مديـر الأبحـاث بالمدرسـة المتعددة التقنيات..أحمـد كتاب لـ»الشعـب» :

هكذا تجاوزت الجزائر مرحلة «الإجهاد المائي»

حوار: زهراء بن دحمان

أكــثر مــن 1800 مختـبر بحــث منهــا 50 متخصـص في الــري والزراعــة

برزت قضية الأمن المائي كأحد أبرز التحديات التي تواجه الدول، خاصة في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، التي تعيش حالة إجهاد مائي، ما جعل الجزائر تواصل تنفيذ جملة من الإجراءات الاستباقية، في مقدمتها مشاريع تحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه المعالجة، إلى جانب إصلاحات قانونية وتنظيمية طموحة.
ولمناقشة هذه الإشكاليات، أجرت «الشعب» حوارًا مع البروفيسور أحمد كتاب، مدير الأبحاث بالمدرسة الوطنية المتعددة التقنيات والخبير الدولي في الموارد المائية، الذي استعرض من خلاله رؤيته الاستراتيجية لمستقبل المياه في الجزائر، وتوقف عند التحديات الراهنة، مقترحًا حلولًا مبتكرة، ومرسمًا آفاقًا مستقبلية تضمن سيادة مائية حقيقية لصالح الأجيال القادمة.

الشعب: كثيرا ما تردد شعارك «الماء للجميع هو شأن الجميع»، ماهي الفلسفة الكامنة وراء هذه المقولة، ولماذا تعتبر الماء سلعة لا تقدر بثمن في القرن 21؟
 أحمد كتاب: هذه المقولة هي خلاصة عقود من العمل على المستوى العالمي، بالفعل الماء منتج لا غنى عنه ولا يمكن تعويضه بأي شكل من الأشكال، وعلى حد علمنا، تقنيات القرن الجديد لا تسمح بتصنيع الماء ولا شيء يمكن أن يحل محله، علاوة على ذلك، لا يمكن استنساخه. لذلك، يجب حمايته بنصوص قانونية صارمة واعتباره سلعة ثمينة جدا لأنه يزداد ندرة.
الماء هو مصدر تنمية أي بلد، ويستخدم لتوفير مياه الشرب والمواشي، وكذلك للزراعة والصناعة والخدمات وحتى الترفيه. وبهذا الصدد، فإن الأمن المائي هو الأولوية الأولى التي يجب ضمانها، بعد أمن الحدود. بعد ذلك، يأتي الأمن الغذائي، وأمن الطاقة، والصحة، والتعليم، والبحث العلمي والتكنولوجي، إلخ.
بالحديث عن الأمن المائي، كيف تقيمون الوضع الحالي في الجزائر، وماهي أبرز التحديات التي تواجه إدارة الموارد المائية في بلدنا؟
 لقد حققت الجزائر تقدما كبيرا منذ مطلع الألفية في تحسين الوصول إلى المياه وجودتها، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، لكن التحديات لا تزال قائمة وتتطلب رؤية استشرافية وإعادة تقييم الإمكانات الحالية لضمان إمداد مستدام.
@@ نحن نعيش في منطقة تعاني من الإجهاد المائي، ونصيب الفرد السنوي من المياه أقل من 1700 متر مكعب، هذا الوضع إذا لم تتم إدارته بحكمة، قد يؤدي إلى أزمات حرجة، خاصة في غرب البلاد وحتى في الوسط، لهذا التحدي الأكبر هو ضمان استدامة الإمدادات للأجيال القادمة في ظل تزايد الطلب والضغط السكاني، لذلك أصبح اللجوء إلى الموارد المائية غير التقليدية وعلى رأسها تحلية مياه البحر ومعالجة المياه المستعملة بديلا حتميا وإلزاميا يجب النظر فيه، فمستقبل الجزائر يمر عبر وضع استراتيجية في إطار إدارة متكاملة ومستدامة للموارد المائية السطحية والجوفية، وكذلك المياه غير التقليدية.
- ومن البديهي أنه لحل مشكلة الإجهاد المائي بشكل نهائي، يجب التفكير في إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة، مما سيوفر لنا المزيد من مياه السدود لتزويد مياه الشرب والصناعة، واستغلال المياه الجوفية بشكل رشيد.
- على هذا الأساس، يجب البدء بمراجعة قانون 2005 بالكامل، لا سيما فيما يتعلق بشرطة المياه، وهيئة التنظيم، والمجلس الوطني للمياه، إلخ، وجعله متوافقا مع دستور 2020 ومتطلبات تطوير تطلعات «الجزائر الجديدة».
ذكرتم الإطار القانوني، كيف يمكن للدستور والقوانين الحالية أن تدعم هذه الرؤية الجديدة للأمن المائي؟
 الإطار القانوني هو الأساس، ودستور 2020 كان واضحا جدا في هذا الشأن، حيث نصت المادة 21-4 على أن «الدولة تسهر على الاستخدام الرشيد للمياه»، والمادة 63-1 أكدت على «ضمان الحصول على مياه الشرب والحفاظ عليها للأجيال القادمة».
- هذه المبادئ الدستورية تجد صداها في برنامج رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي تعهد بوضع حد نهائي لانقطاعات المياه، لكن قانون المياه الحالي رقم 05-12 رغم أهميته، يحتاج إلى مراجعة شاملة، فقد مر عليه ما يقارب 20 عاما، والواقع تغير، لذلك ينبغي تعديله ليمنح أدوات أكثر فعالية للحوكمة المائية، مع إشراك المجتمع المدني والمواطنين في ترشيد الاستهلاك.
في هذا السياق ما هي الاستثمارات التي ترونها أولوية قصوى لتعزيز البنية التحتية المائية في الجزائر؟
 الاستثمارات يجب أن تكون مدروسة وموجهة، ويمكن أن أذكر 10 استثمارات رئيسية فقط، أولها الاستثمار في معالجة مياه الصرف الصحي، من خلال بناء عشرات محطات التطهير، بهدف إعادة استخدام المياه المعالجة بنسبة 80٪ على الأقل، مواصلة بناء محطات تحلية مياه البحر مع دراسة جيدة لإعادة استخدام المحلول الملحي (الرجيع) لحماية البيئة، بناء مصنع لتصنيع الأغشية، استخدام الطاقة الشمسية، الاستثمار في التكوين والبحث، الاستثمار في التوعية والتواصل والإعلام، نقل المياه السطحية من منطقة إلى أخرى، والربط البيني للسدود، وبناء السدود الصغيرة نقل المياه الجوفية من الجنوب إلى الهضاب العليا، مراعاة التغيرات المناخية، من خلال الاستثمار في أنظمة الري الموفرة للمياه في الزراعة، مكافحة الهدر والتسربات في شبكات توزيع المياه.
تطرقتم إلى التكوين والبحث، ما هو دور الجامعات ومراكز البحث الجزائرية في هذه الاستراتيجية؟
 دورها محوري وحيوي، الجزائر تمتلك قاعدة صلبة أكثر من 1800 مختبر بحث منها 50 على الأقل متخصصة في مجال المياه والري والزراعة، 30 مركز بحث متعدد التخصصات (أصبح إنشاء مركزين للبحوث، أحدهما في تحلية المياه والآخر في معالجة مياه الصرف الصحي والري، ضرورة)، بالإضافة إلى برامج وطنية للبحوث (PNR) تشمل أكثر من 100 مشروع بحثي حول تحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي، والأغشية، وتكوينات في الليسانس، والمهندسين، والماجستير، والدكتوراه في مجال المياه بشكل عام، وبشكل خاص في معالجة مياه الصرف الصحي، وتحلية المياه، إلخ.
- كما يتم تكوين مئات المهندسين وحملة الماجستير كل عام في مجال المياه في أكثر من 20 مؤسسة للتعليم العالي، كالمدرسة الوطنية المتعددة التقنيات بالجزائر، المدرسة الوطنية العليا للري، جامعة عموم إفريقيا PAUWES- تلمسان، جامعات البليدة، بشار، البويرة، تلمسان، وهران، الأغواط، بجاية، تيزي وزو، الشلف، عنابة، باتنة، بسكرة، المدرسة الوطنية العليا للفلاحة، جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا، إلخ). غالبية مذكرات تخرج المهندسين والماجستير مرتبطة مباشرة بالقطاعات المستخدمة والقطاعات الصناعية، وتؤدي هذه المواضيع بشكل متزايد إلى إنشاء شركات ناشئة.
- في هذا الإطار، من الضروري توحيد كل هذه الكفاءات، وكما اقترحت في عام 2024، فإن إنشاء شبكة وطنية في مجال المياه - قد رأى النور في 11 فيفري 2025 تحت رعاية الوكالة الموضوعاتية للبحث في العلوم والتكنولوجيا (ATRST) والمديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي (DGRSDT) وتسمى «الشبكة الموضوعاتية في الأمن المائي» لكن ما زلنا ننتظر صدور قرار إنشائها الرسمي.
- هذه الشبكة ستجمع كل التخصصات من التحلية إلى الري والإدارة، وستكون جسرا بين البحث العلمي والقطاع الصناعي، كما أقترح فتح تكوينات جديدة في الإدارة والتسيير والتخطيط في مجال المياه، لتكوين مستخدمين ومسيرين أكفاء قادرين على مواكبة التحديات الحديثة.
تبنت الجزائر خيار تحلية المياه كحل استراتيجي، كيف تقيمون هذا التوجه، وماذا يعني الانتقال من مفهوم «الأمن المائي» إلى «السيادة المائية»؟
 تعد تحلية مياه البحر في الجزائر خيارا وقرارا لا مفر منه وإلزاميا لضمان الأمن المائي، وبالتالي الأمن الغذائي، وقد تبنى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ببصيرة وتفكير ناضج، وبإمكانات مادية كبيرة، خيار التحلية بسرعة في السنوات الأخيرة لحل مشكلة الإجهاد المائي التي تعيشها بلادنا العزيزة الجزائر.
- وهكذا، فإن المحطات الخمس التي تبلغ طاقة كل منها 300 ألف متر مكعب يوميا، والتي تم تدشينها في مارس 2025، كلفت ما يعادل 2.4 مليار دولار، ناهيك عن المحطات السبع المخطط لها بين عامي 2025 و2030.
- وتجدر الإشارة إلى أنه من المخطط إنشاء 7 محطات تحلية بين عامي 2025 و2030، أي ما يقارب 2 مليون متر مكعب يوميا، وسيكون لدينا إجمالي ما يقارب 8 ملايين متر مكعب يوميا في عام 2030.
وتجدر الإشارة إلى أن محطات التحلية تتم دراستها وبناؤها بنسبة 100٪ بكفاءات جزائرية، ويتعين علينا اليوم إنشاء مصنع لتصنيع العتاد الخاص بالتحلية من أجل تحقيق أمن مائي كبير، لأنه بدون العتاد، لا يمكن أن تكون هناك تحلية.
- بالنسبة لعام 2025، لم نعد نتحدث عن «الأمن المائي»، بل عن «السيادة المائية»، لأن المياه مهمة لاستهلاك مياه الشرب، وللثروة الحيوانية، وللري الزراعي، وللصناعة، والصحة، والسياحة، والبيئة... إلخ.
لهذا السبب، فإن إنشاء مجلس وطني للسيادة المائية يتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية، يصبح ضرورة والتزاما، على غرار الوكالة الوطنية للأمن الصحي، والمجلس الوطني للبحث، والمجلس الأعلى للطاقة، والأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجية التي تبذل جهودا كبيرة من أجل تنمية مستدامة للعلم والتكنولوجيا والابتكار وضمان مكانة مشرفة للجزائر بين الأمم...إلخ. ومن الآن، يمكننا القول إننا على المستوى العلمي نصنف من بين الأوائل في إفريقيا في العديد من المجالات، وخاصة تحلية المياه، حيث نصنف في المرتبة الأولى.
- إنشاء هذا المجلس الوطني للسيادة المائية يستكمل الجهود التي يبذلها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في جميع المساعي والرؤى المتعلقة بالمياه، وكذلك في جميع المجالات الأخرى: الزراعة، الطاقة، الشباب، الصناعة، إلخ.
@@ نحن لا نتحكم حاليا في التغيرات بحلول عام 2030، 2050، وفي الوقت الحالي يجب أن نواصل مع تحلية المياه، مع النظر في جميع الإمكانات الأخرى التي تسمح لنا بالحصول على المزيد من الموارد المائية على المدى المتوسط والطويل. وفي هذا الصدد، فإن الجهود التي يبذلها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ببراعة وتفان تستحق التحية والتشجيع.
يعتبر بعض الخبراء والمختصين أن سعر الماء في الجزائر لا يعكس تكلفته الحقيقية، ماهي رؤيتكم لتسعيرة عادلة ومستدامة، وماذا عن دور المواطن في الحفاظ عن الثروة المائية؟
- تسعيرة المياه بقيمتها الحقيقية هو وسيلة لترشيد وحتى زيادة الموارد المائية، من خلال تحقيق وفورات حقيقية للجميع، على سبيل المثال، تصل تكلفة المياه المنتجة من محطة تحلية مياه البحر إلى 120 دينارا جزائريا للمتر المكعب عند الشراء، وحوالي 150 إلى 200 دينار جزائري للمتر المكعب عند صنبور المستهلك، في حين أن الشريحة الأولى (أقل من 25 مترا مكعبا في الربع) لا تُفوتر إلا بسعر 8.65 دينار جزائري للمتر المكعب منذ عام 2005.
- إن زيادة عادلة قدرها 1 دينار جزائري سنويا للمتر المكعب خلال العشرين عاما الماضية كانت ستعطي سعرا يناهز 28 دينارا جزائريا للمتر المكعب في عام 2024.
- يجب مراجعة شبكة التسعير مع احترام المعايير الدولية والرواتب الجزائرية، مع مراعاة الحد الأدنى للأجور المضمون والمداخيل المنخفضة، ويمكن تطبيق تسعيرة تضامنية للمياه (تضامن مائي) بمنح 9 أمتار مكعبة مجانا لكل مواطن كل ثلاثة أشهر (معيار منظمة الصحة العالمية للكمية الدنيا للشرب وتلبية احتياجات النظافة)، تسعيرة اجتماعية لـ 21 مترا مكعبا في الربع بسعر معقول جدا، تسعيرة عادية لـ 20 مترا مكعبا في الربع بدعم من الدولة، تسعيرة الرفاهية، أي أن الاستهلاكات التي تزيد عن 50 مترا مكعبا في الربع ستدفع السعر الحقيقي للمياه لضمان الإنصاف والعدالة، وإشراك كبار مستهلكي المياه وخاصة تجنب هدر هذا المورد النادر وتحقيق وفرة في المياه.
 من شأن هذه التسعيرة أن تؤدي إلى توفير أكبر لهذا المورد النادر، وضمان توازن ميزانية شركات توزيع المياه، ومن البديهي أن القطاع الصناعي وقطاع الزراعة، وهما قطاعان اقتصاديان، سيدفعان السعر الحقيقي للمياه، مع تقديم إعانات ومساعدات وقروض بنكية لاستخدام تقنيات الري التي تستهلك كميات قليلة من المياه، ومع هذه التسعيرة الجديدة، سنرى بالتأكيد المزيد من المياه المتاحة للسنوات القادمة لجميع قطاعات الأنشطة، بما في ذلك الأنشطة الترفيهية.
والمواطن هو الحلقة المفصلية، والقانون الجديد للمياه يجب أن ينص بوضوح على مساهمة المواطنين في اقتصاد المياه، لأنه لديهم دور في المراقبة، التوعية، وترشيد الاستعمال إلى جانب الجمعيات والبلديات.
 لا يمكن أن نطلب من الدولة توفير الماء بلا حدود وبأسعار رمزية، فيما يهدر المواطن عشرات الليترات دون وعي، الترشيد ثقافة يجب أن تغرس منذ الطفولة عبر المدارس والإعلام.
كلمة أخيرة للقراء
منذ أكثر من 40 عاما، كانت شعاراتي على الصعيدين الدولي والوطني هي ماء بجودة وكمية للجميع: فلنقتصده، الماء للجميع هو شأن الجميع: فلنحافظ عليه.
 الموارد المائية موجودة، والحلول موجودة، ولدي خطة عمل، ورؤية لأفق 2025/2050 مع حوالي 15 إجراء رئيسيا، تحتوي على مئات المقترحات والإجراءات الملموسة. إذا تم تنفيذ هذه الخطة من قبل الجهات المعنية، فسيتم نسيان الإجهاد المائي في الجزائر.
لا يمكنني تفصيل كل هذه الإجراءات والمقترحات هنا، لأن ذلك سيستغرق صفحات وصفحات، وعندما يحين الوقت، سيتم عرضها على السلطات الجزائرية العليا ووضعها موضع التنفيذ. إن إنشاء مجلس وطني للأمن المائي أو بالأحرى للسيادة المائية يبدو إطارا مناسبا لتطوير ووضع كل هذه المقترحات موضع التنفيذ، فمستقبل الجزائر يمر عبر وضع استراتيجية في إطار إدارة متكاملة ومستدامة للموارد المائية السطحية والجوفية، وكذلك المياه غير التقليدية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19856

العدد 19856

السبت 23 أوث 2025
العدد 19855

العدد 19855

الخميس 21 أوث 2025
العدد 19854

العدد 19854

الأربعاء 20 أوث 2025
العدد 19853

العدد 19853

الثلاثاء 19 أوث 2025