يشهد التاريخ ويقسم المؤرخون، أن البليدة كانت مدينة تذكر على لسان الداني، القاصي، الحبيب والعدو، قبلة تاريخية، اختارها مضطهدو الاندلس في القرن الـ 16 ميلادي، ملاذا لهم فرارا من بطش النصارى ومحاكم التفتيش .. حطّوا الرحال بها طلبا للاستقرار والعيش في أمن وأمان، لطبيعتها الفاتنة، تربتها الخصبة وموقعها الاستراتيجي.
تحوّلت البليدة مع الأيام وباتت «اندلس المغرب العربي»، ثم عاصمة المتيجيين، ثم أخيرا وليس آخرا مدينة الورود والرياحين. لكن تلك العناوين والشواهد التاريخية والألقاب، باتت من حكايا الجدات، تروى لينام الصغار تحت نور القمر. ذابت مثلما يذوب الملح حينما يتفاعل مع وجود الماء، وتحوّلت الى اقليم جغرافي، حمل في تغير مؤسف ألقابا جديدة، مثل مدينة الاسمنت والطرق المحفورة والأوساخ التي زينت في ديكور بشع ومقرف، أزقتها وأحياءها العتيقة والشعبية، وما سلم منها إلا ذكرى لأسماء أبوابها، لكن هي الأخرى باتت عناوين من الماضي غير موجودة الأثر. إنها وضعية تقف عندها «الشعب» في هذا الاستطلاع.
كانت مقصد الأجانب لابتياع الورد والتسوق من بساتينها ...
يحكي أحد أبناء البليدة من إطاراتها الذين شغلوا مناصب في التسيير لـ»الشعب» أن افراد بعثة من الأجانب حملوا جنسيات ايطالية زاروا مدينتهم في العقد الماضي، وكان مقصدهم معاينة مشاتل الورود وابرام صفقة مربحة نحو بلدهم،ل أنهم سمعوا عن البليدة، بأنها مدينة الورد، فاعتقدوا جازمين أن اللقب هو حقيقة يعنى واقعا فعلا، وليس معنى فارغا من أي حقيقة لذلك المعنى واللقب، وكانت المفاجأة الصادمة، حينما علموا وعرفوا واكتشفوا في خيبة، أن تلك السمعة واللقب مجرد عنوان رحل مع أناسه، الذين كانوا فعلا يعشقون الجمال في أبهى صوره أي الورد والزهر والرياحين وعبق الفل والياسمين، فعادوا من حيث جاءوا يحملون ذكرى مؤسفة، يقصدون وجهة أخرى من بقاع العالم يبحثون عمن يزودهم بالورد دون أمل في العودة إلى من كانت تلقب بمدينة الورد.
الإسمنت الشبح الزاحف على جنان البساتين وفسيلات الورد الجميل..
الواقع اليوم ومنذ سنوات بل عقود، أن كل زائرللبليدة، يتعجب ويحتار بل ويصاب بالصدمة أمام نمط العمران، وفوضى البناء وعدم تجانسه من مدخل المدينة الشمالي الى بوابتها الجنوبية، ويلاحظ كيف ان شوارع تاريخية وعتيقة، ضاربة في الزمن البعيد، حملت أسماء لأنواع من الورد والأشجار، مثل حي الورود والياسمين والموز والبرتقال والتوت والبنفسج والحدائق، في حين أن تلك الاسماء ما هي إلا معان، غابت عن تلك الشوارع والأزقة الشعبية البساتين وزالت، وليس الكلام يخص الأزقة العتيقة والأحياء، بل هي حقيقة تظهر على امتداد الشوارع الرئيسية والساحات التاريخية.
يزداد الأمر دهشة مع اللون الشاحب والحزين لتلك الشوارع، وفوضى النقل وأزمة حركة السير والطرقات المحفورة والأرصفة الترابية غير المهيأة بقلب المدينة وتسربات المياه على طولها وتجوال الحيوانات المتشرّدة والضالة وهي تحوم لتقتات من النفايات المنزلية المرمية، حتى أنها باتت تتخذ من مداخل المدينة، عناوين تستريح وتستظل لتنعم بالقليل من الراحة والنوم. وما يلفت ناظري الضيف الزائر أيضا، نقصا بل انعداما لأماكن عامة مهيأة يقصدها الزوار للاستجمام وأخذ صور للذكرى.
حدائق تبكي وضعيتها فهل من التفاتة
المعيب أن الحدائق التي كانت تتغنى بها المدينة هي إما مغلقة أو غير مهيأة أو مهجورة إلا القلة القليلة منها تحسب على الأصابع والتي هيأها السكان والجيران واجتهادات المسؤولين الغيورين ، حتى أن الساحات المشهورة بها، مثل ساحة التوت التاريخية والقلب النابض للمدينة، تحولت الى اماكن مزعجة ومقززة، غير مرغوب فيها رغم المحاولات الماضية القليلة ترميمها أو إعادة الحياة فيها وتهيئتها.
عبثت بهذه الوجهة في شكل مفضوح الأوساخ التي أصبحت ديكورا قبيحا يزين زواياها وطالها اهمال شبه مقصود، صعب أن يجد المرء من ابن المدينة أو السائح الزائر من بعيد، أن يجد مكانا مناسبا يستريح فيه ويمتع ناظريه به، والمصيبة أن الحدائق التي تزخر بها، باتت عناوين مهجورة نادرا ما تستذكر بإحياء سهرات صيفية، وزادت في صورتها القاتمة ارتياد بعضها من قبل ازواج غير متزوجين، يتبادلون الغراميات دون حشمة تحت ظلال الاشجار، التي تبكي في حنان للزمن الجميل، أو تجدها مستغلة من قبل منحرفين يتعاطون المسكرات والممنوعات، لأن المكان آمن بالنسبة لهم ولا أحد يزعجهم أو يسأل عنهم.
الملاحظ أن جل تلك العناوين تتشابه في وضعياتها المزرية عبر كامل بلديات الولاية الـ 25 ... ولسان حال من عايشوا فترات جمال تلك الأماكن قولهم ... «الله يرحم ذاك الزمان و الله يجيب من يعرف قيمتها وتاريخها».
حي اولاد السلطان أو الدويرات والجون عناوين الذكر الطيب...
ان أراد زائر قصد الأماكن التاريخية مثل الديوارت وحي الجون (نسبة للاجئين من الأندلسيين) أو المقابر العثمانية والرومانية والفنادق ودور المسرح والسينما والمطاحن التركية والأضرحة والقصور والحمامات، يتوقف على الحقيقة المرة ويعرف كيف أن هذه مجرد عناوين اختفت رغم أهميتها التاريخية والأمثلة كثيرة.
قصر عزيزة ببني تامو تحول في أسف شديد لما يشبه البازار، أوت إليه عائلات للإقامة والسكن به، غير آبهة بقيمته التاريخية. قصر الباي ببن خليل، كان يلجأ إليه الباي زمن العثمانيين الاتراك للراحة في عطله، وسط جنان من البساتين الخضراء، والدار التي كان منفي إليها ملك «البنين» بيونزا «بقلب حي أولاد السلطان أو الدويرات، في وقت ليس ببعيد كان يزورها من حين لآخر أحفاد الملك الذي ثار في وجه المستعمر، كما كانت بها محطات ضاربة في التاريخ، جعلت الملوك والرياس وعائلاتهم يقصدنوها، فضلا عن نجوم الفن والمسرح والسينما، للسياحة وطلب الراحة والمتعة بأمسيات شاعرية وشعرية، وإحياء الأعياد والاحتفال برأس السنة الميلادية بحظيرة الشريعة السياحية.
أصبح الأمر يبعث بالحسرة والندم الشديدين، لضياع كل تلك الأشياء الجميلة، حتى أصبح سكانها المخضرمين لسان حالهم يقول «إبحث عن مجد مدينة كانت قلعة في سماء الاندلسيين».
الورود البلاستيكية تغزو المحلات وتحل محل الطبيعية
الأمر المحيّر منذ سنوات قليلة ماضية، أن الورد الذي كان عنوانا يفتخر به سكان البليدة، بات مادة نادرة وسلعة مفقودة، بل المؤسف أنه بات في شقّ يستورد من بلدان افريقية مثل كينيا وإثيوبيا، وفي شقّ ثان يعوض بورد مصنوع من البلاستيك، وهي الحقيقة المرة التي جعلت من قيمته المادية ترتفع وتصل في أشهر ديسمبر، جانفي، فيفري، مارس وأفريل الجاري، حدود الـ 250 دينارا للوردة الواحدة، وأن هذه الورود التي تباع هي مستوردة، وليس من زراعة «تربة بلادي».
خالد راجف الخبير في حياة وتجارة الورد وتاريخه قال لـ»الشعب»، أنّه في السنوات الأخيرة تحول الكثير من تجار الورد وزراعه نحو نشاطات أخرى، وقلت محلات ودكاكين بيعه، بل المصيبة أن فيه من أصبح يستعين بورد مصنع من البلاستيك، ويفتح دون حشمة محلات مزينة به في قلب ورحم مدينة الورد وضواحيها، ويضيف في اعتراف حزين وأسف، أنه منذ سنوات الثمانين (80) تبدّلت الأمور و تغيّر الحال، وأصبح الناس لا يعيرون قيمة للورد.
وذكرخالد في مثال غريب ومؤسف، أن بعض العرسان اليوم أصبحوا يحملون لعرائسهم باقات ورد جامدة لا روح فيها ولا ريحة ولا حياة، ملونة ولكنها صامتة خرساء، وهم يعتقدون أنهم يمكنهم أن يحتفظوا بها لذكرة الزواج، لكنهم يقول أخطأوا ولم يحسنوا الاعتقاد، فالورد حتى وإن ذبلت فهي لا تموت، ومن يدركون قيمتها فقط يعرفون كيف يحفظون ذكراها ويدسونها بين صفحات الكتب والمجلدات، فتسلم من الموت وتبقى وتظل، تنبع بفواصل من الذكريات الطيبة ولا تقبر أبدا.
عن الارتفاع في اسعاره في بعض الأشهر، قال خالد، إن ذلك يعود لعدم إزهرار المشاتل المحلية، وهو ما يدفع بهم الى اقتناء المورد، وقال في هذا الشأن أنه بالرغم من الإقبال على الورد وارتفاع زبائنه وعشاقه، إلا أن الاستثمار فيه محليا لم يحدث، بل على العكس فيه من ابتعد عنه لأنه ظنّ بأن الورد يساوي دينارا، ونسي بأن الورد هو فن مثل الموسيقى والمسرح والغناء الجميل المهذب، يحمل معان لا يمكن للسان أن يعبر عنها ولو كان فصيحا مثل المتنبي والعقاد، وقال، الأمر وإن كان الحديث فيه عن الزهر والورد، فهو أيضا مشابه لنباتات الزينة، فالأمر سيان لا يختلف، ولكن بنسبة أقل.
الاستيقاظ من كابوس النسيان والعودة في استعادة المجد والأمل...
رغم المقدمات المحبطة وكل ما قيل سلفا، إلا أن بصيص من الأمل ظهر في الأشهر الأخيرة من السنة الماضية، وا يزال يتطور ومنحناه يصعد نحو الموجب، وواقع هذا الكلام ظهر، في نوايا وعزم مسؤولين وابناء المدينة في قرار لا رجعة فيه، أن يعيدوا للبليدة مجدها الضائع، ويمسحوا عنها غبار الاهمال والنعوت التي حملتها في سنوات مضت.
ظهرت مشاريع وورشات عمل في تهيئة الطرقات والأرصفة، والقيام بحملات موسعة لغرس 100 ألف زهرة وفسيلة شجر ونبات زينة، بالإضافة الى اتخاذ قرار بدهن واجهات المبان والمتاجر والبازارات في تعاون بين الخواص والرسميين، بل أن الملفت والمفرح، أن فيه شبابا حملوا عناء رسم جداريات عملاقة، عبر شوارع المدينة الكبيرة.
عبر الشباب فيها بريشة الرسام الولهان عن كل ما هو جميل، وأبدعوا فعلا وأعادوا الفرحة في قلوب مواطني المدينة، بل أثاروا فيهم غيرة كانت إلى وقت قد ماتت، ودعاؤهم صغارا وكبارا أن يعود لقب ومجد المدينة الضائع عبر دفاتر الأيام، ويعود في ملحمة التحدي التي أعلنوها، وسلاحهم في ذلك وعتادهم الايمان بأنهم وسط المدينة الساحرة، حالمين بعودة معركة الورود في ساحاتها الجميلة.