خليفة بن قارة بعض المقالات التي تتناول المسائل الدينية في المجتمع الجزائري، ونحن نشهد مؤخرا نقاشات كثيرة حول النص الديني والموقف الفكري والفلسفي و العقلي والاجتماعي…وقد نبه الكاتب بن خليفة لكثير منها قبل سنوات، وهي مسائل دينية وفكرية تتجدد دائما في السياق العربي من القديم، منذ زمن الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ وعهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية.
نقرأ مقال بعنوان «من المسيئون للأعياد الدينية؟»، وفيه يرى المحلل الفكري والثقافي بن خليفة أن الذين يفتون بغير علم يهدمون الأمن الديني الجزائري، وهو محقن فنحن نهتم بالأمن الغذائي (البطني) ولا نهتم بالأمن الديني واللغوي والفكري، كما قد نتتبع أخبار سوق البترول أكثر من أخبار المنهاج التربوي وما يدرس أطفالنا في المدارس من نصوص وقيم ومعارف؟؟
يقول الكاتب خليفة بن قارة عن بعض المفتين: «يحكمون على الحاضر بأدوات الماضي، ويرون المستقبل بعيون التاريخ القديم وحده،يحدثون شرخا كبيرا في جدار الذي يسند الأمة، وتستلهم منه قيمها و أخلاقها وتوازنها، مناجل الوثوب إلى الأمام…» (ص 32)، ومن ثمة يحرص الأستاذ على تجديد الخطاب الديني وإعادة تنظيم العمل المسجدي.
كما نبه لمأزق الفتوى في الجزائر وأزمة الخطاب الديني، ومن يبحث في تاريخ الشعوب والحضارات والدول سيجد أن الاختلافات الدينية و الفكرية قد تتحول إلى مشاهد للفتن والمحن، وعلى الدولة أن تقرأ التاريخ وتتحرك بسرعة لوأد كل صراع فكري ديني، في داخل المساجد أو في شبكات التواصل الاجتماعي أو في أي موقع قد يؤثر في المجتمع الجزائري، بخاصة إذا أسهم فيه الجاهلون أو المتفيقهون، وفتح المجال للعلماء في إطار مؤسساتي أكاديمي.
ويكتب مقال «أنقذوا الإسلام من المسلمين أولا»، ليقول للقارئ العربي أن الجغرافية العربية والإسلامية مشتعلة بالاقتتال والانتحار والتدمير الذاتي،بسبب الصراعات الفكرية بين المتخاصمين وأصحاب المشاريع الحضارية المختلفة، يقول عن زعماء التطرف الديني في المجتمع: «فإذا بهم يصبحون من أشهر رجالات هذا الزمان، بفضل سذاجة المسلمين الذين تصوروا أن هدر دم الأول وتهديد الآخرين بالقتل، إنما سيزيد الإسلام انتشارا وتوسعا و يحميه من المتربصين به والمناهضين له…احتكموا إلى شياطينهم في اغلب الحالات، بينما لم يحكّموا روح الإسلام فيما اخلفوا فيه إلا ما ندر…» (ص 280).
في الختام
هناك الكثير من القضايا الدينية والفكرية والسياسية التي كتبها خليفة بن قارة في هذا الكتاب وفي كتب أخرى، فناقش - مثلا - مشروع الفضاء المتوسطي واللقاء بين جنوب المتوسط وشماله، وآثاره الاقتصادية والثقافية، كما فتح أرشيف العلاقات الجزائرية المصرية، وتأمل مباحث هامة تخص المجتمع الجزائري وتحولاته المتلاحقة، لذلك ندعو الباحثين في الآداب والسياسة والإعلام والتاريخ والحضارة لدراسة مقالات الكاتب خليفة بن قارة ومناقشتها معرفيا.
ونحن نقرأ له باستمرار نبضه الوطني ووهجه النوفبري وقيمه الإسلامية، ودفاعه عن الهوية الثقافية الجزائرية، وكشفه لكل خطر يهدد المرجعية الوطنية والدينية في جزائر الشهداء.