مصنــــع الاسمـنت ببني صـاف يهدد حيـاة أطفالنـا
لا يختلف اثنان على أن الوضع البيئي بمنطقة بني صاف بولاية عين تموشنت، أضحى كارثيا بفعل مخلّفات مصنع الاسمنت الذي أضحى يفرز يوميا كميات من الغبار والغازات جعلت أهالي المنطقة عرضة للإصابة بمختلف أمراض الربو والحساسية، إلى جانب الأمراض الجلدية والعيون.»الشعب» تنقل الاثار المدمرة لمعمل يلفظ سموما ضد الإنسان والبيئة.
وفي هذا الصدد تلقت «الشعب» العشرات من الشكاوي من طرف جمعيات ومنظمات المجتمع المدني ببني صاف، تدعو إلى التدخل لايجاد حل لمشكل انبعاث الغبار، الذي قضى ـ حسبهم ـ على الأخضر واليابس، وأدى إلى ارتفاع وتيرة الإصابة بمختلف الأمراض الصدرية. وأمام هذه الوضعية ارتأت «الشعب» إعداد هدا الربورتاج لتقصي الحقائق، وكذا نقل معانات السكان إلى المسؤولين لعل وعسى تلقى أذانا صاغية وتنتشلهم من الغبن الذين هم فيه.
يعد معمل الإسمنت ببني صاف بولاية عين تموشنت وأحد من أكبر الإنجازات التي تزخر بها الولاية ويقع على بعد أقل من كيلومتر عن بلدية بني صاف وهي البلدية التي تبعد عن مقر عاصمة الولاية عين تموشنت بـ26 كلم.
السكان لـ«الشعب’’: أغيثونا .. إرحموا أطفالنا
حين تم وضع حجر الأساس لبناء معمل الاسمنت ببني صاف، استبشر سكان المنطقة خيرا وراحوا ينتظرون تشييده بفارغ الصبر لامتصاص البطالة التي كان الكثير من شباب المنطقة يعاني منها، حيث أقام له سكان مدينة بني صاف الولائم والأفراح، وكيف لا يفرحون وقد جاء الفرج الذي انتظروه طويلا، بعد أن عانى الكثير من سكان هذه المنطقة البطالة، ونظرا لضخامة هذا المشروع الذي وصف آنذاك بمشروع القرن، وفر آلاف من مناصب الشغل، وهو ما جعل سكان المنطقة يصفون هذا المعمل بمثابة نعمة إلهية طالما حلموا بها، لكن سرعان ما تحولت النعمة إلى نقمة، فبني صاف المعروفة بمناطقها الزهية الخلابة التي تسحر زائرها لم تعد كذلك بمنطقة سيدي الصحبي وعين الأربعاء، التي تعد من بين أهم مناطق الولاية، والزائر إليها يجد عكس ذلكو وهذا ما لاحظناه بمجرد دخولنا المنطقة، إذ لمحنا سحابة سوداء تحجب الأنظار وتحبس الأنفاس، فأدركنا أن وراء ذلك هو المصنع الذي يشكل خطرا حقيقيا على صحة الإنسان ببني صاف وعلى البيئة بالجزائر.
يتحدث إليك السكان هنا بنبرة غضب حادة ولسان حالهم يقول «انتشلونا من الغبن الدي نحن فيه.. إرحمو أطفالنا»... هنا غبار المصنع يزكم الأنف ويرسم لوحة قاتمة يقول السكان: «الغبار هذا يقضي على كل من تدب فيه الحياة من أشجار وحشائش وحيوان وإنسان، فإن لم تمت اليوم قد تمت غدا، فحتى وإن كانت الأعمار بيد الله فإن سكان منطقة سيدي الصحبي هنا وعين الأربعاء ودوار أولاد بوجمعة سيدي لا يعمرون طويلا، فمن لم يمت بمرض الربو يموت بمرض السرطان أو بأمراض أخرى».
منطقة عذراء فلاحية بامتياز لكن ...؟
ونظرا للطريقة التي شيد بها المصنع وسط العديد من المروج والبساتين التي كانت تدر مختلف أنواع الخضروات والبقول، علينا أن نقول الآن - يقول السكان- ‘’من الذي سمح وأعطى الضوء الأخضر لتشييد معمل للإسمنت بهذا المكان الرائع الجمال، الذي وصفه أحد الكاردينال الفرنسي حين زار المنطقة غداة سقوطها في أيدي الفرنسيين، أنها جنة الله في خلقه فشيد قصر بأحد المزارع المحاذية للمصنع والتي تبعد حوالي كيلومترين وما زال جزءه صامدا إلى اليوم وظل هذا القصر إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية عام 1954 قبلة لكبار المعمرين والشخصيات الفرنسية والأوروبية لقضاء نهاية الأسبوع والعطل الصيفية نظرا لجمال الموقع والمنطقة كانت قبل تشييد هذا المعمل تسر الناظرين وتلهم الشعراء والفنانين. وهو ما يجعلنا نتساءل للمرة الألف، من الذي سمح بتشييد معمل للاسمنت بمنطقة بني صاف، التي تعد القلب النابض لمنطقة الغرب كون الطريقة التي بني بها المعمل لا تتماشى مع البيئة ونظرا لما يعانيه اليوم المواطن بمنطقة بني صاف خاصة دوار أولاد بوجمعة وقرية عين الأربعاء المحيطة بالمعمل، حيث يعاني الكثير من السكان بأمراض مزمنة ناهيك عن ما ألحقه من ضرر بالأراضي الفلاحية من حقول وبساتين.
معمل بني صاف للاسمنت - يقول السكان هنا - «هي الجريمة المسكوت عنها التي قضت على الأخضر واليابس دون تحرك الجهات المعنية ساكنا»، فحتى وإن كان يعمل به اليوم أكثر من 200 عامل إلا أن سلبياته أكثر بكثير من إيجابياته، فهو موطن الأمراض الفتاكة وقاتل الطبيعة - يضيف السكان - يفرز هذا المعمل أمراضا فتاكة قتلت الكثير من المواطنين، فحتى وإن كان البعض منهم قد طالب مرارا من السلطات المحلية بإيجاد حل لهذا الخطر، إلا أن هذه الأخيرة لم تبال بذلك، حيث فضلت الملايير التي تدخل خزينتها على إنقاذ حياة الآلاف من السكان، الذين يعيشون تحت درجة الخط الأحمر جراء الأمراض التي تهددهم.
نواب وجمعيات يتحركون لكن ...؟
قبل سنوات من الآن تأسست عدة جمعيات لحماية البيئة، وكان الهدف من تأسيس هذه الجمعيات هو إيجاد حل للكارثة البيئية لما يشكله المصنع من خطر على المواطنين، لكن سرعان ما تحولت هذه الجمعيات من دفاع عن المواطن إلى مهاجم، لتتلاشى مع ممر الأيام، حيث استسلمت للأمر الواقع، وهو الواقع الذي أغلق الكثير من الأفواه لتزداد معاناة السكان يوما بعد يوم، وهي الوضعية التي دفعت بنواب إلى التحرك في أعلى مستوى لوضع حد للخطر، حيث بتاريخ 23 جوان الماضي، كان النائب عن تكتل الجزائر الخضراء الحاج عبد الرفيع، قد قدم سؤالا كتابيا إلى السيد وزير الطاقة والمناجم يستفسر فيه عن أهم الإجراءات المتخدة للتقليل من ظاهرة انبعاث الغبار بالمصنع، غير أنه وحسب المعني في حديثه لـ»الشعب» لم يتلق لحد الآن أي رد في هذا الإطار.
الفلاحة والزراعة تعاني الموت البطيء
غبار مصنع الاسمنت غيّر ملامح المنطقة، فالأراضي الزراعية المحيطة بالمعمل باتت أشبه بالصحراء القاحلة، لونها بات أبيضا ناصعا بعد أن كانت تسر الناضرين بما تنتجه من خضروات بعضها كان يصدر إلى الخارج نظرا لجودتها، أما البساتين فباتت تعاني الموت البطيء، فلون أوراقها تغيرت من الأخضر إلى الأصفر، أما جبال بني صاف المحادية للمعمل التي كانت قبلة للسائحين لجمالها تغير لونها وتلوث جوها فباتت هذه الجبال أشبه بجبال الهوڤار، وكل ما يرمز إلى الاخضر عبث به غبار المعمل وأشجار الزيتون والصنوبر والبلوط التي كانت تشتهر بها الجبال لم يبق منها اليوم إلا القليل، والذي صمد في وجه غبار هذا المعمل تغير شكلها، فما إن تنبت الأوراق حتى تسقط كما تتساقط أوراق الخريف.
أما الطامة الكبرى ليس في الأراضي التي تحولت جرداء وليس في الجبال التي فقدت لونها وأشجارها، بل في الهواء الذي بات جد ملوث، وإذا زرت اليوم المنطقة تجد نفسك في محيط ملوث من جراء الغبار الذي يفرزه المعمل ليل نهار، أحيانا يخيل لك وكأنك في قلب الصحراء وسط زوبعة رملية لا تستطيع أن تفتح عينيك، لكن إذا كانت الزوابع الرملية لا تشكل خطرا على صحة سكان البدو الرحل، فإن غبار معمل بني صاف يقضي على كل من تدب فيه الحياة من أشجار وحشائش وحيوان وإنسان.
أمراض الربو والحساسية تتفاقم بسبب الغبار
في ظل غياب أرقام ومعطيات رسمية توضح حجم الضرر الصحي، الذي ألحق بسكان بني صاف، فإن المراكز الاستشفائية تتلقى يوميا عشرات حالات الإختناق لمرضى الربو والحساسية، التي أصابت معظم أهالي المنطقة خاصة فئة الأطفال، ووصل الأمر لحديثي الولادة، حسب تصريحات بعض العائلات.
ولعل ما يؤكد ذلك تقارير بعض الأطباء بمستشفى بني صاف، التي بينت أن مرض الربو سجل انتشارا كبيرا لدى أطفال البلدية قياسا بأطفال المناطق المجاورة، نظرا لكمية الغبار التي يفرزها يوميا.
مصادر من داخل المصنع: سيتم تدارك الوضع في القريب العاجل
معاناة المواطنين لا تزال متواصلة إلى غاية تجسيد شركة الاسمنت لوعودها، وهو ما تحقق فعلا بدخول المصفاة حيز الخدمة، لكن سرعان ما تعطلت، ما أدى إلى عودة مشكل انبعاث الغبار ودفع بمديرية البيئة لولاية عين تموشنت إلى إرسال عدة اعذارات إلى الشركة لكن لا حياة لمن تنادي...؟ وفي هذا الصدد وفي ظل امتناع بعض مسؤولي المصنع عن التصريح الرسمي لوسائل الإعلام، تؤكد مصادر من داخل الشركة على أن الوضع في طريقه إلى الحل، حيت سيتم اقتناء مصفاة جديدة في الأيام القليلة القادمة من شأنها تدارك الوضع والقضاء ولو نسبيا على مشكل انبعاث الغبار.
والي الولاية: ضرورة المحافظة على البيئة عبر المراقبة المتواصلة لكثافة الغبار
هذا وكان والي عين تموشنت السيد أحمد حمو توهامي، خلال ترأسه لقاء جمعه بمدير مشروع إنجاز خط إنتاجي ثاني لمادة الاسمنت بمصنع بني صاف وكذا مسيري المؤسسات المكلفة بإنجاز مختلف الأشغال التشييدية التحضيرية لموقع المشروع والتركيبية للآلات المحطاتية والتحويلية، على ضرورة وجوب الأخذ بالحسبان، خلال المرحلة الإنتاجية، للاحتياطات المطلوبة من أجل المحافظة على البيئة عبر المراقبة المتواصلة لكثافة الغبار، الذي يجلى من الأفران، مؤكدا على أن المشروع يعتبر ذو قيمة اقتصادية اضافية للاقتصاد الوطني لا سيما وأنه يرتقب إنتاج إضافي لمادة الإسمنت بـ 2ملايين طن آفاق سنة 2017، ما يتيح الاستجابة لاحتياج السوق المحلية المتسعة رقعتها أكثر فأكثر مع خلق 1500 منصب شغل باختصاصات مختلفة منها 400 منصب دائم، 30 بالمائة من خريجي الجامعات ومنصب شغل بنمط غير مباشر بـ3000 منصب، إذا كان غبار معمل بني صاف - وحسب تعليقات السكان- يقضي على كل من تدب فيه الحياة من أشجار وحشائش وحيوان وإنسان، فإنه اليوم بات من الضروري التدخل العاجل لوضع حد لمثل هاته التجاوزات، التي وإن استمرت ستخلف المئات من المرضى الذين ورثو وسيورثون المرض لأبنائهم... فهل من آذان صاغية ؟.