تشهد الصناعة التقليدية بالجزائر حركية متنوعة وزخما إنتاجيا فنيا قد لا يدرك عقل المرء ما تحمله الحرف المنقوشة والمزخرفة بأنامل الحرفيين من إبداع وإحياء للموروث الثقافي والحضاري المادي، ترجمته المواهب عبر قوالب فنية تحمل دلالة قوية على تمسك أصحابها بهوية الفن والطراز الجزائري الممزوج بين الأصالة والعصرنة، وهو ما وقفت عنده جريدة “الشعب”في هذا الاستطلاع تزامنا مع الصالون الوطني للأشغال المرتبطة بالبناء.
يبدو لك للوهلة الأولى وأنت تلج أجنحة المعرض الذي غص بالمنتجات الحرفية التي تبهر الزائر وتجذب انتباه الإنسان وتحمله إلى حضارات وحقب تاريخية تترجم عراقة المنتوج الوطني عمق الهوية الوطنية، رغم صعوبة ما يواجهه الحرفي اليوم من معاناة لمواصلة الإنتاج في ظل مراحل وصفت بالصعبة رغم سعي الحرفي للحفاظ على ما تبقى من موروث مادي في مجال الصناعة التقليدية.
الإرادة تصنع المستحيل وغياب العلامة يرهن الإنتاج
في هذا الصدد يروي لنا عمي عمر بنور الذي تجاوز عقده الستين في حرفة النقش على الجبس والخشب وكذا الرسم والزخرفة على الخشب وكله عزم وإرادة على مواصلة هذه المهنة الموروثة أبا عن جد ويواصل هو شخصيا تعليمها لابناءه ذكورا وإناثا، قائلا إن الحرفة التي تعلمها عصاميا سنوات السبعينيات صنعت منه شخصا قويا منحته الإرادة في اقتحام هذا المجال الذي أصبح اليوم رمزا وسجل لنفسه علامة خاصة به في أهم المؤسسات العمومية في الوطن.
وكان لعمي عمر الشرف في تزيين مؤسسات وطنية هامة على غرار قاعة اجتماعات وزارة الدفاع الوطني والكثير من المنشآت على مستوى الوطن وحتى في الخارج، معتبرا ذلك فخرا وعرفانا للحرفي الجزائري حينما منحت له الفرصة في تزيين مؤسسات الدولة.
ويذكر عمر أن الفضل في اعتماده ضمن عدة مؤسسات وطنية إلى رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة خلال زيارته لإحدى المعارض، حينما أعجب بأحد اللوحات التي كانت معروضة في جناحه قائلا أنه: “منذ ذلك الحين ونحن نفتخر بمشاريعنا التي زادتنا عزما على مواصلة الدرب رغم الصعاب التي تواجهننا”.
ويعمل عمر في ورشة عائلية خاصة بباب الزوار منغلقة عن العالم الخارجي ولا يدخلها سوى من يسمح له واستغربنا أمره في هذا الطرح لنسأله عن لجوءه لاتخاذ هذا القرار، فأجاب متنهدا وبلهجة تحمل الكثير من الأسف قائلا: “لولا تعلقي بهذه الحرفة تعلق الأم بابنه لتركتها منذ زمن بعيد، بسبب الدخلاء والسماسرة الذين يقومون بنسخ الأشكال واللوحات التي ننتجها ويعرضونها في جهات أخرى”.
ويروي صاحب الستين عاما إن الاختلاسات حدثت مع شركاء أجانب قاموا بسرقة الأفكار ونسبوها إليهم وهو أمر يقلق الحرفيين اليوم، لهذا لجأ عمي عمر إلى الاختلاء بورشته الصغيرة التي لا تتعدى الأمتار، مشيرا إلى أن الحرفة تحتاج إلى نفس كبير من صاحبها وحبه وأول دافع يجعلك تتمسك بها رغم ما وصل به من العمر عتيا.
حـرف حديثــة بإبـــداع محلـي
غير بعيد نولي أوجهنا شطر جناح لا يقل إبداعا من جناح زخرفة الجبس والنقش على الخشب في الصالون الذي بدا خاليا من الزوار في وهو أمر تأسف له المشاركون، مؤكدين أن الجهات المنظمة تتحمل مسؤولية ذلك، فكيف للحرفي مواصلة المشوار في ظل هذا العزوف الذي يرهن المعارض والصالونات في كل مرة.
في هذا الإطار قال خزار محمد السعيد حرفي في نقش وصقل الحجارة بأشكال تبهر رائيها من رونق الزخرفة التي أراد أن يجسدها صاحبها في أشكال هندسية قد تبدو لك مستحيلا، أن مصطلح المستحيل لا يدخل في قاموس الحرفيين على حد تعبير الذي تفنن في زخرفة الأعمدة بالأحجار الطبيعية المنتقاة من جبال مدينة الاغواط غير بعيد عن حضارة قصر الحمراء الذي قد يكون الباعث على إحياء هذه الحرفة النادرة.
وأكد لنا محمد السعيد أن حرفة الحجارة التي يمتهنها تعد الأولى من نوعها في الجزائر فيما يخص بعض الأنواع التي اختص بها في صناعة النافورات المائية المنصبة في الساحات العمومية وقد شارك في تشييد العديد من الأماكن السياحية على مستوى الوطن فضلا عن زبائنه من الخواص.
وتطرح في الكثير من المناسبات والتظاهرات التي تعنى بالصناعة التقليدية إشكالية المادة الأولية التي اعتبرت عائقا في كثير من المهن، إلا أن محمد السعيد يستخدم مادة أولية محلية بالدرجة الأولى يحصل عليها من صخور الجبال الراسيات بمدينة الأغواط.
وما يشد انتباهك في أعماله الفنية الرائعة المزخرفة، تلك الرسومات التي لا يمكن للآلة العصرية خطها وفي هذا الخصوص أوضح لنا أن ما يميز الحرفة اليدوية هو خلوها من الطابع العصري في وقت تحافظ فيه على أصالتها وهويتها الثقافية التي تميز بها الجزائريون على مدى عصور من الزمن أظهرت مدى تمسك الجزائري بأصالته وتطلعه في ذات الوقت إلى الحداثة الجمالية.
وفي المقابل لم يطرح العارضون في عبر أجنحة الصالون خلال جولتنا مشكلة التسويق بكثير رغم أن هذا الأمر كان الشغل الشاغل للحرفيين سابقا، إلا أن الحرفي لعروسي ميلودي صاحب مؤسسة الأندلسية المتخصصة في الخزف والفخار يطرح عكس ذلك تماما وتمثل انشغاله في بعض المواد الأولية المستخدمة في الزخرفة على غرار الألوان التي تستورد من الخارج بأثمان باهضة أرهقت كاهلهم وساهمت في رفع أسعار المنتجات التي لم تعد في متناول الجميع.
البصمة الشخصية سر جمالية الصناعة التقليدية
ويعتمد الحرفي ميلودي على الطين كمادة أولية يحول من خلالها عجينة إلى أشكال ورسومات فريدة من نوعها مشكلة فسيفساء في تناغمها وتراصها حول بعضها البعض تستخدم في زخرفة غرف الاستقبال وأروقة المنازل وتتعدد استعمالاتها بحسب الزبون، الذي يختار من الأشكال والألوان ما يشاء فالحرفي بإمكانه معرفة ميولات الزبون وتوفيرها في الصناعة التقليدية، مشيرا أن البصمة الشخصية لكل حرفي هي ما يميز إنتاجه عن باقي الحرفيين.
وفي هذا الجانب أوضح لعروسي أن تراجع المبيعات تقف وراءه جماعات ودخلاء على المهنة يسعون إلى الربح السريع واستبدال الحرفة الأصيلة بالمستوردة إلا أن الإرادة وحب المهنة يصنع المستحيل ويجعل من الربح عاملا ثانويا مقابل تجسيد رسم مخيلته على أرض الواقع.
وتتعدد الصناعة التقليدية في بلادنا على اختلاف وتنوع الثقافات والعادات فولاية تلمسان تشتهر بصناعة الحدادة الخاصة بالبناء وزخرفة البيوت وهو ما عرضه محمد من عاصمة الزيانيين وفضل في صناعته المحافظة على الطراز العربي والإسلامي المتمثل في الزخرفة بالحدادة التي تراجعت سنوات خلت. ويعتقد محمد أن منافسة الإنتاج الأجنبي لهذه الحرفة التقليدية التي اشتهرت بها مدينة تلمسان على وجه الخصوص هو الدافع وراء إحيائها من جديد، حيث يمتهنها منذ 15 سنة رفقة موهوبين شباب وكهل منهم من تفوق خبرته 25 عاما ضمن ورشات خاصة تقدم الطلبات لمختلف الزبائن من أنحاء الوطن ويشارك في المعارض الوطنية على مدار العام للتعريف بهذا الفن للأجيال ودعوتهم للحفاظ عليه حسبما أكده لنا.
وتبقى الرسالة الأسمى التي يقدمها الحرفيون من وراء إبداعهم هو الحفاظ على الهوية الوطنية التي تترجم في أعمالهم التي اختلفت إشكالها وتنوعت معالمها بين فن، زخرفة الخزف، والنقش على الخشب، مثال ما يزال تحافظ عليه تلك النقوشات التي رافقت الفن المعماري الجزائري من الطراز العربي والإسلامي على مدار حقب زمنية طويلة، وما القصبة وقصر رياس البحر إلا دليل على تلك الحضارة العريقة.
ويجمع الحرفيون على أن الربح المادي ليس هو الهدف الأول في امتهان الحرف، حسبما يراه الكثير في حياة الإبداع، موضحين أن الرغبة الجامحة في التعبير عن مكنوناتهم الداخلية وترجمتها على أرض الواقع هي الهدف الأول لشغفهم بالإبداع مستدلين بذلك على عصاميتهم في تعلم الحرفة والاعتماد على مواردهم الشخصية لمواصلة الإنتاج.