قلـق، أمـراض ومتاعـب نفسية بحثا عـن موقـــف
صرخـات استغاثــــة لإنجاز حظائــــر وترسيـــخ ثقافـة ركــوب الترامــواي والميترو
معاناة حقيقية تلك التي يعيشها السائق الجزائري يوميا في رحلة البحث عن مكان آمن يركن فيه سيارته، بعيدا عن خطر السرقة أو تعرضها لخدوش أو ضربات، قد تكون عبئا ماديا على صاحبها. في ظل نقص المواقف النظامية، صار السائق يتعرض لابتزاز من كل شخص يرى نفسه صاحب الحق في تركه يركن سيارته من عدمه.
«الشعب»، تعرض هذه المشاهد والمعاناة اليومية في هذا الاستطلاع، اخذة آراء المواطنين الذين أصبحوا رهينة هاجس يومي إسمه «أين أركن سيارتي اليوم؟؟».
محمد بن سدو، 37 سنة، متزوج وأب لطفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات، قال عن مشكل ركن السيارة: «أصبحت السيارة اليوم مشكلا حقيقيا بالنسبة للسائق، في ظل نقص الحظائر وامتلاء الموجودة عن آخرها في الصباح الباكر. أصبحت مضطرا في كل يوم أتوجه فيه إلى العمل أفكر أولا في المكان الذي أترك فيه سيارتي دون أن أقلق من سرقتها أو تعرضها لحادث ما وأنا في مقر العمل. وكثيرا ما أوصي أبناء الحي لحراستها مقابل مبلغ مالي كل شهر».
أضاف محمد: «قبل أن أُرزق بابنتي كنت دائم التفكير في المكان الذي ستبقى فيه عند غيابي ووالدتها عن البيت. لكن التفكير في مكان ركن السيارة أكبر وأصعب، لأننا لا نجد صعوبة في تأمين واحد بصفة دائمة، فمثلا شارع «شاراس» بالعاصمة، يغصّ بالسيارات المركونة على الرصيف ولا تجد مكانا عند وصولك، ما يجعلك تغامر بتركها أمام منعط ف أو تبحث في الشوارع المجاورة التي تعرف دوريات الشرطة المراقبة للركن العشوائي للسيارات، لذلك وفي كثير من المرات أذهب إلى غاية محطة القطار بالجزائر لركنها لأعود في الحافلة إلى مقر عملي في «ساحة أودان» وهذا متعب جدا ويجعلني أعيش حالة من التوتر الدائم، لأنني مرتبط بدوام العمل. والروضة التي تغلق أبوابها عند الرابعة والنصف، وكذا العودة إلى المنزل قبل العشاء في باب الزوار».
جلال شوماني، 45 سنة، قال لنا كانت السيارة بالنسبة له سببا في تغيير نظام حياته وأضاف جلال: «قبل امتلاكي لسيارة كنت أراها عاملا مهمّا لتكون مواظبا على عملك وفي تنقل مريح بلا تعب، لكن بعد عشر سنوات من امتلاكها صارت بالنسبة لي كابوس معاناتي، تزداد حدته كل يوم، وبسببها تلقيت إنذارات في عملي بسبب تأخري الدائم، وإنذارات أخرى من أصحاب المنازل الذين أركن سيارتي أمامها، بل أكثر من ذلك تجرأ أحدهم على خدش سيارتي بآلة حادة انتقاما مني، لأنني رفضت الخضوع لتهديداته، وعندما قابلته بالأمر أنكر وقال إنه ليس الفاعل، وأعطاني موعظة في نتائج الركن العشوائي للسيارة في الشارع».
وسرد جلال قصته قائلا: «منذ سنتين تقريبا تعرضت إلى ضغوط كبيرة في عملي بسبب المسئول المباشر، الذي جعل من مهمة إهانتي ومعاقبتي شغله الشاغل. فبعد أن وجّه لي إنذارين كتابيين، كان يريد بلوغ غايته بمعاقبتي بتوبيخ يوضع في ملف العمل حتى يحرمني من الترقية أو آخذ مكانه، كما كان يتوهم. لذلك، كان يراقبني متى دخلت ومتى خرجت، وفي إحدى المرات كانت شوارع العاصمة مغلقة، بسبب زيارة أحد الرؤساء، فكان وصولي الى العمل في الوقت المحدد مهمة صعبة جدا، فكان أن تأخرت بساعتين تقريبا رغم خروجي من المنزل بساعة قبل الوقت المعتاد. عندما وصلت إلى رويسو وجدت سيارات الشرطة متأهبة لرفع أي سيارة يتم ركنها بطريقة عشوائية على الرصيف، لذلك «رميتها» بعيدا عن مقر عملي وتوجهت مشيا، عند وصولي وجدت المسئول في انتظاري بمساءلة عن سبب التأخرات الدائمة، وفي غضون يوم واحد وجه لي توبيخا، هُددت فيه بالطرد من العمل إن واصلت إهمالي للعمل».
توقف جلال قليلا، ثم واصل كلامه: «أتذكر أنني المسئول يومها وهو يتكلم بلهجة شديدة معي. لكني لم أكن أسمعه وأنني غائب عن الوعي، أصبت بدوار لم أفق منه إلا وأنا في مستشفى مصطفى باشا، أين أخبرني الطبيب بجلطة في القلب بسبب القلق والتوتر الدائم الذي كنت أعيشه بصفة يومية، لذلك نصحني بالهدوء والراحة والتوقف عن السياقة لفترة معينة حتى لا أكون تحت الضغط بصفة دائمة. بالفعل، ر كنتها أمام المنزل وأصبحت أتنقل بالترامواي والمترو، ما ساعدني كثيرا وتحسنت حالتي الصحية، وتفاديت المشاكل مع من يبحثون عن تنغيص حياة الآخرين بمشاكل وهمية».
رفض السكان وتهديدهم الدائم فاقم المعضلة
زينب. س، 33 سنة، تعمل بإحدى المؤسسات الخاصة بالمرادية، تتنقل بصفة يومية من برج البحري إلى العاصمة، حدثتنا عن مشكلتها اليومية فقالت: «قبل انتقالي إلى برج البحري كان عملي هو أهم شيء في حياتي. فبالإضافة إلى قربه من منزلنا في المدنية، كنت دائما أصل قبل الجميع ما يمنحني فرصة أكبر في إيجاد مكان لركنها فيه، لكن بعد ترحيلنا إلى برج البحري انقلبت الأمور وأصبحت السيارة بالنسبة لي عبئا كبيرا وتمنيت في أكثر من مرة لو أمتلك عصا سحرية لجعلها صغيرة الحجم، أحملها في جيبي وأتنقل بحرية في العاصمة. التنقل اليومي من منزلنا إلى مقر العمل، جعلني أعيش هاجسا يوميا خوفا من «الصّابو»، السرقة، أو البقاء لساعات أبحث عن مكان أركن فيه سيارتي، خاصة وأن المرادية تخضع إلى تواجد أمني مكثف، ما يجعل الركن على الرصيف مهمة صعبة قد يسهلها تسامح أحدهم معك».
واستطردت زينب: «هذه المعاناة اليومية زادها طفلي تعقيدا، لأنني مجبرة على أخذه إلى المدرسة قبل ذهابي إلى العمل. ورغم أنني اتفقت مع صاحب المدرسة الخاصة بإدخاله باكرا على الساعة السابعة صباحا، إلا أنني أجد الطريق السريع في ذاك الوقت مزدحمة، بل تكاد لا تتجاوز سرعة السيارة فيها «الأولى أو الثانية»، ما يجعل من مهمة الوصول إلى العمل في الوقت المحدد صعبة ومستحيلة في بعض الأحيان، الأمر الذي جعلني أفكر في الترامواي كحل لمشكلتي، لكن في أول يوم ركبته سرق مني هاتفي النقّال الذي يحتوي كل روابط عملي والأرقام التي احتاجها. هذه الحادثة أثرت سلبا على مردودي في العمل وجعلتني أتعرض لتوبيخ من رئيسي الذي لم يستطع تفهم المعضلة التي أعيشها يوميا بسبب عدم سيولة الطريق السريع شرق العاصمة، بالإضافة إلى غياب مواقف السيارات النظامية، تجنبنا الابتزاز والتهديد وتساعدنا على الانضباط في العمل»
إسماعيل صوبان، يتنقل بصفة يومية من «قورصو» إلى المنظر الجميل بالقبة. يقول عن مشكلة ركن سيارات: «في كثير من المرات أجد نفسي أنتظر في الشارع، ربما يترك أحدهم مكانه لأركن سيارتي فيه، لكن مع مرور الايام والسنوات أصبح الأمر بالنسبة لي بمثابة العذاب اليومي وبسببه أتشابك مع آخرين بسبب المكان الذي يكون بمثابة غنيمة حرب كبيرة، وما زاد من معاناتي رفض السكان ركنها أمام منازلهم، بل يصل بهم التهديد لإلحاق الضرر بالسيارة حتى لا نعيد الكرة».
وأضاف إسماعيل: «أصبح ركن السيارة مشكلا يؤثر على حياة صاحبها، لانه مرهون بضربة حظ في إيجاد مكان يتركها وهو مطمئن عليها لا يخاف على سرقتها ولا رميها بالحجارة او النفايات أو دهنها بطلاء الجدراء انتقاما، لأن صاحبها أوقفها أمام منزل أحدهم. هذه المشكلة تحيلنا مباشرة عن سبب عدم بناء وفتح حظائر ومواقف سيارات نظامية تمنع عنا عصابات «الباركينغ» الذين يسرقون مالنا بالقوة دون حسيب أو رقيب».
حالة نفسية متدهورة وآثار اقتصادية سيئة
في اتصال مع المختص في علم النفس العيادي مسعود بن حليمة، أكد أن الاستشراف والتخطيط في المدن الكبرى متأخر جدا مقارنة بتلك الموجودة في الدول المتقدمة، ما خلق مشكلا حقيقيا يؤرق حياة السائق يوميا، بسبب عدم كفاية مواقف السيارات النظامية الموجودة للكم الهائل من السيارات الداخلة إلى العاصمة، ما أدى إلى بسيكوز يعيشه السائق بصفة يومية، ما انعكس سلبا على حياته النفسية ومردوده المهني.
وأضاف بن حليمة وهو أحد مؤسسي جمعية طريق السلامة: «من الناحية النفسية يجد السائق نفسه في حالة من القلق والتوتر بسبب تفاعل الهرمونات، ما نلمسه في تسارع ضخ الدم المؤدي إلى تزايد نبضات القلب وضيق في التنفس وكذا زيادة الدهون في الجسم، ما يجعله يفقد أعصابه، ما يدخله في حالة غضب شديد، يحوله إلى شخص عدواني تجاه المحيط الخارجي. ولعل ما نراه من شجارات في الازدحام والطرق خير دليل على ذلك. وتزيد الحالة سوءا عندما يكون المعني مرتبطا بموعد مهم أو حالة طبية استعجالية، لأن المرء في تلك الظروف لا يفكر إلا في الدقيقة التي يصل اليها وما عدا ذلك لا يعني له شيئا».
وواصل بن حليمة: «من الناحية الاقتصادية، فإنها تعتبر ضربا حقيقيا لمردودية العمل، لأن الحالة النفسية السيئة التي يخلفها البحث المضني عن مكان لركن السيارة، يجعل السائق يفقد تركيزه وتسيطر عليه طاقة سلبية تمنعه من الابداع أو تقديم الأفضل. فالتعب الذي يسيطر على جسده، والتفكير الدائم بأنه سيتعرض للعقاب من طرف مسئولية أو عن الطريقة التي سيقابل بها مسئوله في العمل يبعده عن جو العمل، لأنه تحت شعور سلبي هو أنه شخص غير مواظب، أي غير ملتزم بالعمل وهذا له عواقب وخيمة على الكفاءة المهنية للسائق».
في السياق ذاته، كشف بن حليمة أن المواطن الجزائري لم يكتسب بعد ثقافة ركوب الترامواي أو المترو، فعوض التنقل بالسيارة داخل المدن الكبرى، عليه أن يتنقل بهما لأنهما توفران الوقت والجهد وتبقيه في حالة نفسية مستقرة، ما ينعكس إيجابا على حياته وسلوكياته. وتساءل عن سبب عدم تعميم الميترو على جميع البلديات من أجل الحد من الظواهر السلبية المتعلقة بالنقل والمرور، مذكرا في ذات الوقت بالخطأ الشائع لدى المواطن الجزائري الذي يجعل من قانون المرور عدوا له، رغم أنه وجد من أجل راحته وسلامته، فالقانون صديق الإنسان غير تعسفي تجاهه، لذلك وبحسب الأستاذ مسعود بن حليمة، فإنه يدعو لمرحلة تحضير وتكوين واستشراف للسائق قبل قيادته السيارة.