تخوّف من تقلّـص الحـــق في الإعــلام والخدمـة العموميـة
إدخـال الصحافيـــين كمساهمـين عبـر تعديـل قانـون الإعــلام
عجّلت الأزمات المالية والاقتصادية والتحوّلات التكنولوجية الرّقمية بغلق العديد من المؤسّسات الإعلامية بمختلف أنواعها وخاصة المكتوبة، حيث انتشرت الحيرة في أوساط الصّحافيّين خوفا على مستقبلهم المهني والاجتماعي، في ظل غياب أيّة مؤشّرات على تحسّن الوضع مستقبلا بعد أن أكّد الجميع بأنّ الأزمة عالمية ومستمرّة لسنوات طوال.لم يقتصر توقّف الصّحف وإعلان إفلاسها وعدم قدرتها حتى على دفع أجور الصّحافيّين وحقوق الطّباعة على الجزائر فحسب، بل أعلنت العديد من الصّحف العالمية التوقف عن الصّدور على غرار جريدة “السّفير” اللبنانية بعد أكثر من 42 عاما من التّواجد، بسبب متاعب مالية، مثلما برّره طلال سلمان ناشر الصّحيفة ورئيس تحريرها.
كما قرّرت الكثير من الصّحف الانتقال إلى الصّحافة الالكترونية، والتخلص تدريجيا من الصّحافة الورقية التي باتت أعباؤها تتكاثر، وبالمقابل تسجيل تراجع كبير في المداخيل الاعلانية أو الاشهارية.
ويجعل هذا الأمر أي “الحق في الاعلام والخدمة العمومية” مهدّدين مستقبلا، وهو ما جعل الكثيرين يدقّون ناقوس الخطر لإنقاذ الصّحافة المكتوبة، التي كانت أهم قلاع حماية الجمهورية من التطرف، وطرفا مهمّا في الوقوف أثناء الأوقات الصعبة إلى جانب البلاد، كما أنّها دفعت أكثر قوافل شهدائها في العشرية السّوداء.
الحق في الاستمرار ليس للجميع
عرفت السّاحة الاعلامية الجزائرية توقّف العديد من العناوين عن الصّدور على غرار “الجزائر نيوز 2014”، “الأحداث في 2016”، “لاتربين في 2017” و«التحرير 2017”، ناهيك عن وجود الكثير من الصّحف الأخرى تحت وطأة متاعب كبيرة جدا على غرار “صوت الأحرار” ويومية “ليبرتي” اللّتين قام صحافيوهما وعمالهما بوقفة احتجاجية شهر أفريل الماضي للمطالبة بأجورهم في صورة التّهديدات الكبيرة التي تهدّد حياة الكثير من الصّحف.
وتأثّرت الصّحافة المكتوبة بالأزمة الاقتصادية التي ضربت الجزائر منذ 2014 بعد انهيار أسعار النّفط من 107 دولار إلى 30 دولارا تقريبا قبل أن يعاود الارتفاع إلى حدود 52 دولارا، وانعكس ذلك سلبا على واقع الكثير من المؤسّسات الاعلامية المكتوبة، وانخفض عدد سحب الجرائد الوطنية في المطابع الحكومية بنسبة 45 بالمائة،كما انخفض سحب كل الجرائد من دون استثناء.
وتشير آخر الاحصائيات التي أعلنت عنها وزارة الاتصال في 2015، أنّ عدد اليوميات قد بلغ 149 منها 86 بالعربية و63 بالفرنسية بمعدّل سحب ٣ . ٢ مليون نسخة، وهذا في الوقت الذي كانت فيه حسب نفس الهيئة وجود 80 يومية، منها 41 بالعربية و39 بالفرنسية، بمجموع سحب 3 ملايين نسخة في 2010، ولم تستقر الصحافة الجزائرية منذ إقرار التعددية على عدد معين من الصحف، حيث كانت الكثير من المعطيات تتحكّم في إصدار الصحف خاصة مع المادة 14 من قانون الإعلام 90 - 07، التي كانت تمنح لكل مواطن الحق في إنشاء دورية، قبل أن يتوقّف منح الاعتماد في 1994 وإحالته على وزارة العدل.
530 عنوان إعلامي في التّسعينيات
شهدت السّاحة الإعلامية في التّسعنيات من القرن الماضي ظهور 530 عنوانا إعلاميا، وكانت 122 عنوانا في سبتمبر 1991، ليستقر العدد في سنة 1994 عند حوالي مائة تابعة للقطاع الخاص و06 عمومية من بينها 27 يومية، 59 أسبوعية و33 دورية، وكان سحب اليوميات 905 آلاف نسخة يوميا، في حين كان سنة 1991 عند حوالي 1 ، 2 مليون نسخة، وعرفت سنة 1994 ميلاد “لو كوتيديان دورون” كصحيفة يومية جهوية ناطقة بالفرنسية، والتي أصبحت وطنية فيما بعد ووصل سحبها سنة 2002 إلى 200000 نسخة.
وشهدت الصّحافة المكتوبة بعد 1995 صعوبات كبيرة عجّلت بتوقّف العديد من الصّحف بسبب المتاعب المالية وانهيار اقتصاد البلاد بسبب الديون الخارجية وانهيار أسعار النفط، ونقص موارد الاشهار، والتهديد الارهابي الذي كان مصدر موت للصّحافيّين والإعلاميّين، ووصل عدد اليوميات سنة 1995 إلى 22 يومية، ما جعل السّحب ينخفض إلى 800 ألف، وتوقّف 20 عنوانا في ذات الفترة منها 10 باللغة الوطنية.
ولم تختلف سنة 1996 عن سابقتها، حيث تواصل عدد اليوميات في الانخفاض، حيث بلغ 18، منها 7 باللغة الوطنية و11 بالفرنسية، وعاد المنحنى إلى التصاعد في 1998 أين وصل عدد اليوميات إلى 24، منها 14 بالفرنسية و10 باللغة العربية، وهذا من أصل 106 عنوان، وتميّزت هذه الفترة بظهور”دومان لالجيري”، “لانوفال ريبيليك” و«صوت الأحرار”.
وتواصل سنة 1999 ارتفاع عدد العناوين الإعلامية، حيث ظهر 20 عنوانا جديدا على غرار “اليوم”، “الخبر الأسبوعي”، “لومغراب” و«لوكوتيديان دالجيري”، وقدّر عدد اليوميات بـ 33 يومية، منها 16 بالفرنسية و11 بالعربية و6 جهوية، ووصل عدد سحبها إلى 1 ، 2 مليون نسخة، وسجّلت سنة 2000 ميلاد 3 صحف جديدة هي “الشروق اليومي”، “الفجر” وليكسبريسيون” وارتفعت اليوميات إلى 36 يومية.
من بين الصّحف التي توّقفت في فترة 1990 و2004، نذكر “لوسياكل”،”لوبينيون” توقّفت في 1999، “ليبرال”، “لوكوتيديان دالجيري” توقّفت في 1992، “لوماتانان 2004، “لوكوتديديان دو كابيلي” في 2004، “ألجي ريببليكان 1992، “دومان لالجيري” 1999، لانديبوندون 1994، لوبسرفاتور 1992، “ريبتيور” 1992”،”ليبدو ليبيري” 1992، “ألجي أكتيواليتي” 1997، “أنترناسيونال سبور مقازين” 1992، “لاناسيون 1996” و«لو نوفو كرونيكور”، “الجزائر اليوم” (1993)، “الحوار” (1994)، “الحياة العربية”، “السياسة”، “النهار”، “الأمة” (1996)، “السلام” (1997)، “النور” - قسنطينة (1993)، “الجيل” (2002) أصبح يومية جهوية بقسنطينة، “النهار”، “الصباح الجديد”(2004)، “العالم السياسي”2001، الصحافة (2001)، الأصيل (2001)، “المحقّق”، “يوميات الجزائر”، “أخبار العاصمة”، “الوقت”، “الرأي” (2004)، “الشاهد” (١٩٩٣)، “عيون” (١٩٩٤)، ناهيك عن الجرائد الحزبية التي أنشئت بموجب دستور ٨٩ كـ “النبأ”، “البديل”، “الوطن السياسي”...إلخ.
سوق الاشهار...وأوكسجين الصّحافة؟
يعتبر سوق الاشهار في الجزائر اللّغز الكبير في مجال الصّحافة، حيث يعد هذا العامل الخط الافتتاحي الأول للجرائد قبل الخط السياسي، فمصدر الاشهار يحدّد بطريقة كبيرة السياسة التحريرية للجرائد التي يخفي الكثير منها توجّهه وأسماء المساهمين خوفا من المعلنين، الذين لا يمنحنون الاشهار بالمجان ودون مقابل يصل في الكثير من المرات للتّضليل وخوض حروب بالوكالة والكذب والتوجيه،وحتى استغباء القرّاء فقط من أجل صفحات الاشهار.
وأكّدت وزارة الاتصال في 18 جوان 2015، أنّ القيمة المالية لسوق الإشهار في الجزائر تقارب 200 مليون دولار ما يقارب 20 مليار دج أو 2000 مليار سنتيم تتصارع عليها مئات الجرائد. وجاءت تلك التّصريحات ردّا حول دراسة أجريت، والتي أشارت إلى أنّ قيمة سوق الإشهار في الجزائر وصلت إلى 350 مليون دولار، وقالت الوازرة “إنّ هذا الرقم مشكوك فيه، وأن القيمة المالية الحقيقية لسوق الإشهار تقارب 200 مليون دولار”.
وكشفت وزارة الاتصال في أكتوبر 2015 أنّ حجم الاشهار العمومي تراجع بنسبة 65 بالمائة خلال سنتي 2015 و2016 بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية. وأضافت في سياق متصل أنّ “90 بالمائة من الإشهار الذي توزّعه الوكالة الوطنية للنشر والإشهار تستفيد منه الصحف الخاصة، فيما تستفيد الصحف العمومية بنسبة أقل من 10 بالمائة من إشهار الوكالة.
كعـــوان: البحــث عــــن مصادر تمويـــل جديــدة ؟
كشف وزير الاتصال جمال كعوان، في زيارته الميدانية لولاية بومرداس شهر أوت المنصرم، أنّ عملية إنشاء الصّحف تعتبر مشروعا اقتصاديا وتجاريا وما على مالكي هذه الوسائل، أمام تقلّص الإعلانات التي كان معظمها عموميا بسبب الأوضاع الاقتصادية الراهنة، إلا الابتكار والبحث لاستقطاب موارد دخل أخرى. وهذا في ردّه على توقّف العديد من الصحف عن الصدور. وقال في سياق متصل”...أنّ مصالحه تعمل حاليا على دراسة ثلاثة ملفات كبرى تخص القطاع، على رأسها تطهير بطاقة الصحفي المحترف، إطلاق عمل المجمّعات الثلاثة للاتصال، إضافة إلى تقنين عمل الإعلام الرقمي”.
وأعلن وزير الاتصال جمال كعوان، بخصوص الصحافة الإلكترونية أنّ الوزارة ومن خلال تنصيبها لفريق عمل، هي بصدد دراسة التحضير لنصوص قوانين تقنّـن وجود هذا النوع المهم من الصحافة، وتحديد تدابير استفادة العاملين فيه من بطاقة الصحفي المحترف ، وهذا في ظل توقعّات بهجرة جماعية للصحافيين نحو الاعلام الالكتروني.
الصّحافيون قلقون ومتشائمون...
عبّرت الأسرة الاعلامية وخاصة الصحافيين عن قلقها وتشاؤمها تجاه مستقبل الصحافة الورقية، خاصة وأنّ الوقت أكّد تخوفهم من المستقبل، حيث يكون الصحافيون أول الضحايا في حالة ما توقّفت الصحف، ما يعني تسريحهم دون تعويضات ودون حماية، الأمر الذي جعل الكثير منهم يدخل في حالة ترقب مصاحبة للذعر والخوف من تدهور أوضاعهم الاجتماعية.
وقال عاطف قدادرة صحفي سابق بجريدة “الخبر” في حديث لـ “الشعب”: “المشكل المادي الذي تعاني منه الصحف الجزائرية يعود إلى عاملين اثنين في اعتقادي، فاعتماد الصحف بشكل كبير على الاشهار العمومي، وهذا الاشهار لا يخضع للشّفافية في التسيير ويشوبه الكثير من الغموض، بحكم تسييره بفعل سياسي، كما أنّ التشريع لم يكن أبدا في صالح هذه الصحف، أتوقّع نهاية عدد كبير من الصحف المطبوعة في القريب العاجل لأسباب مالية وأيضا لأسباب زمانية، فلا يمكن للجزائر أن تشكّل استثناءً لما يحدث للصّحافة الورقية عالميا.
أما العامل الثاني فيتعلّق بتسيير هذه الصحف نفسها، كثير منها عبارة عن دكاكين تجارية تخضع للتّسيير المطلق لأرباب الصحافة، الذين استفادوا من هبات السلطة في فترة ما، نلاحظ أن الكثير من الصحف لم تحاول تطوير نفسها في اتجاه عجلة العولمة، بمقابل وضع اجتماعي هو الأدنى في المؤشّرات الدولية بالنسبة للصحافيين”.
ويضيف قدادرة: “....من الصّعب الحفاظ على جميع العناوين الصّحفية المكتوبة، نظرا لعامل التكنولوجيا، لكن أي خطوة في هذا الاتجاه تبدأ أولا من اعتراف السلطة أن الجزائر فقدت تجربتها الصحفية المكتوبة بانكفاء أغلب الصحف عن لعب دورها بسبب تراكم المتاعب، يجب فضح الممارسات التي تحدث باسم الصحافة، ثم البدء من نقطة الصفر بإشراك الصحافيين الحقيقيين في وضع الاطار القانوني والأخلاقي مع ترك الباب للمنافسة الشريفة بين الصحف دون أي تدخلات فوقية لقتل صحف وإحياء أخرى”.
واعتبر ذات المصدر الصحافيين الذين أغلقت جرائدهم هم الحلقة الأضعف في النهاية، فعمليات إغلاق صحف يتم بإشراك كل الفاعلين فيها عدا العنصر الاهم وهم الصحافيون، وهناك تجارب آنية قرّر فيها الملاك إغلاق عناوين دون تبليغ العاملين من الأساس، هذا الوضع يعكس حالة الوهن بالنسبة للصحافيين في غياب تنظيم نقابي قوي، واستهانة السلطة بهذا القطاع.
الإلكتروني... البديل؟
كشف الاعلامي الطيب سعد الله لـ “الشعب”، أنّ مستقبل الصحافة المكتوبة أو بالمعنى الأصح الصّحافة الورقية مآله الزّوال في الجزائر لعدة أسباب وليس لسبب واحد، على اعتبار أنّ الصّحافة الورقية تراجعت بشكل كبير حتى في الدول المتقدمة بسبب تغير نوعية القراء، حيث أن جريدة “الديلي ميل” الانجليزية توقفت عن الطبع الورقي منذ أكثر من سنة، وتوجّهت للطبعة الالكترونية. لكن بالنسبة للصحافة المكتوبة في الجزائر فإن عزوف القراء على الخبر الصحفي، واعتزال المواطن الحياة السياسة ومتابعة تفاصيلها جعلت الجريدة الورقية ديكور مكتبات فقط. كما أن مستوى هامش الحرية تراجع، ضف إليه ضعف مستوى الأقلام الصحفية في التحرير والخطاب الصحفي، جعل القرّاء يبتعدون عن الجريدة ويبحثون عن وسائل إعلام تخاطب جديدة وتفاعلية.
وأضاف حول تأثير التكنولوجية على استمرار الصحافة المكتوبة موضحا: “...التكنولوجيات الحديثة في رأيي جلبت وسائل إعلام متطوّرة، وبتطور الجيل فإنّ جيل الفترة الماضية يحبذ الوسائل الاعلامية التقليدية مثل الجرائد الورقية والمجلات والنشريات، وكذا الاذاعة والتلفزيون، لكن الجيل الحالي جيل الأنترنيت، الفايس بوك وتويتر، يحب المعلومة المركزة وفي حينها، وهو من يعلّق عليها ويتفاعل معها، ومنه نحن نتكلّم عن جيلين مختلفين ووسائل إعلام مختلفة ممّا يجعل وسائل الاعلام التقليدية في طريق الزوال وانتشار أوسع للإعلام الالكتروني.
التّأقلم مع التّحولات للاستمرار...
دعا الاعلامي عبد الوهاب بوكروح صاحب الجريدة الالكترونية “الجزائر اليوم”، أنّ المؤسسات الاعلامية التقليدية مطالبة بالتأقلم مع التحولات، موضحا لـ “الشعب”: “.....أولا على المؤسسات الإعلامية الجزائرية وخاصة الجرائد الورقية تغيير نموذجها الاقتصادي التقليدي الحالي القائم على الاعتماد المطلق على الإشهار العمومي (المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار)، باعتبار أن الأزمة المالية والاقتصادية التي دخلت فيها الجزائر منذ منتصف 2014 هي أزمة هيكلية طويلة الأمد، وربما سيتم إعادة النظر حتى في المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار بحد ذاتها لأنّها ستّتجه هي الأخرى نحو الوسائط الحديثة، ومنها النشر الرقمي والتواصل الرقمي من خلال الثورة الرقمية التي تجتاح العالم أجمع”.
واعتبر في سياق متصل، أنّ البحث عن نماذج اقتصادية جديدة يفرض على هذه المؤسسات (الجرائد) تنويع مصادر تمويلها، وبالتالي ضخ أموال جديدة والاستثمار في تنويع النشاطات، وهو ما يتطلّب إمّا أموالا ذاتية من المساهمين الحاليين، وهو أمر مستبعد بالنظر إلى عقليتهم البدائية في مجال الاستثمار، أو فتح رأس أموال شركاتهم إلى مساهمين جدد، وهو أمر صعب من الناحية الاقتصادية بالنظر لمناخ الصحافة الورقية في العالم أجمع وليس الجزائر لوحدها، وبالتالي مطلوب اليوم وبسرعة من جميع المؤسسات الإعلامية الوطنية (عمومية وخاصة) الشروع في عملية إعادة هيكلة عميقة بتجاه الانتقال السريع نحو التكنولوجيا الرقمية من أجل خفض التكاليف من جهة، وثانيا من أجل الاستفادة من هذه الأدوات الحديثة التي توفّرها التكنولوجيا الرقمية، والقيام بتحول سلس يسمح لها بالاستمرار وتفادي الزوال.
أما بالنسبة لحماية حقوق العاملين في حقل الصحافة والمكتوبة على وجه الخصوص، يقول بوكروح: “أعتقد أنّ العاملين في الصحافة يتحمّلون المسؤولية الأكبر بسبب تشتّتهم، وعدم انتظامهم في تكتلات نقابية وغيرها من أجل الدفاع عن مصالحهم، وما الحالة التي عاشتها الصحافة الوطنية بين 2000 و2015 إلاّ درس للجميع، فهناك أصحاب جرائد أصبحوا أثرياء على حساب المهنة، وعلى حساب العاملين في القطاع”.
ويتنبّأ الصّحفي السابق بجريدة “الشروق اليومي” بمستقبل متدهور للصحافة الورقية، موضحا: “...أعتقد أنّ القادم أسوأ في حال واصل الزملاء العمل بهذه الطريقة، وفي ظل الفوضى وبدون نقابة قوية تحمي مصالحهم، كما أنّ هناك حاجة ماسة إلى تعديل جديد لقانون الإعلام لجهة إدراج حقوق العاملين في القطاع بشكل أوثق وأوضح، وإلا سيتحوّل جيل كامل من العاملين في القطاع الإعلامي بالجزائر إلى بائسين وفقراء خلال 3 إلى 5 سنوات القادمة”.
وعلّق بالمقابل على غلق جريدة “لاتريبين” بقوله: “بالنسبة لموضوع غلق جريدة لا تريبين هذا مجرد جزء ظاهر من جبل الجليد، هناك عشرات الجرائد أغلقت في السر والكتمان لمجرد أن أصحابها هم أشخاص دخلاء على المهنة، أشخاص أسّسوا جرائد لجمع أموال الإشهار، وهم اليوم تحوّلوا إلى أثرياء، وبمجرد تراجع أموال الإشهار انسحبوا من المشهد بطريقة بشعة وبطريقة فيها إهانة كبيرة للصحافة الجزائرية..خذ مثالا جريدة الأحداث وغيرها أين هم الملاك والمساهمين؟ أغلبهم اليوم في الخارج يملكون عقارات وأموال تم جمعها من الإشهار خلال الـ 15 سنة الأخيرة”.
جمهور الصّحافة الورقية...الأمل
اعترف فيصل حملاوي سكرتير تحرير بيومية “البلاد” بالوضع الصعب للصحافة المكتوبة الجزائرية قائلا: “...صحيح أنّ الصحافة المكتوبة بدأت تتراجع لدى أوساط المجتمع في السنوات الأخيرة بسبب انتشار التكنولوجيا بشكل واسع خاصة لدى فئة الشباب، لكن رغم ذلك فهناك أوفياء للورقية الذين لا يرتاح لهم بال إلا وهم يطالعون الأخبار على صدر صفحات جرائدهم المفضلة كل صباح”.
وقال نفس الاعلامي في نفس السياق: “....شخصيا أرى أن مستقبل الورقية مهدّد بسبب عوامل أخرى خارجية وبالأساس مصادر التمويل، التي كانت سببا مباشرا في غلق عدد من الجرائد في السنوات الاخيرة وإحالة عمالها على البطالة”.
أما تأثير التحولات التكنولوجية على أداء الصحافة الورقية، أكّد حملاوي: “...لا أجد أي تعارض للرقمية مع الصحافة الورقية، الأولى تنقل الحدث وتعيشه أما الثانية فهي تنقل الحدث، بل الأصح حسب رأيي أن الرقمية تكمل الورقية، فلكل واحد منهما جمهورها من القرّاء”.
الخبراء يدعون لدعم الصّحافة عبر قانون المالية
دعا خبراء علوم الاعلام والاتصال إلى تفعيل صندوق دعم الصحافة ومنح مساعدات للصحافة المكتوبة عبر قوانين المالية للحفاظ على هذه المؤسسات، التي تضمن الحق في الاعلام وتقدم خدمة عمومية.
وقال براهيم براهيمي لتجاوز هذه الأزمة على المؤسسات الإعلامية المكتوبة أن تقوم بتنويع موارد الإشهار، وعدم الاتكال فقط على الإشهار العمومي، وتنويع النشاطات والخدمات من خلال فتح مراكز التكوين، وفتح رؤوس أموال المؤسسات للمستثمرين والمهتمين بعلوم الإعلام والاتصال، وتشجيع الصحافيين على اقتحام الإعلام الإلكتروني الذي يرى فيه الجميع المستقبل.
وأكّد في حديث لـ “الشعب” عن ضرورة إعادة بعث صندوق دعم الصحافة، الذي يمكن أن يكون منفذا للكثير من الصحف لكن شريطة اعتماد معايير الاحترافية.
وكشف فضيل دليو عميد كلية علوم الإعلام والاتصال بجامعة قسنطينة، أنّ مستقبل الصحافة الورقية سيكون في خطر في ظل الزحف التكنولوجي، موضّحا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي تكتفي بجريدتين عموميتين والباقي كله جرائد محلية، تتوقّع أن تتخلّص من الصحافة الورقية في 2025.
وأكّد دليو في تصريح لـ “الشعب”، أنّ الجزائر شأنها شأن مختلف دول العالم، ستتأثّر بالزحف التكنولوجي الذي يجعل الكثير من المؤسسات الإعلامية من الصحافة المكتوبة في خطر، متوقعا أن يكون مستقبل الصحافة في الجزائر للمجمّعات الإعلامية الكبرى. ويرى دليو أنّ المؤسّسات الإعلامية مطالبة بالتوجه للإعلام الجواري الذي يعتبر ناجحا ومستقبلا للجماهير، مثلما أبانت عنه تجارب عديد الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
واقترح بالمقابل، في هذا الظرف الذي يتميز بحدة الأزمات الاقتصادية والمالية، بتخصيص مساعدات مالية عبر قوانين المالية، ودعمها لاستمرار الصحافة الورقية. وحول تراجع أداء المؤسسات الإعلامية في تقديم الخدمة العمومية وتركيزها أكثر على المال والإشهار، فقد اعتبر الأستاذ هذا واقعا، لكن من خلال تقييم سطحي في ظل غياب دراسة أكاديمية تؤكّد ذلك.
واقترح الدكتور في سياق ترسيخ أخلاقيات المهنة وتهذيب الأداء المهني للإعلاميين، إنشاء مجالس أخلاقيات مهنة محلية وجهوية لتحسين الممارسة، وتخليص المهنة من السب والشتم والقذف ومختلف أساليب التضليل، محذّرا من مغبة نقل التجارب الغربية وتطبيقها على الجزائر التي تمتلك خصوصيات يجب مراعاتها.
واعتبر البروفسيور في علوم الاعلام والاتصال اليامين بودهان من جامعة سطيف لـ “الشعب”، توقّف بعض الصحف عن الصدور راجع إلى متاعب اقتصادية، وهي ظاهرة ستعرف ازديادا مخيفا في السنوات القادمة، لسببين رئيسيين، أولهما تراجع عائدات توزيع الصحف الذي يعزى لتراجع مقروئية الصحف المطبوعة وتوجه القارئ للصحافة الإلكترونية، وهي ظاهرة ليست فقط في الجزائر، ففي كثير من دول العالم احتجبت عن الصدور الكثير من العناوين ورقيا، واكتفت بنسختها الرقمية.
أما السبب الثاني “هو التراجع الرهيب في عائدات الإشهار بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد بفعل تراجع سعر البترول، ممّا دفع الكثير من المعلنين في الجزائر خاصة الخواص كمتعاملي الاتصالات، وكالات السيارات والبنوك الخاصة التي كانت تعتبر أكبر المؤسسات المعلنة في البلاد، إلا أنّ الأزمة التي عصفت بكثير من هذه المؤسسات جراء تقليص حجم الاستيراد جعلها تخفض بنسبة كبيرة جدا من الحصص التي كانت توجّهها لسوق الإشهار، نفس المشكلة وقعت فيها المؤسسات العمومية التي تلقّت تعليمات فوقية بترشيد نفقات الاشهار وتخفيضها. هذا التراجع الهام في سوق الإشهار أثّر سلبا على عائدات الصحف، وسنشهد في العامين القادمين على أبعد تقدير توقف العشرات من الصحف وستستمر فقط الصحف القوية، إذا استطاعت أن تنوّع من مداخيلها وعرفت كيف تستثمر في سوق الإشهار الإلكتروني”.
وكشف نفس المصدر: “...أعتقد أن الدولة يجب أن تتدخّل لإنقاذ ما تبقّى من الصحف المكتوبة لأنّ المؤشرات الاقتصادية الحالية تشير إلى توجه أغلبية الصحف للإفلاس ، وذلك بإنشاء صندوق دعم للصحافة، لكن وفق ضوابط ودفتر شروط يلزم الصحف التي تحظى بالدعم بالتزام مسؤوليتها الاجتماعية نحو قيم وثوابت الدولة والمجتمع، مع احتفاظها طبعا بمبدأ حرية التعبير والرأي، ويجب العمل حسب رأيي على تأسيس مرصد لمراقبة أداء الصحافة في الجزائر يشرف عليه صحفيون مستقلون، وخبراء وأكاديميون يرفعون تقارير دورية عن مستوى أداء الصحافة في البلاد، والدعم يقدم فقط للصحف التي يكون أداؤها مقبولا.
الحكومة تعد بتفعيل صندوق دعم الصّحافة
وعد الوزير الأول أحمد أويحيى بمساعدة الصحافة المكتوبة على تجاوز الصّعاب التي تعيشها، حيث جاء في مخطّط عمل الحكومة الذي صادق عليه مجلس الوزراء “ستعمل الحكومة على إعادة تفعيل صندوق دعم الصحافة المكتوبة في شفافية تامة، وفي إطار دفتر أعباء الخدمة العمومية”.
كما وعدت الحكومة بترقية الحق في الاعلام وتوفير كل ظروف العمل للسلطة الرابعة مع دعم توفير مصادر الخبر والمعلومة للصحافيين، وترقية استعمال شبكات التواصل الاجتماعي مع التشديد على ضرورة الابتعاد عن القذف والسب والشتم، وانتهاك حرمة العائلات والأشخاص والحياة الخاصة للأفراد.
الصّحافيّون يطالبون بإرجاع المادة 11 من قانون الإعلام 90 - 07
طالب الكثير من الصحافيين الذي حاورناهم بضرورة إعادة إرجاع المادة 11 من قانون الإعلام 90 - 07، التي كانت تتيح للصحافيين امكانية الدخول كمساهمين في رأسمال المؤسسات الاعلامية لضمان حقوقهم في حالة الغلق أو وقوع إفلاس، وأكّد الصحافيون أنّ المساهمين حاليا يأخذون الأرباح وحدهم، ويتحمّلون هم مسؤولية الافلاس بالتسريح دون إشعار مسبق.
نصّت المادة 11 من قانون الإعلام 90 - 07 على: “في حالة الفصل بين النشر والتحرير والطبع، يمكن للشخصية المهنية التي تملك العنوان أو الجهاز في الصحافة المكتوبة التابعة للقطاع العام، أن تتنازل للصحافيين المحترفين الدائمين العاملين بنفس العنوان في حدود الثلث (1 / 3) بشرط أن ينتظموا في شركة مدنية للمحرّرين”.
وكانت هذه المادة مكسبا مهمّا للصّحافيّين، ولكنها لم تطبّق في الأصل سوى على القطاع الخاص، حيث وبعد مغادرة الكثير من الصحافيين للعناوين العمومية أنشأوا صحفا خاصة بأموال عمومية، ولكن بمرور الوقت تنصّل الصحافيون من صفتهم وأصبحوا يرفضون دخول صحافيين من ذات المؤسسة معهم مساهمين، وحتى في حالة بيع أسهم من جريدة “الخبر”، لم يبلغ الصحافيون العاملون بأمر البيع وهو ما جعلهم يحتجون، فبالرغم من امتلاك المساهمين صفة الصحفي إلا أنّهم تحوّلوا لرجال أعمال تصرّفوا في ملكيتهم الخاصة.
ويظهر أنّ إعادة النظر في أحقية ملكية المؤسسات الإعلامية، وضرورة منح نسب تفوق 50 بالمائة للصحافيّين مع التأكيد على عدم التنازل عليها لأطراف خارج المهنة حفاظا على حرية التعبير والصحافة، وضمان الحق في الإعلام، ومنع احتكار وسائل الإعلام.