حاز محمد الأمين بن عائشة بمعهد العلوم السياسية على شهادة ماجستير بتقديمه لرسالة عن الدبلوماسية الجزائرية 50 سنة من الانجازات بتقدير جيد جدا.
ركز الطالب من خلال عرضه رسالة الماجستير التي أشرف عليها الدكتور مصطفى سايج، على تحريك الدبلوماسية الجزائرية بمنطقة الساحل واقتراحات الحلول لعلاج تعقيداته من زاوية سياسية بعيدا عن التصعيد العكسري، والتدخلات الخارجية.
ولأهمية الرسالة التي تصادف إجراء انتخابات رئاسية في مالي، والجهود المضنية للخروج من المرحلة الانتقالية، ننشرها بجريدة ''الشعب'' ضمن صفحة ''مساهمات'' تعميما للفائدة
الشعب
تعرف الدبلوماسية الجزائرية في الأونة الأخيرة حركية مكثّفة باتجاه الوسط الجغرافي المحيط بها من تونس إلى المغرب ومن النيجر إلى موريتانيا مرورا بمالي والساحل الافريقي، فكل هذا التزاحم الدولي في المنطقة والتقارير التي تشير إلى أن منطقة الساحل هي ''أفغانستان ثانية'' تبين بوضوح تزايد أهمية منطقة الساحل وتأثيرها المباشر على الأمن القومي الجزائري، خصوصا مع تنامي المخاطر القادمة من المنطقة وتأثيراتها على الأمن القومي للجزائر خصوصا بعد تفاقم مشكلة الطوارق الذي خلّف وراءه هجرة مكثّفة للاجئين من مالي والنيجر رغم محاولات الوساطة الجزائرية، فكل هذه المعطيات دفعت الجزائر للعمل في محاولة لتغطية الانكشاف والهشاشة الأمنية في الجنوب، خصوصا مع تنامي تهريب الأسلحة والنسيج الملغم القادم من مالي والقابل للانفجار في أي وقت، وما سنيتج عنه من نتائج وخيمة على الأمن القومي الجزائري، خصوصا مشكلة الطوارق الذي يمثلون أحد مكونات المجتمع الجزائري والمنتشرين بصفة كثيرة في كل من الهقار، جانت، تمنراست وأدرار وبالتالي فإن أي إثارة أو خطأ ضد الطوارق المنتشرين عبر الصحراء الكبرى ومناطق الساحل الافريقي من شأنه أن يثير ويحرّض طوارق الجزائر خصوصا وأنّ أقليات الطوارق تجمعهم علاقات وطيدة تتنوع بين التجارة والتناسب، وهو ما يعود بتداعيات سلبية على الدولة والهوية الجزائرية.
الجزائر تقاليد دبلوماسية عريقة
النشاط الدبلوماسي الجزائري هو ليس وليد سنة ١٩٦٢ بل كانت هناك نشاطات دبلوماسية مكثّفة في فترة الاحتلال ١٩٥٤ - ١٩٦٢ التي سعت من خلالها الجزائر إلى التعريف بالقضية الجزائرية وحشد التأييد العالمي للجزائر ضد فرنسا المحتلة، حيث نجحت هذه الدبلوماسية استقلال الجزائر.
كان ظهور الجزائرالمستقلة التي أصبحت من بين اللاعبين الأساسيين المحليين في إفريقيا بحكم خصائصها الجيوسياسية على المستوى الاقليمي، وبحكم الارادة السياسية التي ظهر بها حكامها، وتمثل دورها في الاصطفاف إلى جانب التيار الناهض في محو الاستعمار من القارة الافريقية، والعمل على تحقيق الوحدة والتضامن الافريقيين، فبالنسبة لدعم حركات التحرر فإنه كان المحورالرئيسي في السياسة الخارجية الجزائرية، كان ذلك نتيجة لما عانته الجزائر طوال سنوات الكفاح ضد المستعمر، ولذلك كان تضامنها مع حركات التحرر في إفريقيا وفي غيرها قويا جدا، كما عملت الجزائر بقوة على توحيد القارة الافريقية ودعم التضامن بين شعوبها، في حالة محاولة تعديل الحدود، ومن ثم يمكن أن تمهد لعودة الاستعمار من جديد إلى إفريقيا أو تدخل قوى أجنبية أخرى، وكانت منظمة الوحدة الافريقية من أهم الانجازات التي تحقّقت وسمحت بتوحيد الشعوب الافريقية للدفاع عن مصالحها الاقتصادية، وتحرير الشعوب الافريقية.
ومع مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سنة ١٩٩٩ شهدت السياسة الخارجية الجزائرية حركية دبلوماسية مكثّفة باتجاه الوسط الجغرافي المحيط بها من تونس إلى المغرب ومن النيجر إلى موريتانيا مرورا بمالي، ويقود هذه الحركية الدبلوماسية عبد العزيز بوتفليقة رئيس الجمهورية، وينطلق فيه من فكرة أساسية ــ حسب رأينا ــ مفادها أنّ الجزائر تتميز بالعقم الاستراتيجي الذي يمنحها القوة والقدرة على التحرك من محيطها الجيوسياسي، ويتمثل هذا العمق الاستراتيجي في البعد الجغرافي والبعد التاريخي والحضاري، فجغرافيا تتمتّع الجزائر بموقع الدولة المركزية في القارة الافريقية فهي بوّابة إفريقيا بالنسبة لأوروبا، وهو موقع تنفرد به مقارنة بالدول الافريقية الأخرى، وهذه الميزة تعطيها قوة للتحرك في المجالات الحيوية للقارة كدولة مركزية وليست دولة ارتكاز بين العالم الغربي والعالم الاسلامي، بالاضافة إلى أنّ الجزائر تعتبر ثالث قوة اقتصادية في إفريقيا.
كما أنّ أولويات السياسة الخارجية الجزائرية ترتكز على الأمن بمفهومه الموسّع، حيث سيطر هذا المفهوم على كل العمل السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي للسياسة الخارجية الجزائرية خصوصا في مجال مكافحة الارهاب، حيث تنضوي الجزائر تحت ١٤ صك دولي في مجال مكافحة الارهاب، أما الأولوية الثانية فهي للتنمية الوطنية والجهوية، أما الأولوية الثالثة فهي تحسين وتلميع صورة الجزائر في الخارج في ما يعرف بالدبلوماسية العمومية.
مكافحة الارهاب أولوية جهوية
عرف النشاط الدبلوماسي في الجزائر حركية ملحوظة بسبب التحولات الاقليمية والجهوية التي تعرفها مناطق الجوار، ممّا دفع إلى مسايرتها والتفكير في الأساليب الملائمة للتعاطي معها، وكثيرا ما حظيت مقاربات الجزائر في هذا المجال بالتقدير والاحترام، رغم الانتقادات التي يوجّهها لها البعض بسبب التزامها الصمت إزاء بعض القضايا، في الوقت الذي أكّدت فيه الجزائر على تمسّكها بدبلوماسية الأفعال وليس دبلوماسية التصريحات.
وقد نجحت هذه الدبلوماسية في الكثير من المناسبات في تمرير الرؤى الخاصة بمكافحة الارهاب والجريمة المنظّمة، وكافة الآفات المتعلّقة بالشق الأمني مباشرة.
ولعل أكثر ما ميّز حركية الدبلوماسية الجزائرية هو التطورات الخطيرة التي تشهدها مشارف الحدود الجنوبية للبلاد، بسبب الأزمة في شمال مالي، وذلك في أعقد قضية عرفتها المنطقة بسبب التداعيات الخطيرة التي قد تنعكس لا محالة على كافة مناطق الساحل، وقد ركّزت الجزائر كثيرا على إيجاد حل سلمي لهذه الأزمة وتفادي التدخل العسكري الذي ستكون نتائجه وخيمة على المديين القريب والبعيد.
حرصت الجزائر على إبعاد الخيار العكسري في التعاطي مع هذه الأزمة، في الوقت الذي يحظى فيه بؤجماع من قبل بعض الدول الافريقية والقوى الكبرى، فإن الدبلوماسية الجزائرية لم تفقد الأمل من أجل التوصل إلى إيجاد تسوية سلمية، رغم مصادقة مجلس الأمن على لائحة تجيز التدخل العسكري بشروط انتهى بتدخل عسكري فرنسي.
في اعتقادنا فإنّ سياسة الجزائر في مجال الأمن في منطقة الساحل يشوبها العديد من النقائص، حيث أن العلاقات الجزائرية ـ الساحلية تتميز بالتقطع وعدم الاستمرارية، وهذا راجع إلى غياب الجزائر المتكرر عن أحداث المنطقة إلا في حالة الخطر الحقيقي مثل أزمة مالي، وهو ما يفسح المجال لدول أخرى (المغرب، فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية) بنسج علاقات مع فواعل في المنطقة تكون أغلبها ذات مشاريع معاكسة ولا تخدم المصالح الجزائرية.
حيث أن الجزائر لم تستخدم كافة امكاناتها الاقتصادية في علاقاتها مع دول المنطقة، وهذا الضعف في التعاون الاقتصادي يرجع إلى عدم اهتمام الجزائر بالمنطقة الساحلية على غرار اهتمام الجزائر الموّجه دائما نحو الشمال.
وفي المجال الثقافي والديني لم تستغل الجزائر كما يجب الروابط والعوامل التي تربط شعوب المنطقة على غرار عامل الدين واللغة وكذا استخدام الزوايا (التيجانية خصوصا بحكم انتشارها في المنطقة)، حيث بإمكان الجزائر لعب ورقة العامل الديني من خلال استقبال الطلبة والأئمة لتكوينهم في هذا المجال، حيث أن زوايا أدرار كانت في القديم وجهة طلاب العلم من سكان منطقة الساحل الصحراوية.
إنّ تجنّب الجزائر للتهديدات والمخاطر الأمنية القادمة من منطقة الساحل باعتباره ساحل أزماتي، يحتّم عليها استغلال عدة أبعاد تتميز بها المنطقة بإمكانها أن تشكّل وسيلة لتقوية الروابط معها وفي كافة المجالات، هذه الأبعاد تتمثل في الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية والأمينة، فالموقع الجيوسياسي لمنطقة الساحل يجعل من الجزائر بوابة المنطقة إلى إفريقيا وأوروبا في نفس الوقت، كما أنّ شساعة حدود الجزائر مع منطقة الساحل يجعلها في عرضة دائمة وفي حالة انكشاف أمني دائم.
وحسب رأينا فإنّ كل هذه العوامل تساهم بدرجة كبيرة في تقييم وتحديد مستقبل المقاربة الجزائرية تجاه أزمة مالي ومنطقة الساحل ككل والذي يحتمل سيناريوهين رئيسيين :
ــ السناريو الأول : وهو استمرار الوضع القائم للمقاربة الدبلوماسية الجزائرية تجاه الساحل الإفريقي.
ــ السناريو الثاني : وهو تزايد اهتمام الجزائر بالساحل الإفريقي على خلفية المنحى التصاعدي للأزمات والتهديدات القادمة من المنطقة.
أمّا سيناريو التهميش فهو وارد أيضا نظرا لعدم اهتمام الجزائر بالمنطقة في الوقت الراهن وعدم قدرة الجزائر على فرض أجندتها الدبلوماسية، بالإضافة إلى وجود أطراف أخرى خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا والصين خصوصا من الناحية الاقتصادية بالإضافة إلى تهديد الجماعات الإرهابية المختلفة التي هي في تزايد مستمر.
وبالتالي فإنّ أي مقاربة جزائرية أو أجنبية لإيجاد حل للأزمة في مالي ومنطقة الساحل عموما لابد أن تقوم على العناصر التالية :
١ ــ الاعتراف بأنّ التهديدات وإن اختلفت حدّتها من دولة لأخرى هي تهديدات مشتركة، وهذا ما يقتضي تحرك وعمل مشترك.
٢ ــ كل هذه التهديدات تقتضي وجود استراتجية متعددة الأطراف ومتعددة الأبعاد.
٣ ــ بالنظر إلى ضعف المقدّرات الذاتية لدول المنطقة دون الجزائر، فمن الضروري وجود تعاون دولي للدعم اللوجيستي لكل من النيجر ومالي وموريتانيا ــ دول الميدان ــ
٤ ــ الإقرار بأنّ الإقليم يحتاح ريادة جزائرية بحكم المقدرة والخبرة، والارتباطات الدولية في مجال مكافحة التهديدات خصوصا الإرهاب.
٥ ــ من واجب دول المنطقة، ودول الجوار الاستراتيجي وكذلك المجموعة الدولية عموما، وخاصة الأمم المتحدة ووكالاتها، العمل حسب منطق يجمع بين الاستباقية ـ الوقاية ـ والحماية ضد الكوارث المحتملة من فشل الدول، الحروب الداخلية وحتى الارهاب وذلك عن طريق تمكين هذه الدول من تحقيق شروط التنمية.
وتستمد العقيدة الجزائرية توجّهها العام من المبادئ العامة المستمدة من ركائز عدم التدخل في شؤون الآخرين، وهو ما لاحظناه في التحرك الجزائري حيال الأزمة الليبية التي أنتجت ثورة أدت إلى تغيير طبيعة النظام بدعم من حلف الناتو، وهي الرؤية التي تجد لها ركائز قانونية ودستورية تحدّد المهام الأساسية لأجهزة الأمن الجزائرية التي تنحصر مهامها في حماية وصون سيادة الدولة وحدودها، تقوم السياسة الخارجية منذ الاستقلال على ثقافة سياسية تركّز على دور السلطة التنفيذية بشكل شبه حصري في تحديد معالم الوجهة للسياسة الخارجية في ظل تغييب للسلطة التشريعية وفي ظل غياب لنقاشات وطنية ومع إمية حزبية بارزة في شؤون السياسة الخارجية.
الجزائر وبموقعها الاستراتيجي أصبحت مطالبة أكثر فأكثر بمراجعة علاقتها مع دول الجوار، خصوصا في الجنوب حيث المشاكل والتهديدات التي تعاني منها منطقة الساحل الإفريقي تتفاقم بشكل سريع وخطير دون اهتمام كبير من المؤسسات المسؤولة عن الأمن القومي الجزائري بشقّها السياسي والعسكري التي لا تتحرك إلاّ في إطار رد الفعل والتركيز على العمل العسكري أكثر من السياسي والدبلوماسي. صحيح أنّ التهديدات الأمنية في منطقة الساحل تتطلّب أحيانا العمل العسكري فقط لكن الرهان على هذا العامل قد لا يكون مفيدا وصالحا في كل الأحوال، فلا يمكن القضاء على الفقر والسيدا والفيروسات الأخرى بالدبابة العسكرية، فالجزائر اكتفت بإجراءات وحلول ناقصة لا تكفي لوضع حدّ لهذه التهديدات الأمنية خصوصا مع وجود أطراف أجنبية تعمل على الرفع من مستوى التهديدات في المنطقة لخدمة أجندتها الجيواستراتيجية في المنطقة.