كشفت تدخلات المشاركين في أشغال اللقاء التشاوري حول التنمية في الجنوب المنظم نهاية الأسبوع بعاصمة الطاسيلي «إيليزي»، عن الأسباب التي جعلت التنمية تسير بوتيرة بطيئة هذه المنطقة، رغم أن الدولة رصدت «الملايير» من الدينارات وبرمجت العديد من المشاريع في مختلف المجالات، فلم تنس الصحة، ولا التربية، ولا التعليم ولا الشباب والرياضة ففي هذا المجال الدولة «أدت» و«وفت» وهذا بشهادة المواطنين أنفسهم قبل المسؤولين، لكن بالمقابل لم يظهر أثر لتلك المشاريع على حياة الساكنة هناك فقد انتهت آجال إنجاز بعض المشاريع دون أن تسلم، والسبب أن الجنوب الكبير مصدر «ثراء» الجزائر، بفضل ما تزخر به أعماقه من ثروات «البترول» و«الغاز» ومختلف المعادن، يفتقر سطحه إلى وسائل الإنجاز، ومصادر التمويل الأولية كمواد البناء، وهو ما أثر سلبا على استكمال المشاريع الحيوية، والبرامج التنموية التي رصدت لها ملايير الدينارات لإخراجها من المخططات الورقية إلى أرض الواقع في شكل بنايات، ومدارس، وجامعات، وطرق سريعة ومصانع وغيرها من الهياكل والبنى التحتية انها وضعية رصدتها «الشعب» في جولتها الإستطلاعية بعين المكان.
بدت ولاية إيليزي، كالمريض «المنهك» من داء طال أمده، فالصورة العامة التي ظهرت فيها ابتداء من الشوارع، المساكن، والمؤسسات لم تعكس ثراء باطن المنطقة الذي جعلها ثاني أغنى ولاية في الوطن. فإلى لحظة اعتقدنا ونحن في الحافلة التي جاءت لتقل الوفد الصحفي من المطار إلى مقر الولاية حيث جرى انعقاد ثالث لقاء تشاوري حول التنمية في الجنوب، بعد ذلك المنظم في ولاية غرداية، وأدرار، أننا في «دشرة» وليس في عاصمة الطاسيلي، المعروفة لدى القاصي والداني بجمال واحاتها وتضاريسها الخلابة التي جعلتها في مقدمة الولايات الأكثر زيارة من قبل الوفود السياحية الأجنبية، فلا الطرق «غير المعبدة»، ولا البنايات «غير المكتملة» كانت توحي، بأثر التنمية في هذه المنطقة التي يبدو أنها غارقة في فوضى التنظيم، لأن تهيئة الشوارع والمحيطات السكنية من مسؤولية السلطات المحلية، وليست منوطة بأعلى هرم في السلطة، فيكفي من رئيس الدولة أن يسطر البرامج التنموية ويخصص الأغلفة المالية لها على أن يقوم «المير» والوالي بتنفيذ تلك المشاريع والسهر على متابعة إنجازها بطريقة لا مركزية بدل تركها للمؤسسات والمقاولات تفعل فيها ما تشاء.
غير بعيد، عن مقر الولاية وبالضبط وسط المدينة، كانت مخلفات الحريق الذي أتى على سوق الملابس ما زالت قائمة، وهو المنظر الذي زاد المكان بشاعة، أعمدة حديدية سوداء، وبالقرب منها مفرغة عمومية على الهواء الطلق، حيث بدا أن السوق الذي كان يجمع عشرات التجار، يتوسط بيئة غير صحية، ولكم أن تتخيلوا كيف كانت عملية البيع والشراء تتم.. لم تكن هناك أشياء كثيرة تجلب الانتباه، باستثناء بعض المقرات الإدارية، والمؤسسات العمومية وبعض المباني التابعة للشركات التجارية التي كانت تبعث بالارتياح بفضل نمطها المعماري المتماشي وخصوصية المنطقة، وتهيئة جيدة للمحيطات القريبة منها، وما عدا ذلك ظهرت المساكن مبعثرة، والبعض منها كأنها بنايات فوضوية.
أما في إيليزي القديمة، فواقعها ليس بأحسن حال من المدينة الجديدة، بنايات رثة، جدرانها متصدعة والجزء الأكبر منها غير مكتمل البناء، أما الشوارع فهي مهترئة، وكما يبدو لم تخضع لإعادة تأهيل منذ سنوات طويلة.
ملايير مرصودة
ومشاريع مفقودة
لم نكن لننتظر طويلا، حتى زالت بعض الاستفهامات التي رافقتنا من المطار إلى مقر ولاية إيليزي، فمن غير المعقول أن تكون الدولة مقصرة في حق هذه المنطقة حتى ظهرت التنمية فيها بذلك الوجه الشاحب، خاصة وأن السلطات العليا للبلاد رصدت منذ ١٩٩٩ سنة اعتلاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سدة الحكم في الجزائر، أغلفة مالية لتنفيذ البرامج التنموية بهذه المنطقة، قدرها وزير الداخلية والجماعات المحلية دحو ولد قابلية ب ١٢٢ مليار دينار جزائري في ظرف ١٢ سنة، أي بمعدل ١٠ ملايير دينار سنويا، وهو ما يساوي ٢٠ مليون دينار في السنة لكل مواطن في ولاية إيليزي، ولكن أين يكمن الخلل؟ وما الذي يعيق قطار التنمية على التحرك في ظل توفر كل تلك الموارد المالية؟.
بعض المسؤولين المحليين، وأعيان المنطقة المتدخلون في أشغال اللقاء التشاوري أرجعوا تعثر مشاريع الرئيس بوتفليقة في المنطقة وتأخر إنجازها إلى انعدام وسائل الإنتاج، ونقص مصادر التمويل الأولية كمواد البناء، فحسب رئيس المجلس الشعبي الولائي لإيليزي بلال منصور، خصص للولاية غلاف مالي معتبر إلا أن هذا الغلاف لا يمكن تكملته، لأن أقرب ولاية للمنطقة ورقلة، وهي تبعد عن إيليزي ب١٠٥٠ كلم، لهذا وتيرة إنجاز المشاريع بطيئة بسبب بعد المسافة عن هذه الولاية، ناهيك عن ضعف المقاولات، وانعدام المواد الأساسية للبناء، فأقرب منطقة تجلب منها هذه المواد تقرت وهي تبعد عن إيليزي بـ١٢٠٠ كلم.
ومن أجل الإسراع في التنمية المحلية، اقترح ذات المسؤول التعاقد بالتراضي مع الشركات الأجنبية لاستكمال جميع البرامج المحلية خاصة في قطاع السكن، والقيام بتحفيزات خاصة بالمنطقة كإعفاءات الضريبة للتجار والمقاولين لمدة ٥ سنوات لضمان التنافس مع الشركات الكبرى، كما اقترح تدعيم الولاية بطريق مزدوج، ودعا إلى القيام بدراسة وانجاز السكك الحديدية لتسهيل عملية نقل البضائع والمسافرين.
وقد اعترف وزير الداخلية والجماعات المحلية بنفسه بهذا المشكل، حيث ربط تأخر انجاز المشاريع بالمنطقة سيما تلك الخاصة بقطاع السكن، بانعدام اليد العاملة المؤهلة، ناهيك عن نقص وسائل الانجاز.
وبهدف استدارك النقص المسجل في هذا المجال، قال ولد قابلية أن مجلس مساهمات الدولة ألزم ٤ شركات عمومية كبيرة بفتح فروع لها في الجنوب، لتوفير وسائل الانجاز.
الريف أساس التنمية المستدامة والصناعات المتكاملة أولوية
إذا كان رئيس المجلس الشعبي الولائي لإيليزي، قد رأى في منح التحفيزات للمقاولين والتجار عاملا لتسريع وتيرة التنمية، فإن ملاخ بابا زكريا رئيس جمعية ثقافية، رأى أن التفكير في إنشاء تنمية مستدامة، تتماشى وخصوصية المنطقة تكمن في دعم التنمية الريفية وخاصة تربية الإبل وإنشاء التعاونيات المستقرة لإنتاج الحليب والوبر وغيرها من المشتقات التي تتطلبها الصناعة التقليدية كالبرنوس والقشابية التي أصبحت اليوم في طريق الزوال، وكذا دعم حليب الناقة كما يدعم حليب البقر في الشمال، خاصة وأن هذا النوع معروف ومطلوب في المنطقة وحسب الدراسات العلمية صنف في المرتبة الثانية بعد حليب الأم، وحتى تكون هذه النشاطات الاقتصادية تتماشى وخصوصية المنطقة وضمان وسائل النجاح لها من الاستثمارات، لابد من إنشاء مشروع متكامل يتمثل في صناعات تكاملية مصنع البسترة وتعليب الحليب ومصنع إنتاج الأعلاف وبهذا قد نتوصل إلى مشروع متكامل، يساهم في تحريك التنمية ويحارب البطالة لأن هذه النشاطات معروفة ومطلوبة لدى السكان المحليين.
وأشار طالب زيتوني ممثل الاتحاد الفلاحي الولائي، إلى أن الطابع الولاية الرعوي جعل سكان المنطقة يعتمدون على تربية المواشي، خاصة بالمناطق النائية، إلا أنها تعاني من الجفاف منذ عامين مع العلم أن حصة الولاية من الأعلاف معتبرة إلا أن الكمية التي تصل إليها لا تتعدى القليل من القناطير بسبب انعدام نقطة البيع لتعاونيات الحبوب والبقول الجافة على مستوى إيليزي، ولحل تلك العوائق خاصة التمويل بالأعلاف اقترح تخصيص كمية معتبرة من الأعلاف بالمجان، كما استفادت منها بعض الولايات، وفتح نقطة بيع الحبوب والبقول الجافة على مستوى الولاية، وتمكين التعاونية الفلاحية من الاستفادة من دعم في تكاليف النقل، وهو الطلب الذي تجاوب معه وزير الفلاحة الحاضر في أشغال المشاورات، حينما وافق على رفع كمية الشعير المخصص للولاية من ٢٥ ألف قنطار إلى ٥٠ ألف قنطار سنويا.
وبغرض مواجهة الجفاف، طالب ، أحمد زقري نائب برلماني سابق، وصاحب وكالة سياحية بفتح دراسات في المنطقة لتحديد مواقع تواجد المياه، «لأن الذين يأتون إليها يقولون أن الماء ليس متوفر، والسلطات تقول عكس ذلك، ونحن نريد معرفة الحقيقة» كما طالب بحراسة الآبار المتواجدة بالدبداب، فعلى حد قوله عثر على المحركات التي ترفع المياه من الآبار بالطاقة الشمسية في كل من مالي والنيجر، وإبقاء المراكز المتقدمة بالحدود من دون أعيان المنطقة سيبقي المجهودات التي تبذلها الدولة بدون فعالية.
ولم تخلو مداخلات الفلاحين ومربي المواشي، من دعوة السلطات الوصية، إلى إيلاء الأهمية أكثر للشعب الأخرى على غرار تربية الدواجن، حيث سجلوا وجود رغبة من شباب المنطقة للاستثمار في هذا النوع، عن طريق وكالة دعم وتشغيل الشباب «أنساج»، إلا أن عدم وجود الهياكل «المداجن»، عرقل تنفيذ هذه المشاريع وجعل هذه الشعبة منعدمة في المنطقة، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى المطالبة بتخصيص قروض طويلة المدى لبناء مثل هذه الهياكل، في حين رفض بعض الفلاحين الدعم الذي قدمته وزارة الفلاحة لتوسيع غرس أشجار الزيتون في المناطق الجنوبية، واقترحوا دعمهم بالنخيل، لأن الزيتون لا ينجح في الصحراء.
وأكد خويلد بوطوبال أحد أعيان منطقة الدبداب الحدودية، أن سكان الجنوب يعون أن حجم التحدي كبير ولكن العراقيل كثيرة، إلا أن هذا لم يمنعه من القول أن مواطن إيليزي يثق في المستقبل وفي الإرادة السياسية للسلطات العليا للبلاد، ويعي كل المؤامرات التي تدبر من حولها.
تداعيات أحداث دول الجوار تدخل المرشدين السياحيين عالم البطالة
أدخلت الأوضاع غير المستقرة في دول الجوار المتاخمة للحدود الشرقية والجنوبية للجزائر شباب ايليزي في بطالة «محتمة» فإلى وقت قريب كانت تشكل السياحة أهم مورد لهؤلاء وللمنطقة، حيث تساهم في تنمية النشاط الاقتصادي للولاية و يعيل عائلات بأكملها، ولكن بعد الأحداث التي عرفتها كل من ليبيا وتونس، وأخيرا مالي «جفت منابع الدخل»، بعد أن تراجع عدد السياح الوافدين إلى المنطقة، وهو ما أوقع أصحاب الوكالات السياحية والمرشدين في حيرة من أمرهم، وجعلهم يستفسرون عن مصير نشاطهم خاصة بعد أن تضاعفت فاتورة الضرائب الملزمين بتسديدها للمصالح المعنية.
ورفع العديد من أصحاب وكالات السياحة والسفر، دعوات للوزارة الوصية تطالبها بمسح الديون المترتبة عليهم طيلة العشرية السوداء، كما طالب البعض الآخر بإشراك المرشدين السياحيين في محاربة الإرهاب بدمجهم في سرايا المهاري التابعة للجيش الوطن الشعبي، لإنقاذهم من البطالة التي فرضها عليهم الوضع الأمني المتدهور بدول الجوار.
وقد اقترح البعض إدماج شباب المنطقة في مناصب دائمة بمؤسسة سوناطراك، بشروط للاستفادة من مناصب العمل، ومنها امتلاك الشهادة العليا أو المهنية، لمنع شباب الولاية من التوظيف، فلا يحتاج الطباخ، أو السائق إلى شهادات عليا حتى يقبل بتوظيفه مثلما قال أحد أعيان المنطقة.
وأعلن وزير الداخلية، عن فتح ٤ مراكز تكوين مهني متخصصة تابعة لسوناطراك في المنطقة، للتجاوب مع هذه الانشغالات، وتوفير يد عاملة متخصصة بإمكانها مستقبلا العمل في هذا الصرح الاقتصادي الهام.
وإذا كان أصحاب الوكالات السياحية يبحثون عن دعم من الدولة لإنعاش نشاطهم بالمنطقة، فإن الطلبة والمرضى يبحثون عن تخفيضات في أسعار تذاكر الجوية الجزائرية حتى يتمكنوا من الإلتحاق بالجامعات والمستشفيات، لتلقي العلم والعلاج ، فثمن تذكرة النقل الجوي تقدر بمليونين و٤٠٠ ألف سنتيم، وهو مبلغ ضخم يعجز المواطن البسيط عن توفيره سيما إذا أضطر للسفر أكثر من مرة في الشهر.