العدالة الاجتماعية، التّضامن والتّنمية...ركائز ديمومة السياسات الاقتصادية
جذور الدولة الجزائرية تضرب بأطنابها في امتدادات التاريخ الحافل لهذا البلد، الحامل للحضارة بامتياز، وخير دليل على ذلك كل هذه الشّواهد الأثرية للانسان والعمران، وما خلّفه من أدوات راقية في نموذجه الحياتي.
وهكذا، ارتبطت هذه الأرض بالإبداع في نظام المدينة، متقدّمة جدا في العلاقات الاجتماعية مبنية على مفهوم المؤسسات في انشغالات الأشخاص. وهذه الخاصية الصّلبة والميزة الفريدة هي التي مهّدت الأرضية لمواجهة الغزو الفرنسي في ١٨٣٠.
هذا الصّمود التّاريخي والبطولي دليل راسخ على أنّ الدولة الجزائرية آنذاك دون العودة إلى تشخيص أوصاف المؤرّخين هي التي واجهت جحافل الجيوش الفرنسية بكل بسالة، رافضة أنّ تحتل هذه البقعة الطّاهرة.
وخلافا للادّعاءات الصّادرة عن المدرسة الكولونيالية التاريخية، فإنّ هذا المجال الحيوي الجزائري كان خزّانا ثريا للحضارة في شقيها الفكري والمادي، والذين قدموا إلى هنا إنما اعتمدوا «سياسة الأرض المحروقة» منذ أن حلّوا على ربوع هذا البلد، أحرقوا كل الرّموز وهي في قمّتها من بنايات ذات الهندسة والتصميم المحلي، تغيير واجهة الأحياء، إقامة هياكل على المقابر، تدمير الزوايا وإحلال محلّها ديكور غريب أريد منه طمس معالم الدولة الجزائرية، كيف لهؤلاء الغزاة الإدّعاء بأنّهم حاملون للمشروع الحضاري الذي يتبجّحون به إلى غاية يومنا هذا.
الجزائر آنذاك كانت بلدا متقدّما، ودولة قائمة بذاتها تتوفّر على كل الأركان المتعارف عليها (الإقليم، الشعب، المياه البحرية) ممّا سمح لها دائما أن تتبوّأ الصّدارة في نطاق مجالها الحيوي.
وازداد بروز هذا العنفوان في الحضور هو إصرار الأمير عبد القادر على إلحاق الهزيمة بالغزاة طيلة ١٧ سنة كاملة، كان له صولات وجولات مع المحتلّين مكبّدا إيّاهم خسائر في العدة والعتاد، أجبرتهم في الكثير من المواقف على الاستسلام والتّوقيع على وثائق الاعتراف بالاخفاقات المتتالية التي كانت تلاحقهم في كل وقت.
وهذه الأحداث الحيّة التي نذكرها في شكل عيّنات ما هي في حقيقة الأمر إلا إثباب للذات الجزائرية، الرافضة للاحتلال ومن جهة أخرى تأكيد على أن الدولة الجزائرية صاحبة القرار في إعلان حالة الحرب، إزاء كل من تسوّل له نفسه المساس بهذا الوطن المفدّى، أو السّعي للإجهاز على مقدّراته، والانقضاض على خيارته.
وقد فهم جنرالات فرنسا أنّ هذه الأرض ستكون مقبرة لجنودهم وتعنّتهم سيكلّفهم ثمنا باهظا، سيندمون على اليوم الذي أتوا فيه.
الرّفض بدأ مع المقاومات الشّعبية
وقام الجزائريون كرجل واحد ضد الاحتلال الفرنسي ليفتح عهد المقاومات الشّعبية في عديد النقاط، غرب، شرق، وسط وجنوب بقيادة شخصيات كاريزمية، رفعت لواء محاربة المعتدين ومن سار على دربهم، وعدم مهادنتهم إلى غاية طردهم شر طردة وتوجيه لهم ضربات موجعة تحطم معنوياتهم، وتقضي على أحلامهم في أخذ الأرض التي ترمز إلى العرض.
الكرّ والفرّ ظل يلاحق الجيوش الفرنسية في كل بقعة، وكلّما سقط زعيم نهض أو انتفض آخر رافضا المهانة والمذلّة، مدافعا عن أهله مفضّلا السير على ما تركه الأسلاف من قيم المقاومة والصمود وعدم ترك الأجنبي ينعم بأرض غير أرضه وهو القادم من بلد يبعد بآلاف الكيلومترات.
وما صنعه المقراني، بوبغلة، الشيخ آمود، بوعمامة، بومعزة، فاطمة نسومر، أحمد باي، يندرج في ذلك الإطار. لا يهمّنا هنا التسلسل التاريخي بقدر ما نشدّد على ذلك الموقف المضاد للمحتلّين، يكشف الصّمود النّادر للجزائريّين في وجه آلة القتل الفرنسية بالرغم من المجازر المرتكبة والإبادة الجماعية (قبيلة العوفية بالحراش).
نسوق هذه الأحداث، لنصل إلى نتيجة مفادها أنّ حلقات المقاومة الشّعبية لم تنفصم أبدا عن بعضها البعض، وإن كانت هناك محطات صمت، فقد رغب البعض في تغيير استراتيجية العمل وهذا بالانتقال إلى المقاربات السياسية عن طريق إنشاء الصّحف وتأسيس الأحزاب والجمعيات.
وممّا زاد في هذا الزّخم السياق الدولي كاندلاع الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ - ١٩١٨) وإعلان ويلسون حول تقرير مصير الشّعوب تحت نير الاستعمار.
فما كان على الجزائريّين إلاّ مسايرة هذا الوضع الجديد، وهذا من خلال الدخول مباشرة في هذا الزّخم دشّنه الأمير خالد، وحاول رفقاء دربه من الجزائريين اختبار مدى جدية الإدارة الفرنسية في التعامل معهم إلاّ أنّهم لاحظوا بأنّهم غير مرغوب فيهم وليسوا أهلا للثّقة، وتعرّضوا لشتى المضايقات والعقوبات، وحل الأطر التي كانوا ينشطون فيها، كما تمّ غلق جرائدهم وحجز عتاد الطبع، وهذا عندما طلبوا بحقوق شعبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتيقّن الجميع بأنّ هؤلاء لا يستأهلون سياسة المهادنة، وما على الجزائريّين الأحرار إلاّ تغيير التعامل معهم، وهكذا اهتدت النّخب الوطنية إلى استباق الأحداث، وتم فتح الطريق إلى بدايات الحركة الوطنية بميلاد نجم شمال إفريقيا بقيادة مصالي الحاح.
ولأول وهلة يظهر أنّ الجزائريين تراكمت لديهم تجربة رائدة في كيفية مقاومة هذا المحتل، وهكذا وضعوه أمام الأمر الواقع عندما أدرجوا نقطة حاسمة وفاصلة تطالب بالاستقلال الوطني، وإقامة الدولة الوطنية التي كلّفت الملايين من الضّحايا منذ ١٨٣٠.
في انتظار اليوم المشهود
والاعتقاد الراسخ لدى الجزائريّين هو أنّ اليوم الموعود والمشهود آت لا ريب فيه، بالرغم من الإكراهات التي لحقت بمصالي من إقامات جبرية ونفي، كلّها كانت مؤشّرات على قدوم السياق المناسب، والخلافات آنذاك بين المناضلين كانت في كيفية مقارعة الاستعمار هل حان الوقت أم لا؟ ولماذا كل هذا الانتظار؟ وكانت الغلبة للتيار الوطني، الذي سارع إلى فرض إطار سياسي جديد ألا وهو حزب الشعب، الذي يؤمن إيمانا قاطعا بالاستقلال دون سواه.
ووضع هذا الهدف على رأس الأولويات لم يكن شعارا بل أنّ المناضلين ساروا بخطى متسارعة، وهذا عندما أسّسوا المنظمة الخاصة الجناح العسكري، وبالرغم من مطبّات الطّريق إلاّ أنّ التيار الثوري كانت له كلمة الفصل عندما بلغت المواقف أشدها منذ تاريخ النّشأة في ١٩٣٨ إلى غاية ١٩٥٤.
وهكذا أراد المناضلون ذوو التكوين الثّوري، إعادة التفكير في إطار جديد يجمع كل الوطنيين الذين يريدون الشروع في محاربة الإستعمار يضمن عملا ثوريا قائما على نظرة بعيدة المدى، ألا وهي الاستقلال الوطني. وبعد اجتماعات ماراطونية تارة باسم الـ ٦ وتارة أخرى باسم لجنة ٢٢، تقرّر إصدار بيان أول نوفمبر والذي يعد بمثابة القطيعة النهائية مع الاستعمار، ومن يريد الالتحاق بجبهة التحرير الوطني، التنظيم الثوري الجديد، فما عليه إلا أن يكون فرديا أي دون الإتيان محمّلا بالفكر الأديولوجي الذي أضرّ كثيرا بالنّضال، خلال الأربعينات وبداية الخمسينات، إلى درجة حدوث ثنائية في صفات المناضلين، هذا لم يمنع أبدا من بروز التيار الوطني مفتكا قرار الثورة.
وتضمّن هذا الإعلان التاريخي بصفة عامة ميلاد الدولة الوطنية بديل النظام الكولونيالي الاستيطاني، وهذا عن طريق الكفاح المسلّح وهذا هو الهدف الأسمى الذي ضحّى من أجله الجميع، وورد جليا في تلك الوثيقة النّادرة في استشراف سنوات ما بعد الثورة، وهذا من خلال ترك المبادرة الثورية مفتوحة من أجل الدعوة إلى أطر سياسية لتنظيم النضال وتقنينه كأرضية الصومام التي أرست منطلقات الشروع في بناء المؤسسات (التّقسيم الولائي التاريخي، الرتب، التمثيل الخارجي، التكوين وإرسال البعثات، تأسيس الحكومة المؤقّتة، التصدي للدعاية النفسية الفرنسية، تنظيم القطاع الصحي)، كل هذه الهياكل كانت بمثابة ركائز للثّورة في ديمومتها وصمودها لمزيد من السّنوات في وجه المحتل، وفي مقابل ذلك تحقيق الإستقلال.
والإستمرارية في هذا التوجه، تمّ الإشارة إليه في ميثاق طرابلس وميثاق الجزائر، في أن تكون الدولة الوطنية وليدة التضحيات الجسام للجزائريين، يبنى على أساس العدالة الاجتماعية والتضامن بين أبناء الشّعب الواحد.
مراحل بناء الدولة الوطنية
وقد استهل هذا العمل من ١٩٦٥ إلى غاية ١٩٧٨، وهذا بانتهاج الخيار الإشتراكي الذي كانت بدايته مع اعتماد الثورات الـ ٣ (الزّراعية، الصّناعية والثّقافية)، طرح الميثاق الوطني ١٩٧٦، المخطّطات التنموية، القرى الفلاحية، حملات التطوع، السد الأخضر، طريق الوحدة الإفريقية، امتدادات، التضامن مع حركات التحرر في العالم، حضور الدبلوماسية الجزائرية على أكثر من صعيد في فض النزاعات...). هذا كلّه ملامح الدولة الوطنية العميقة الجامعة المانعة، المجسّدة في المحاور الكبرى للميثاق الوطني آنذاك ثم في مبادئ دستور ١٩٧٦، الذي استلهمت مواده من تلك الوثيقة عند صياغة منظومة الدولة والعلاقة القائمة بين المؤسّسات والسّلطات التّنفيذية والتّشريعية والقضائية.
من ١٩٧٨ إلى ١٩٩١ كانت هذه المرحلة بداية الإستقرار في الجزائر مع إثارة شعار «التّراجع والمراجعة»، وكل ما تمّ إنجازه أثّر عليه الدهر تأثيرا قاسيا إلى درجة التخلي عن جل المكتسبات الإقتصادية والاجتماعية مع نزول سعر البترول إلى ٨ دولارات، والشروع في تفكيك المؤسسات التي وصفت بأن رأسها أكبر من جسدها، تعيش بالسيروم.
كل هذا مهدّ إلى انهيار الدولة الوطنية خلال هذه الفترة.
وانفراط العقد بين القمة والقاعدة، أدى إلى بروز العمل السياسي الرديكالي، الممتد عبر سنوات الثمانينات، ركب موجاته رموز الدعوة والصحوة آنذاك ليكشّر عن أنيابه خلال التسعينات، وحدث ما حدث خلال الانفتاح الديمقراطي، كل هذه العملية السياسية انتهت بمأساة ما تزال عالقة في ذهن كل من وقف على فصولها.
من ١٩٩١ إلى ١٩٩٩ أعقد مرحلة عاشتها الجزائر بسبب تكالب الإرهاب على البلد قضى على الأخضر واليابس، أحرق الشجر، أتلف البشر ولم يترك شيئا واقفا، وبالرغم من ذلك كان هناك مسعى لموعد إنتخابي رئاسي وتعديل دستور ١٩٨٩، الذي أدرج الإلتزامات السياسية في هذه الوثيقة (التعددية).. ورفع تحدي هذه الخطوة بإدخال آليات جديدة منها التشريعية كمجلس الأمة، وقضائية كمجالس الدولة، أي استحضار كل العبقرية الدستورية في عدم تكرار سيناريو التسعينات، في نفس الوقت أطلق ما يعرف بقانون الرحمة.
الفترة الأكثر وضوحا في الرؤية
من ١٩٩٩ إلى ٢٠١٧ فترة شهدت تلك العودة القوية للدولة الوطنية بكل ما يحمله هذا المفهوم من دلالة سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية، بدأت فعلا بتلك التعهدات المندرجة في هذا الإطار ألا وهي:
- إعادة السلم والأمن إلى كامل ربوع الوطن.
- وضع حد لتدهور الاقتصاد الوطني.
- تجديد العهد مع عودة الجزائر إلى المحافل الدولية.
وبالتوازي مع ذلك، فإن العمل كان منصبا على ملفات شائكة، على المدى الطويل تستحق المتابعة الميدانية المتواصلة منها:
- إصلاح قطاع العدالة.
- إصلاح المنظومة التربوية.
- إعادة توجيه مهام الدولة.
هذه المسارات انطلقت على مسافة واحدة من زاوية التشخيص الدقيق للواقع آنذاك.
والحقيقة الذي توصل أو اقتنع بها الجميع أنه لا تنميه بدون أمن ويعد ضربا من الخيال إذا أراد البعض إحداث ذلك الخلل في هذه المعادلة لذلك انطلق رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في مشروع وطني لاستعادة الأمن بفضل الوئام الذي استفتى فيه الشعب، وقال كلمته الفاصلة وهكذا عاد حوالي ٦ آلاف شخص إلى ديارهم واسترجاع قرابة ١٨ ألف قطعة سلاح.. هذا التحوّل الجديد زاد في قناعة رئيس الجمهورية في الانتقال إلى مرحلة أعلى وهكذا تمّ طرح المصالحة الوطنية التي حمل السيد بوتفليقة قيمها النبيلة في التسامح والصفح الجميل إلى الجزائر العميقة، مؤكدا في كل التجمعات التي حضرناها آنذاك أنه «لابديل عنها» في الوقت الحالي.. وقد عزّزت بميثاق السلم والمصالحة هو عبارة عن إطار عام أعطى لكل ذي حقّ حقه لم يظلم أحد بل أعاد الاعتبار للقوى الحية التي حاربت الإرهاب.
وهكذا في فترة قياسية ساد الأمن في الجزائر من أقصاها إلى أقصاها ورويدا رويدا أصبح المواطنون يسافرون ليلا وصباحا باكرا إلى الولايات التي يريدونها وهذا العمل الوطني الجبّار الذي أولاه رئيس الجمهورية كل جهده لإيمانه الراسخ به، وضع الجزائر فوق كل اعتبار لأن الوطن أكبر من دعاة اللاعقاب الذين رفعوا هذا الشعار آنذاك.
ونعمة الإستقرار اليوم هي نتاج المصالحة الوطنية وليس شيئا آخر، مما سمح بالشروع فورا في فتح الملفات الأخرى منها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية وهذا بالتوجه إلى استحداث التنمية الشاملة المرجوة، وإدخال التوازنات اللازمة في السلطات الـ ٣ خاصة السلطة التنفيذية بتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، وفي نفس الوقت الحرص على أن يكون الدستور الحارس الأمين على الذاكرة والرموز والمكونات وكذلك ضمان ذلك الانفتاح أكثر على الحركية في المجتمع إذ تمّ إدراج المصالحة في ديباجة الدستور الأخير، توسيع مبدأ الإخطار بالبرلمان وترقية المؤسسات الإستشارية إلى صفة الدسترة، وحماية المكاسب الإجتماعية من عدالة وتضامن وحقوق وواجبات هذه العينات المذكورة تشدّد على أن محتوى الدولة الوطنية هو كل ما أنجز حتى الآن في شتى القطاعات والإبقاء على توفير السكن، العمل، المعاشات، العلاج، النقل، التعليم، المياه، الكهرباء وغيرها
هذا مثبت في الدستور ولا يمكن التخلي عنه والجزائر اليوم ورشة مفتوحة من المشاريع لا تعد ولا تحصى.. ففي فترة وجيزة انجز مطار الجزائر الدولي بعدما كان متوقفا، الطريق السيار، الميترو، التراموي، السدود، الثانويات، المدارس، الجامعات، الفلاحة، تحيين الخدمات الإدارية هذه هي الدولة الوطنية التي صدت في وجه الغزاة والإرهاب وغيرهم من راهنوا على «أحصنة» فاشلة هي الآن واقفة وصامدة في كل هذا السياق الخارجي الهش.