“الشعب” تشقّ الرّمال وتكشف عن مستشفيات الثّورة

المجاهد عقوني مهندس مراكز العلاج “النبكة” بيطام بباتنة

نور الدين لعراجي

تسليط الضوء على المواقع والمعالم التاريخية التي احتضنتها الثورة ونحن نحتفل بمرور الذكرى الـ 60 لاندلاعها، والتي بقيت شاهدة على عظمتها وتنوّعت عبر المناطق كل حسب المهام التي تحدّدها القيادة، ومن بينها المراكز الاستشفائية التي كانت تسيّرها الولاية التاريخية الأولى الأوراس نمامشة، مستشفى النبكة ببلدية بيطام دائرة بريكة ولاية باتنة، التي اتّخذته مركزا سريا للعلاج ومكانا للراحة بالنسبة للجرحى من المجاهدين، حيث أنّ دخول منطقة ما ومعرفة خباياها وأسرارها لا يتأتّى ذلك إلا بالتقرب والحديث مع الذين كانت تربطهم علاقة مع ممّرضين وأطباء ومجاهدين عالجوا بهذه المراكز، إلاّ أنّ اختيارنا قادنا إلى الرجل الأول الذي كان له الفضل في إنجاز هذه المراكز، وهو المجاهد محمد عقوني الذي شارف على العقد التاسع مروّض الطبيعة تاركا بصماته شاهدة هناك إلى الأزل.
 من العاصمة
 إلى بيطام 
 لم تكن الرّحلة التي قادتنا إلى بلدية بيطام بالسّهلة أين قطعنا مسافة 400 كلم متجهين إلى إحدى هذه المراكز الاستشفائية بالولاية التاريخية الأولى، ومعلم من معالم الثورة التحريرية التي لم تحظ بحقها الإعلامي والتاريخي وهي صامدة بين هذه الكثبان الرملية. وقصد نفض الغبار عن هذه الشواهد وبعثها من جديد وتسجيل شهادات أصحابها الأحياء، تبقى شاهدة على شاسعة
الثورة وأهميتها في تحديد المناطق التي تراها آهلة للعلاج أو مراكز عبور أو لتخزين المؤونة...إلخ . ونحن في الطريق تراءت لنا المنطقة وكأنّها لوحة سبحان من صمّمها وعدّلها، وصلنا إلى أولاد عيش ومنها إلى دوار أولاد جحيش أين يقطن المجاهد عمي محمد عقوني، الشخص الذي قام ببناء هذه المراكز في الرمال بعد أن دلّنا أحد الشباب على مكان  إقامته. وبالفعل اتجهنا إلى بيت صاحب الفضل في إنجاز هذه المستشفيات ولما وصلنا البيت، استقبلنا ورحّب بنا، وبعد الحديث عن الثورة والشهداء ونعمة الاستقلال، طلبنا منه أن يحدّثنا عن البداية وصولا إلى هذا المعلم الذي يصرّ على البقاء وحيدا في هذه البراري الرملية لوحده دون رفيق ولا أنيس، يحادث ذكريات الذين رحلوا وبقي الحنين يشدوه إليهم ويحدثنا عن الفكرة التي بها أصبحت هذه المستشفيات شاهدة  إلى اليوم، وتحت إلحاحنا وإصرارنا أن يكون هذا الانجاز مرآة عاكسة لواقع هذه المنشآت الفنية، وكما كان مخطّطا انتقلنا برفقته إلى مستشفى النبكة، وبعدما قطعنا مسافة قصيرة عبر طريق اجتنابي غير معبّد، تعطّلت سيارتنا في الرّمال، ولم نستطع تكملة المسير ممّا اضطرنا السير على الأقدام في درجة حرارة قاربت 38 درجة والرمال تذرف بعضها ذات اليمين وذات الشمال ممّا صعّب علينا التنقل. رهبنا المكان الخالي من البشر إلا الطيور الجارحة التي تراقب صيدها عن بعد وكأنها خاشعة في تعويذة موسمية، ومما زاد المكان وحشة هو تلك الكثبان الرملية التي تمتد على لمح البصر. تابعنا الطريق الرملي الذي غيّبت معالمه الرياح، بدأ الخوف يتردّدني من هذا الفيض الرملي بعد أن علمت أن المسافة مازالت بعيدة، توقّفنا بعد قطعنا لمسافة 4 كيلومترات حيث أخذ منا التعب كل الجهد، ولكن شغفي في معرفة هذا المكان زادني حماسا لمواصلة السير بعدما وقف عمي عقوني على أعلى هضبة يراقب السبيل الأقرب إليها، ثم أشار إليّ بأنّ الطريق من هنا طالبا منّي التمعن في شجرة تتوسّط هذا الخلاء لوحدها، وإذ هي هناك على مرأى العين يراها قريبة وأراها بعيدة قال لي: “إذن بقيت أمامنا 3 كيلومترات ونصل إليه”.
في هذه الأثناء كنت أتصوّر نفسي جنديا بجيش التحرير الوطني وفي مهمة استطلاعية  سرحت في هذا الخيال إلى أن تراء لي من بعيد نصب حجري، وما إن وصلنا كانت الحيرة والسكون يخيمان على الموقع الذي تداركت السلطات بعد مرور أكثر من نصف قرن فقامت بتسييج الموقع وجعلت منه معلما محترما في غياب الطريق المؤدي إليه.
ونحن نعبر الطريق حدّثني عمي عقوني عن المنطقة قائلا: “أسرارها  مثل أعماق البحار من تطأ قدماه هذه البقعة لا يغادرها سالما”، لا يفرق بين الغرب والشرق أو الشمال والجنوب نتيجة التضاريس الرملية الوعرة.  
ما إن اقتربنا كان الصمت يفجع المكان،
وتعويذة الزمن نفضت أنفاسها هنا، سكينة تنذر بصعود الأرواح وها هي تحرس الأمكنة من أي خطر يداهم عزلتهم الأبدية، كانوا يسكنون هذا المكان منذ نصف قرن. وهنا كانت بدايات عمي
عقوني بحفر هذه التلال وجعلها ملجأ لمعالجة الجرحى من المجاهدين الذين يتعذّر عليهم البقاء في الجبال، التي قد تكون عرضة لتفتيش ومداهمات العدو، وبلغة الرجل الواثق يكشف عمي عقوني عن شبابه قائلا:
«كانت الأرض تخافني أثناء حفرها”.

باطن الأرض ..حقائق وصور

وذكر بأنّه تلقّى الأمر من مسؤول المشته عن المهمة التي أوكلت إليه، بحكم أنه يمتهن الرعي ويعرف المنطقة جيدا، فقام بتنفيذها وهي حفر أماكن لمعالجة الجرحى من المجاهدين وإسعافهم لأنّ الأوامر يجب أن تنفّذ، وبدأ في العمل الذي فعلا يتطلب الصبر والقوة والجهد العضلي، إضافة إلى الحنكة والخبرة في التعامل مع الرمال التي لا ترحم أحدا، أما عن المدة التي قضاها في بناء هذا الهيكل قال عمي عقوني: “أنأ لا أتذكّر بالضبط، كنت أعمل وعندما أتعب أنام”. سألناه هل المدة تفوق الشهرين قال: “لا..لا..ربما أقل لأن التراب كان يخافني فعلا، وبالتالي فالمدة لا تتجاوز الشهر، وكل ما كان يتعبني هي الرمال التي كانت يصعب التعامل معها، لأن العمل هنا يتطلب التريث والصبر وكان ينقل الرمال في مكان واحد، وعندما يتجمع يقوم بإخراجه بعيدا عن المكان حتى لا يثير الشبهات”.
المركز يحتوي على ثلاثة غرف ورواق كبير إلى جانب المدخل الأرضي، يفصل بين الغرف جدران مهيأة بشكل سميك تتخللها نوافذ صغيرة وهي على شكل أقواس تسهل عملية إرتكاز الجدران، حيث يبلغ طول المركز الأرضي ١ متر وعرضه من ٣ إلى ٨ أمتار، مقسّم بشكل هندسي يثير الدهشة والأسئلة حول تصميمه وكيف لرجل لا شأن له بالعمران ينجز تصميما في غاية الروعة سواء من المدخل الأرضي على شكل بئر اجتنابي إلى  زاوية الفوهات التي تدخل الضوء إلى القبو، أو الجدران التي كانت تفصل هذا الإبداع الفني، إضافة إلى المكان المخصص للطبيب أو العسكري لكتابة الوصفة أو التقارير وهو مسطح على شكل كرسي أرضي يتّسع لثلاثة أشخاص، يتخذه الطبيب أو الممرض كسرير  يعالج فيه الجرحى، حتى الفوهات الخمسة الموجودة على سطح المستشفى تدخل الضوء والأكسجين، وهي مربوطة في جذع شجرة الشيح أو السدر
الشوكي كتمويه لا يمكن اكتشافها بالنسبة للذين يطول بقاءهم داخل القبو أو يتطلب علاجهم أشهر، وبالتالي تتنوع جدرانه بشكل يثير الاهتمام  حول صلابة وسمك هذه التربة التي حوّلتها أيادي عمي محمد إلى تحفة فنية مازالت شاهدة للعيان حتى اليوم، أما عن كيفية اختيار باب المركز أجابنا بأن: “ذلك يتم بالقرب من الطريق أي يوضع الباب في مقدمة الطريق ، وفي هضبة صغيرة فعند فتح المدخل تتجه الرمال إلى الخلف، وعند إعادة الغطاء إلى مكانه تعود تلك الرمال إلى شكلها الطبيعي، وكأن شيئا لم يكن بمعنى النفق يغطي نفسه بنفسه. يختلف بناء هذه المراكز من نوع إلى آخر كل حسب طبيعة المكان ونوعية التربة لأنّ الأعشاب الصحراوية الشوكية كالسدر، الطارفة، الدفلى جذورها تمتد إلى أسفل الأرض، وبالتالي من الصعب التحكم في عملية النحت”. ويضيف: “هناك بعض المراكز التي هيّأتها وهي داخل زريبة الخيل والماشية، يتم ربط بابها الخشبي بعد بناء 4 جدران صغيرة حول الفوهة ثم ينشر التبن فوقها ولا أحد بإمكانه اكتشاف ذلك، حتى الذين هم من سكان المشتة لا يعرفون بأن هناك مخبأ داخل البيت مخصص للجبهة، أما في حالة تعرض البيت  لتفتيش من طرف قوات الاستعمار، لا يكتشفون أي شيء”.
ولما سألنا عمي عقوني عن كيفية تحمل البقاء داخل هذه المراكز وخاصة بالنسبة للمرضى أجابنا: “من المرضى من بقى حتى 8 أشهر،
وهناك أفواج تذهب وأخرى تأتي ففي النهار يخرجون أما في الليل يلتحقون بأماكنهم داخل النفق المستشفى، وقد أجريت حتى عمليات جراحية هنا قام بها أطباء الثورة تستدعيهم القيادة للقيام بذلك، فيلتحقون بالمكان وهم معروفون، وهناك مراكز تنصب فوقها خيمة أو بيت شعر وتتوسط المركز، بحيث لا يمكن لعابر الطريق أن يرى من في الداخل وحتى للطائرات لا يمكنها اكتشاف من هم بالخيمة، وفي حالة طارئ ما يلتحق الجميع بالنفق وفوق مدخله تضع المرأة موقد النار لتحضير الأكل حتى لا تثير انتباه المدنيين أو عابري الطريق، ما بالك بالعدو”.
يتذكّر عمي عقوني وبعد أن أنهى مهمته الأولى بحفر مستشفى النبكة، كلفته الجبهة بحفر مستشفى آخر بعيد عن الأول بعدما أعجبت بإنجازه.

 أرواحهم حاضرة لم تغادر الأمكنة
وفي غمرة الحديث تراءى لي طيف أحد المجاهدين وهو ممدود على حافة السرير الحجري والطبيب بصدد علاجه، حينها طلبت من عمي محمد أن يحدّثني كيف كان يتم علاج المجاهدين هنا، أجابني بقوله بأن مهمته تكمن في عملية الحفر وتهيئة الأمكنة لتحضيرها كملاجئ ومستشفيات لجيش التحرير، وكان ذلك في سنة 1958.
أما عن كيفية تلقّيه الأوامر قال: “كانت تأتي في سرية تامة وهناك مجموعات من الفدائيين كل واحد فيهم مكلف بمهمة منها المؤونة (الرفيطايما) وهناك من توكل إليه مهمة ترصد قوات العدو وتتبع آثاره، وهناك من يقوم بجمع الاشتراكات وهناك المكلف بالاتصال، ولا أحدا من هؤلاء الأفراد يعرف مهمة زملائه حتى وإن قدّر الله وقع بين أيدي العدو وتحت طائلة التعذيب لا يعترف”، ثم أشار إلى مكان يمتد على شكل سيف رملي وهو عبارة عن تلال رملية بيضاء تحجب النظر وهي كثبان صعبة كثيرا، وكانت قوات العدو تخاف المغامرة في هذه البيداء، حتى الجمال والعير تعجز على السير فيها لذلك سميت بالسيف.
 
  النبكة..القاعدة التجارية لجيش التحرير  

 كانت جبهة التحرير في أواخر 1958 تملك قطعانا من الماشية والعير كلها ترعى بهذه البراري، ومازال من بين الرعاة منهم أحياء يرزقون إلى اليوم وهي غنائم تحصل عليها عن طريق الاشتراكات والزكاة والعشور. وقد شجّعت الفلاحين على زرع الأراضي ومكّنتهم من العمل فيها، ممّا عمّ الخير بالمنطقة بشكل كبير وكانت الأمور تسيرها الجبهة من بعيد وتمنح المواطن 5 فرنكات، وهذا المبلغ كان له قيمة كبيرة بالنسبة لهم.

  عندما ألتقي رفاق الأمس
وكأنّ الواحد منّا شاهد والدته  

 “الدفلى تلد الدڤلة والدڤلة تمنحنا العسل”  

ونحن نودّعه كانت الدموع تسبقه للغوص في الحديث، فيتوقّف برهة يقبض أنفاسه إليه ويشدها وهو يتذكر رفاق الكفاح بعد مرور 60 سنة من اندلاع الثورة، ويقول: “محبة كبيرة تجمعنا نتقاسم كل صغيرة وكبيرة، كانت تصلهم الأخبار بأن جمال عبد الناصر سوف يلقي خطابا الليلة، كنّا نبحث عن شخص بإمكانه أن يفهمنا عن جدوى الخطاب، وعندما نسمع ذلك كنا نرى إنّ الاستقلال قريب منّا”،  ليضيف: “في إحدى المرات بينما هم مجتمعون في وادي يتساءلون من الذي استشهد أو الذي حكم عليه بالسجن؟ ويتناقلون أخبار بعضهم ولما طال بهم الوقت سألهم أحد المجاهدين بعدما شد قبضته على شجرة الدفلى ما اسم هذه الشجرة؟ أجابوه طبعا هي الدفلى، فقال لهم هذه الدفلى غدا تصير نخلة والنخلة تلد الدڤلة والدڤلة تجيب العسل، وهذا إيحاء لبزوغ فجر الاستقلال بالجزائر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024