النّاقدة نُسيبـة عطـاء اللّـه تفتـح قلبها لـ «الشعـب ويكاند»:

المــرأة تـولد شاعـرة والعـالم يتكفّـل بالباقــي

حوار: نور الدين لعراجي

 القصيـدة النّسائيـة تتمـيّز بفكــرة العَـوْد الأبــدي

 الشّعر أكــــثر غمــــوضا مـن السّـرد وكــثيرا ما يكــون تهمتهـــا


تحمل ذاتها كما النوارس ترحل في المواسم بحثا عن أماكن للعيش، كذلك تفعل نُسيبة صاحب «فايس عشق» و»الجلوس عند الهاوية»، تهوم بين أمّهات الكتب، لا تختلي بالأدب فقط، بل تقرأ الفلسفة وتمارس النّقد دراسة وكتابة، وعلى مدرجات الجامعة تلقي محاضراتها، تستمع إلى الطلبة، وبصفحتها الافتراضية تفتح أحضانها لقراءات مختلفة متعدّدة..
في الأمسيات الأدبية وبجرأة كبيرة تسرق الأسماع لتغيّر بوصلة القصيدة حين الإلقاء. هي ضيفة «الشعب ويكاند»، في هذا اللّقاء الأدبي حول القصيدة، ومشاق الكتابة. تقول: «إذا لم يحفظ الشّاعر إنسانيّته من الجفاف لن يشعر بشيء وحتما لن يقدّم شيئا، لهذا تحدّي القصيدة الآن عموما هو أن تبقى، لأنّ أثر القصيدة لا يكون على الشّعر لوحده، وبناء النّص الشّعري فحسب، بل على الحياة وسيرورتها.»

- الشعب: هل أنت من دعاة تصنيف القصيدة الأنثوية والذّكورية؟
  الشّاعرة نُسيبة عطاء اللّـه: كنت أغضب في السّابق من هذا التّصنيف، لأنّني شاعرة أعيش في مجتمع يُشعر المرأة بأنّها في محلّ منافسة مع الرّجل، ويجب أن تكون أفضل معاييريّا حتى تستحقّ لقب شاعرة، فكتبت العموديّ وكنتُ أفتتح به الأمسيات لأثبت للحضور الذّكوري أنّني أملك المعايير التي تمكّن قصيدتي من انتزاع الشّعرية المدسوسة في جيوب الشّعراء والشّاعرات العموديّات.
إنّه سؤال عميق وفضفاض! نذرت الأديبة والشاعرة والدكتورة النفسانية كلاريسا بنكولا عقدين من عمرها في البحث عن خصوصيّة المرأة الشّاعرة، بالغوص في التّاريخ الأنثوي للنّساء المبدعات من أجل الاتّصال بقواها المتوحّشة التي هي سجلّ لما وراء شعريّتها وشاعريّتها، كيف تصبح المرأة شاعرة يمكنني أن أقول أنّها تولد كذلك، والعالم يتكفّل بالباقي.

- هل يعني ذلك تحرّرك من قيود الرّؤية الذّكورية المزعجة؟
 إذا كان قصدك الذكورية المتسلّطة نعم هو كذلك، فالتوازن يقتضي التمازج بينهما، القليل من الذكورة عند الأنثى والقليل من الأنوثة عند الذكر، وإلا فسيبقى هذا العالم يعاني صدامات كبيرة.
الآن حين تحرّرت من تلك الرّؤية (أنه يجب أن أثبت نفسي من منظور الذكورة الذي لا يزال يغلّف الشعرية الحقيقية باسمه)، بدأت فعلا أرى الفارق ووجدتُ أنّ خصوصية القصيدة النّسائية تكمن في أنّها وحشيّة الأنوثة، ومعنى هذا هو روح الأنثى التي فقدتها المرأة مع الزّمن بالطّريقة التي حدّدها جسدُها في العالم المادّي الذي حرمها شهوة الانطلاق الأولى، لهذا ملامح التّمرد والثّورة والحنين والألم بارزة جدّا عند الشّاعرات اللّواتي عشن طفولتهنّ الأولى في بيئات ريفيّة أو بدويّة وتناغمن مع الطّبيعة ثمّ خنقتهنّ منذ سنّ صغير شروط الحياة التّقليدية المحافظة.

-   ألا يخلق ذلك الشّعور عند المرأة المبدعة نزعة فلسفية تعمق مسافات الفارق بين الأنا واللاّ أنا؟
  دعني أقول أن هذا الشعور خلق عند المرأة العربيّة بالأخصّ نزعة فلسفيّة فيشتيّة، حيث الشّاعرة العربيّة باللّسان الفصيح أو الملحون تنطلق من الأنا، لأنّ ذلك السّجل الأكاشي لحرّيتها بكلّ ما تحملها هذه الكلمة من محمولات، يقع في ذاتها، حيث العالم السّري الذي لا يمكنه إلّا أن يكون قصيدة، فالشّعر إيحاء والتواءات وظلال وألوان ولُعبة أكثر غموضا من السّرد الذي كثيرا ما يكون تهمة لها بأنّها تسرد حياتها؛ ثمّ تلك الأنا تؤكِّد نفسَها وفي الوقت نفسه تؤكِّدُ على اللّا-أنا أو العالم الخارجي، الذي هو في الغالب سجن، وقصيدة الأنثى العربيّة أو من العالم العربي هي النّور المنبعث من ظلمة متوحّشة.
لهذا القصيدة النّسائية عندنا تتميّز بفكرة العَوْد الأبدي التي قال بها الإغريقيون ووُجدت لدى البابليّين وهيراقليطس وأنبادوقليس والرّواقيين، حيث تلتقي القصيدة عند الأنثى ببدايتها، إذا نظرنا إلى الشّعر على أنّه النّهاية الممتدّة لها، فالزّمن عند الأنثى يدور من ذاتها إلى العالم؛ كما يرى أرسطو أنّه بغير النّفس الإنسانية لن يكون هناك زمان، وبغير تاريخِ الأنثى لن تكون هناك قصيدة.

-   هل للقصيدة النّسائية خصوصيّة لدى كلّ شاعرة؟
  بالنّظر إلى تجارب كثيرة نرى أنّ للقصيدة النّسائية في العالم العربي خصوصيّة لدى كلّ شاعرة على حدى حيث مثلا: فلسفة اللّيل والنّبوة عند ربيعة جلطي، وفلسفة المدينة عند نصيرة محمدي، وفلسفة العرفان عند فاتحة معمري، وفلسفة الحنين عند زينب الأعوج وفلسفة التّشكيل عند نوّارة لحرش وفلسفة الطبيعة عند نورا تومي...ونماذج لا تُحصى في هذا المقام، كلّها تجعل الشّعر النّسائي شعرا مكتفيا متكاملا وحده، ولكن وجود كلّ المعاني مجتمعة هو حتما مقدرة عالية على التفكير من أفق بعيد والصّياغة بروح عميقة.

-   لو عدنا إلى الكتابة الشعرية، كيف يمكننا تمييز نصوص تكتبها المرأة ويكتبها الرجل؟
  ما دامت المرأة تُنتج من ذاتها فمعنى هذا أنّها تتشرّب العالم لتؤكّد ذاتها، بينما الرّجل يتوه في العالم للبحث عن ذاته، لكن من منطلق حسّي لا شعوريّ مثل الأنثى، وبالتّالي فحسب رؤيتي، الشّاعر كائن كانطيّ تعتبر ذاتُه المدخلَ الذي تلج من خلاله المحسوسات، فالمعرفة عنده تبدأ بمدركات حسّية آتية من الخارج؛ بمعنى آخر أنّ الأنثى قلبها والطّبيعة معا في التّعبير عن الوجود والمعرفة، أمّا الذّكر كما عند هيجل عقله والطّبيعة معا في التّعبير عن الوجود والمعرفة، وهذا ما يخلق التّوازن الكونيّ، فمحاولة المرأة لأن تكون ذكوريّة في إنتاجها للّغة حتّى ولو كان هذا بدافع الاستفزاز المتسلّط عليها، ستجعلها لا تقول شيئا، رغم أنّها تجيد التّقمص ويمكنها أن تعبّر بذوات مختلفة لكن دون انفصال عن أصلها.

-   هل يمكن توضيح ذلك أكثر، أقصد تبسيط المفهوم بعيدا عن الفلسفة؟
 من خصائص الاختلاف بينهما، أنّ المرأة تتّخذ الرّجل موضوعا للكتابة من مبدأ السّجل الذي تحدّثتُ عنه سابقا، فتصوّر الرّجولة الأوّل عندها هو الذّي يكوّن لديها النّموذج الذي على أساسه تبني مفاهيمها للحبّ،الصّدق، الخيانة، الحاضر، المستقبل والحياة بأثاثها، وهذا لا يعني أنّ الرّجل هو الحالة الجَوهريّة للكتابة، بل هو المادّة المعرفيّة للأشياء التي عند الأنثى ليست منفصلة بل كلّها عجينة واحدة: (الذّات، الوطن، الحبّ، الأمومة، الأبوّة، العطاء، الألم، الرؤيا، المعنى... الخ)،فالأنثى أكثر استقلالية في تعاطيها مع الذّات ومكوّنات الحياة وأكثر يقينيّة في استعمالها للّغة وأقلّ تعقيدا وأكثر تحرّرا في النّثر خاصّة، وكلّما تعمّقت رؤيتها الذّاتية صارت أكثر معرفة بالوجود.

-  هل أنت مع فكرة أنّ الرجل هو مخيّلة المرأة ولا يمكنها التّسلّل خارجه مهما حاولت؟
  أوّلا الرّجل في الأساس هو مخلوق يبحث عن الأمان، وهذه فطرته، قال تعالى: ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خلقَ لكُم مِن أنفُسِكم أزواجًا لتَسكُنوا إليها﴾، وهذا يعني أنّ المرأة والرّجل من النّوع نفسه وتماثله في كونها إنسانا لكنّها تتميّز عنه بأنّها الملجأ، ولهذا الأنثى بالنّسبة للشّاعر هي خزينة الخلاصات الباهظة التي يدفع مقابلها ذاته للاكتشاف، لذلك هو أكثر دقّة في الوصف والتّصوير، ينطلق غالبا من العالم ثمّ ينتهي إلى الذّات التّي كثيرا ما تكون المفهومَ الأنثوي المستقرّ في الفكرة، إذ الرّجل لا يعرف ما يريد حتّى يجد ما يريد بينما المرأة تعرف ما تريد من البداية.
لهذا المواضيع التي تغلب في الشّعر الرّجالي: (الهروب، النّدم، الانتظار، العجز، الحكمة، الواقع، التيه، المحيط، الماضي، الغد، الطفولة، الجسد، الرغبة، الحبيبة، الموت، الحياة، الوقت....إلخ)، وهو مصبوغ بالتّكرار الذي يفضي إلى معنى معيّن، والتّوظيف الأسطوري والتّاريخي لإنتاج اللّغة، وغير يقيني مثل المرأة.
أمّا عن المخيّلة فهي بناء نفسيّ واجتماعي، مثلا المرأة التي عاشت يتيمة في أسرة صغيرة منبوذة عن العائلة الكبيرة تصوّرها للرّجل أكثر مثاليّة من المرأة التي عرفت نموذج الأب والجد والعم...إلخ.
الأولى ستنطلق من مشاعر الألم غالبا، إذا عكست هذا المفهوم عليّ شخصيا فأنا قد عشت الآلام الرئيسية الخمسة كما هي مصنفة علميا: الرفض أو النبذ، الفقد أو الترك، الخيانة أو الغدر، الظلم..وصورة الرجل عندي هي أوسع من أي رجل في الوجود، هي فكرة عميقة ومتضاربة الجذور حيث مصدر كل المرايا العاكسة للحياة كما تبدو لي غالبا بعيدة جدا عن الملامح الوقورة لعالمي الخاص. وأيضا بناء على علاقة المرأة الشاعرة ببيئة طفولتها عند كلاريسا، فإن البيت الأول والانتلاقات المتكرّرة، ثم حياة الطبيعة بالجسد الطفولي ثم الحرمان من تلك الطبيعة بالجسد الأنوثي، أشياء شكّلت إلى حدّ كبير رؤيتي للعالم الخارجي والرجل.
وربما نزعتي في الكتابة عن الحب بالأخص تعود إلى كوني أجيد تقمّص حالات الضعف الإنساني سواء عند الذكر أو الأنثى، لأن علاقتي بالإنسان والعاطفة والآخر المعادي هي علاقتي بنفسي والوَحدة والقدر، وشرح هذا يطول كثيرا.

-   يبقى أثر المرأة في الشّعر متعلّقا بمدى إنسانيّة الإنسان، كيف تفسّرين ذلك؟
 في هذا الزّمن أصبح نشاط المرأة غير واضح، هي تحاول أن تكون للجميع كلّ الأشياء كما تقول كلاريسا بنكولا، لهذا لم تعد القصيدة مؤثّثة مثل المرأة القديمة والبيوت التي تعرف المرأة فيها منزلتها ودورها؛ أنا أرى بصفتي امرأة شاعرة معاصرة أمارس أدوارا مختلفة، أنّ الشّعر هو حماية لذاتي من الانسلاخ والتّفتت في العالم الحادّ والمتحجّر.
والآن قد صار الأمر أشبه بالحرب أن يكتب الإنسان الشّعر خاصّة في أوساط لا تتداوله، لهذا فاعليّة المرأة الشّاعرة في الخليج وفي المشرق حيث الشّعر يمثّل ثقافة شعبويّة، تختلف عن المرأة الشّاعرة في المغرب العربي، حيث الشّعر ليس بتلك المكانة إلّا في حدود ضيّقة بعيدة عن الحياة اليوميّة العاديّة. أحيانا هذا يفجّر القصيدة وأحيانا يقتلها، فبناء على ما قلته سابقا يمكنني أن أعتبر أنّ أثر المرأة في الشّعر متعلّق بمدى إنسانيّة الإنسان التي هي المفسّر لجميع الانفعالات، وهي الفاصل في البناء الرّمزي المختلف عن الإنشاء الكونيّ الطّبيعي للكائنات الأخرى، فالشّجرة تمارس كينونتها بشكل تلقائيّ وتكوّن الثّمار حتّى لوكانت في بيئة قاحلة وميّتة، لكنّ الإنسان وبخاصّة الشّاعر إذا لم يحفظ إنسانيّته من الجفاف لن يشعر بشيء وحتما لن يقدّم شيئا، لهذا تحدّي القصيدة الآن عموما هو أن تبقى، لأنّ أثر القصيدة لا يكون على الشّعر لوحده، وبناء النّص الشّعري فحسب، بل على الحياة وسيرورتها، فهناك من يحتاج إلى الموسيقى ليكون إنسانا، وهناك من يحتاج إلى اللّعب، وهناك من يحتاج إلى الشّعر.

- ما تأثير تاء التّأنيث على الكتابات الافتراضية الجديدة؟
 فرضت مواقع التّواصل الاجتماعي بناءات نصّية جديدة كالومضة والشّذرة مثلا، وهذا يحمّل الشّاعر مسؤولية التّكثيف بالسّهل الممتنع، وأيضا فرضت مواضيع راهنة مثل الخيانة الإلكترونية والحبّ الافتراضي، والمرأة دون ريب لديها ما تقوله بشكل مختلف في كلّ زمان ومكان، فحتّى لو كان الشّعر مذكّرا فالشّعرية مؤنّثة والقصيدة مؤنّثة ولا يمكن أن يكون الشّعر شعرا إلّا بالقصيدة.
المرأة الشّاعرة الآن تأثيرها في وجودها واستمرارها، وهذا هو الأثر الراهن لكن لا شكّ في أنّ هذا التّحول الزّمني، هو مادّة لخلق لغة جديدة بدأت تظهر خاصّة مع الأسماء الشعريّة الشابة، ولعلّ هذا التّحول نحا بالقصيدة لأن تكونَ أكثر واقعيّة، بحضور مفردات التّكنولوجيا وأساليب الإنسان المعاصر في العيش.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024