«الجيش» تقـف على آثار جرائم التّفجيرات النّووية الفرنسية بـ «رڤان» و»إن إكر»

هكذا تستمر المأساة

المصدر: مجلة الجيش

تتلخّص حصيلة الجرائم النّووية الفرنسية في الجزائر في ٥٧ تفجيرا نوويا مختلف القوّة والمظهر، نفّذتها بجنوبنا الكبير، تنوّعت بين السّطحية والباطنية، واستعملت فيها مواد فتّاكة محظورة دوليا، رغم أنّ هذه التّجارب كانت محلية التّفجير إلاّ أنّ انعكاساتها وأبعادها كانت وطنية وإقليمية، وهو ما جعل مسؤولية فرنسا في هذه الجرائم كاملة لا غبار عليها، ولا تحتاج إلى إدانة.
لتقصّي حقيقة المخاطر والمآسي المستمرّة والممتدّة في الزّمن لتداعيات هذه التّفجيرات على الإنسان والبيئة بكل من مدينتي «رڤان» بولاية أدرار و»إن إكرا» بولاية تمنراست، مجلة «الجيش» غاصت في الموضوع، حيث شدّت الرّحال إلى المنطقتين للوقوف على معاناة سكانهما.



لماذا رڤان؟

 محطّتناالأولى في عملنا الميداني كانت مدينة رڤان، وأوّل سؤال تبادر إلى أذهاننا لماذا رڤان بالضّبط لتفجير أوّل قنبلة نووية، خاصة إذا علمنا أنّ أراضي الإمبراطوية الفرنسية الاستعمارية كانت مترامية الأطراف ممّا يفترض أن تغنيها عن الجزائر؟
سؤال وجدنا إجابته عند الدكتور والباحث في تاريخ المنطقة والمختص في ملف التفجيرات النووية الاستعمارية عبد الفتاح بلعروسي، الذي أكّد لنا أنّ أسباب اختيار منطقة رڤان مسرحا للتّجارب النّووية الفرنسية ليس لخلو إقليم «توات» من مظاهر الحياة كما كانت تروّج له السّلطات الإستعمارية بل مردّه إلى بعد المنطقة عن وسائل الإعلام، وصعوبة الوصول إليها ليبقى ما تقوم به فرنسا بعيدا عن الجوسسة وأنظار العالم، إضافة إلى مجاورتها لمستعمرات فرنسية أخرى، وهو ما يسمح لها بمتابعة السّحابة النّووية، إضافة إلى امتلاك المنطقة لمخزون هائل من المياه الجوفية وازدهارها بالفلاحة الصّحراوية، وهو ما سيسمح لها بدراسة تأثير الإشعاع على النبات والحيوان.
ونحن نتقصّى مختلف الدّوافع التي أدت إلى اختيار السلطات الاستعمارية لإقليم توات عموما ومنطقة رڤان خصوصا، أتى إلى مسامعنا جزئية أثارت انتباهنا مفادها ارتباط اختيار المكان بخلفية تاريخية ودينية، وعن هذا يفصّل محدثنا قائلا: «إنّ للكيان الصّهيوني يد في ذلك باعتباره شريكا في نجاح فرنسا الإستعمارية دخول النادي النووي، حيث أرادوا الإنتقام من المنطقة ترابا وبشرا وبيئة، وهو ما ينم عن حقد دفين على الإمام بن عبد الكريم المغيلي، الذي كان له الفضل الأول في الجهاد ضد اليهود بالمنطقة»، وهو ما تؤيّده كتابات الدكتور كاظم العبودي الذي يضيف أن تجارب رڤان النووية هي من بين الإتفاقيات المبرمة بين فرنسا والكيان الصهيوني من خلال الاتفاق السري الذي وقّع عليه الطّرفان سنة ١٩٥٣.
ومن الدّلائل على ذلك الإرتباط المذكور توظيف الألوان لتسمية التّجارب، حيث أطلق على أول تجربة اسم اليربوع الأزرق، في حين حملت التجربة الثانية اسم اليربوع الأبيض، وكلا اللونين هما من ألوان علم الكيان وفرنسا، ذلك ما يثبت حسب عديد الباحثين بأنّ المشروع كان مشتركا بين الطّرفين، كما حملت التجربة الثالثة إسم اليربوع الأحمر لتكتمل بذلك ألوان العلم الفرنسي، وحملت آخر تجربة إسم اليربوع الأخضر، لتدّعي بذلك فرنسا أنّها دولة سلام ومساواة وعدل، وكل ما له علاقة بالحضارة بالإسم فقط.

اليوم المشؤوم بأفواه من عايشوه

 لمعرفة تفاصيل تلك الأيام المشؤومة من أفواه من عايشوا اللّحظة، قادتنا اتّصالاتنا بعد رحلة بحث وسط قصور رڤان إلى ثلاثة شهود عيان عملوا بمنطقة حمودية، وقد كان الوصول إليهم بمثابة العثور على إبرة وسط كومة قش كون العديد ممّن عايشوا تلك المأساة وافتهم المنية، وكذا نتيجة كبر سنهم، إضافة إلى تباعد القصور عن بعضها البعض.
أوّل شاهد التقيناه هو «أعبلة عبد الله»، المدعو «لوليد» من مواليد سنة ١٩٣٨، من قصر «تعرابت»، عمل بموقع حمودية آنذاك بادرنا بالقول إنّ فرنسا «قامت عشية تفجير ١٣ فيفري ١٩٦٠ بإجلاء أفراد عائلات الجيش الفرنسي قصد إبعادهم عن خطر التعرض للإشعاعات النّووية، في حين وزّعت على المجنّدين والعمال النظارات السوداء والملابس الواقية دون العمال الجزائريّين، الذين أجبروا على ارتداء قلادات على رقابهم وهي عبارة عن رواسم Clichés لقياس شدّة الإشعاعات التي تعرّضوا لها، كما طلب منهم تغطية أعينهم بأيديهم والإنبطاح أرضا باتجاه معاكس لنقطة الصفر».
وعن اليوم المشؤوم ذاته، يضيف «عيشي محمد» من مواليد سنة ١٩٤٣، أنّه «في الساعة السابعة صباحا من يوم ١٣ فيفري ١٩٦٠ أضاء المدينة ما يشبه وميضا كبيرا، وأنّ قوّته اخترقت أيديهم وأجفانهم، وتمّ تسجيل مباشرة بعد ذلك عدّة حالات من العمى المؤقّت، وبعدها بحوالي ثلاث دقائق وصل صوت الانفجار مثل الرعد بعد البرق أتبعه ريح حملت معها الرمل والغبار، وانتشر في كل مكان».
أخضع القائمون على مشروع التفجيرات حسب جميع الشّهود الذين التقيناهم، جل عناصر الحياة على الأرض من إنسان ونبات وحيوانات للتجربة، حيث وضعوا في محيط منطقة التفجير أنواعا من الحيوانات كالجمال والكلاب، وبعض الزواحف والحشرات والطيور والنباتات، وكذلك الماء والأغذية وحتى الأسماك، وفوق كل هذا استعملوا سجناء ونساء حوامل وشيوخا وأطفالا تمّ توزيعهم وفق نمط مدروس حول النقطة الصفر للتفجيرات وما حولها، وهو ما نفته السّلطات الاستعمارية معلّلة أنّها اقتصرت على تجريب ذلك على دمى، غير أنّ تلك الرواية تسقط أمام شهادة «أعبلة عبد الله» المدعو «لوليد»، الذي يؤكّد قائلا «حين تواريت وفي غفلة عن أعين الجنود الفرنسيّين لاسترجاع بعض الأغراض الخاصة بي من الموقع عشية التفجير، رأيت بأمّ عيني أشخاصا معصوبي الرأس ومقيّدين بشاحنات»، والتأكيد نفسه جاء في مؤلف «رڤان حبيبتي» الذي أطلعنا عليه أحد المهتمين بهذا الملف، وكان لنا فرصة قراءته، إذ يقول مؤلّفه «فيكتور مالوسيلفا» في الصفحتين ١٤٧ و١٤٨ نقلا عن أحد الضباط الفرنسيّين «عبرنا قرب شاحنة أبصرت أحدهم في الكرسي يضع على رأسه عمامة..أكاد مع ذلك أجزم أنّي رأيته يتحرّك..يجب الاعتراف أنّني انفعلت أمام كل هذه الإكتشافات، كنّا نشعر بأن خلف كل سيناريو يوجد مخطط  شامل لم يترك فيه شيء للصّدفة، فكّرت ثانية في الرجل ذي العمامة وتأكّدت بأني رأيته».
لم تتوقّف انتهاكات القوات الاستعمارية لحقوق الإنسان الجزائري عند هذا الحد، فحسب شهود عيان من المنطقة، فإنّه بعد يوم واحد من الانفجار تمّ أخذ بعض العمال من السكان المحليّين في جولة إلى النقطة صفر لإجراء بعض الأعمال، وإزالة بعض الآثار النّاجمة عن التفجير دون أي لوازم للحماية.

طمس الحقيقة..!!

 إنّ تبجّح فرنسا الاستعمارية بالقنبلة النّظيفة تدحضه شواهد الميدان، وهو ما وقفنا عليه رفقة أفراد سرية الحماية الإشعاعية برڤان، حيث رافقنا أفرادها في مهمّة استطلاعية لمحيط حمودية الذي يبعد بحوالي ٤٠ كلم عن مركز مدينة رڤان، حيث استوقفنا مشهد أشبه ما يكون بمفرغة عمومية، نفايات حديدية، سياج وبراميل وخردوات تغزو المكان، لنعلم من مرافقينا من أفراد السرية ومن الشّهود أن السلطات الإستعمارية، وقبل أن تقرّر نقل تجاربها إلى منطقة «إن إكر»، قامت بمحاولات فاشلة لإزالة كل معالم الجريمة وردمها في همجية لا مثيل لها، ذلك ما يؤكّده «بوعلالي علي» المدعو «باديدي»، من مواليد ١٩٣٦، والذي عمل بموقع حمودية قائلا: «لقد قام الاستعمار بحفر خنادق في الرمل من أجل إخفاء النّفايات النّووية بما في ذلك الطائرات، الدبابات، الشّاحنات العسكرية وغيرها من النّفايات التي كانت محل تجريب بعد إعادة تفجيرها».
لم تتوقّف محاولات فرنسا لطمس جريمتها عند دفن النّفايات، بل داست على إنسانية السكان المحليّين، فمن أخطر ما كشف عنه الباحث الفرنسي المتخصّص في التجارب النووية الفرنسية «برينو باريلو» في دراسة له في هذا الخصوص قائلا: «لقد استعملت فرنسا سكان المنطقة كفئران تجارب خلال أولى التّجارب النّووية الفرنسية برڤان، دون أن تقوم بأرشفة أو حفظ هويّات الضّحايا لتخرق بذلك كل قواعد الحرب وحقوق الإنسان»، وهو ما تؤكّده وثائق شخصية كانت بحوزة المواطن «بوعلالي علي»، والتي لا تحمل هويّته، لنستنتج أنّ الاستعمار تعمّد طمس هوية العمال والسكان المحليّين بهدف تفادي أي متابعات قانونية مستقبلا.
بدأت ملامح الطّمس عند بداية التّحضير للمشروع، حيث عملت السلطات الاستعمارية على إحاطته بسرية تامة، ووفق محدّثنا فإنّ العمل بالموقع «كان بنظام التفويج لمدة ١٥ يوما غير قابلة للتجديد، خاصة للعمال القادمين من خارج محمية رڤان آنذاك على غرار القادمين من أدرار، تميمون، أولف، تمنطيط، برج باجي مختار، ومن المستعمرات الأخرى»، معلّلا ذلك بهدف «منع التعارف وتبادل المعلومات بين العمال، والتي من شأنها تسريب أي معلومة تفشل المشروع».
ألا تزال الإشعاعات نشطة بعد أكثر من ٦٠ سنة؟
 للإجابة على هذا السّؤال، ولقطع الشك باليقين، رافقنا أفراد سرية الحماية الإشعاية برڤان، ومختصين من الملحقة التقنية لمحافظة الطاقة الذرية برڤان بموقع التفجيرات بحمودية بعد اتّخاذنا لكافة احتياطات السّلامة والوقاية، حيث سجّلت أجهزة قياس مستوى الإشعاع والكشف الإشعاعي لمرافقينا مستويات معتبرة من التّلوّث الإشعاعي على محيط موقع التّفجيرات لتبلغ أقصاها عند النّقطة الصفر، وهو ما يفنّد ما روّجته المخابرات الفرنسية لأسطورة القنبلة النّظيفة القائلة بأنّ النّشاط الإشعاعي في المنطقة بأسرها غير مؤذ بتاتا لأنّ مستوياته أدنى بكثير من مستويات الإشعاعات الخطرة.
وبتفسير علمي يقول رئيس الملحقة التقنية لمحافظة الطّاقة الذرية برڤان السيد «أدجرفور عبد الحميد»، إنّ «تأثير العناصر المشعّة للتّفجيرات النّووية لا يقتصر على زمن معين بل يدوم لمدّة تصل لآلاف السّنين»، مضيفا أنّ «بعض العناصر المشعّة تحتاج لآلاف السّنين لينقص مستوى تأثيرها إلى النصف فقط، فمثلا اليورانيوم تبقى آثاره ٢٤٤٠٠ عام والبلوتونيوم تستمر آثاره ٥ . ٤ مليون سنة».
نستنتج أنّ الخطورة لا زالت قائمة بالنّقطة الصفر، وقد تزداد أثناء العواصف الرّملية التي تؤدّي إلى تحريك الغبار الملوّث ما يزيد في تلويث عناصر البيئة بالإشعاع النّووي، والذي قد يصل في النهاية إلى الإنسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

ميراث مرّ

 مهّد نجاح الإجرام الاستعماري لحياة بؤس ومعاناة لسكان مدينة رڤان وضواحيها، فبعد ستة عقود لا تزال المنطقة تعاني من آثار تلك التّجربة، وتجعل الجرح غير مندمل وهي تحصي اليوم عدّة أمراض خطيرة.
من خلال تقفّينا لأثر ضحايا الإشعاعات بين قصور رڤان، لاحظنا عدم خلوّها من حالات تصارع أمراضا خبيثة، استعصى حتى على الطب الحديث تشخيصها، ومن ذلك حالة الفتى «بايمون عبد الرزاق»، صاحب ٢٠ ربيعا، بقصر «أنزقلوف» غرب مدينة رڤان، الذي يعاني في صمت من حالة مرضية غريبة ونادرة تتمثّل في تضخّم غير طبيعي في ساقه، عانى بسببها الويلات، حتى أنّها تسبّبت في حرمانه من استكمال دراسته التي توقّف عنها في السنة الخامسة ابتدائي، وأصبح حبيس البيت بعد كثرة التّنقّلات من مستشفى لآخر ومن ولاية لأخرى دون نتائج مثمرة، ولا زالت معاناة «عبد الرزاق» مستمرّة لحد الآن.
أمّا في قصر تاعرابت، فبين أزقّته جيل كامل يعاني من الصّمم وهم في عمر الزّهور، وتسجّل بعض العائلات أكثر من حالة، ولأنّ التّواصل مع هذه الشّريحة كان صعبا لعدم إلمامنا بلغة الإشارات إلاّ أنّنا استقرأنا في عيون البرعمتين الأختين «أعبلة حميدة» و»رحيل» رسالة أمل «أمنيتنا بسيطة جدّا..نريد مدرسة خاصة بنا في رڤان»، خصوصا وأنّهم يدرسون بمدينة أدرار التي تبعد عنهم بأكثر من ١٨٠ كلم.
إضافة إلى ذلك، وقفنا على حالات أخرى تنفطر لها القلوب، ومن ذلك حالة الطّفل «بن الصديق عبد الباسط» من مواليد ٢٠١١، الذي يعاني من مرض في المخ سبّب له إعاقة عقلية وجسدية مستديمة، عجز الأطباء عن إيجاد علاج لها.
هي عيّنات من عديد الحالات تجتمع كلها في عامل مشترك، وهو أنّ أجدادهم أو آباءهم كانوا على علاقة بموقع حمودية، وهو ما يزيد من صحة فرضية أنّ للإشعاع تأثير على الجينات الوراثية، ممّا يسبّب تغييرا في تركيبتها، وبالتالي حدوث تشوّهات في الأجنة تتوارث جيلا عن جيل، وهو التساؤل الذي نقلناه إلى أصحاب الإختصاص بمستشفى رڤان.
في هذا الصدد يقول الطبيب «مرسلي محمد»، مكلف بمتابعة مرضى السرطان بمستشفى رڤان إنّ «الإشعاعات النّاتجة عن التفجيرات النووية تركت إرثا ثقيلا من المشاكل الصحية لأنّ المشكلة الرّئيسية للإشعاع لا تكمن في تأثيره الخطير على الجسم الحي فقط، وإنما في تعدّي هذا التّأثير إلى الأجيال اللاّحقة بسبب التأثيرات الوراثية التي يحدثها، وذلك لقدرة الأشعة على إحداث أضرار جسيمة تمس تركيبة المادة الحيّة، تاركة آثارا مدمّرة مباشرة وبعيدة المدى على الصحة والوظائف الفيزيزلوجية للجسم الحي».
بعد اطّلاعنا على الإحصائيات الخاصة بالأمراض التي يشتبه في علاقتها بالإشعاعات، وجدنا أنّ مستشفى رڤان سجّل منذ سنة ٢٠١٠ وإلى نهاية سنة ٢٠٢١ حوالي ٣٣٠ حالة سرطان، بمعدل ٢٨ حالة سنويا، وهو عدد مرتفع نسبيا مقارنة بعدد السكان، ومن جملة هذه الأمراض سرطان الجلد وسرطان الدم والغدة الدرقية في مرحلة الطفولة، ؟إضافة إلى ارتفاع عدد حالات الإجهاض وزيادة نسبة الولادات المبكّرة، وارتفاع نسبة المصابين بالعقم، ناهيك عن زيادة نسبة الصم البكم والمتخلّفين ذهنيا.
وفي قراءته لهذا الإحصائيات، يضيف محدثنا أنّها لا تعكس الحقيقة، بل هي بعيدة كل البعد عن العدد الحقيقي، وهذا راجع لعدّة عوامل، منها عدم وعي السكان بالتشخيص المبكّر لمثل هذا النوع من الأمراض، إضافة إلى توجّه العديد من المرضى نحو مستشفيات أخرى، وذلك لنقص وسائل التّشخيص والأطباء الأخصائيّين على مستوى المستشفى.

«الرّيح التّحتانية تقتل الغلّة»

«الرّيح التّحتانية تقتل الغلّة»، مقولة تردّدها ألسن فلاحي مدينة رڤان، فحواها أنّ الرّياح القادمة من جهة حمودية تأتي ساخنة ومحمّلة بالغبار المشع، ممّا يتسبّب في تلف المحاصيل وتدهور المنتجات الفلاحية، فلم تعد المنطقة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي خصوصا في بعض المحاصيل الزّراعية التي كانت تشتهر بها سابقا، وهو ما أكّده الفلاح «عمي الصالح» بقوله «كانت رڤان تمتاز بمنتوج فلاحي جد وفير خاصة الطماطم، تصدرها عبر قافلة جوية من ثلاث طائرات بكمية فاقت ٤٠٠ طن يوميا».
تجلّى أثر التّلوّث الإشعاعي أيضا على أشجار النخيل، الذي فتك بها بسبب الغبار الذري المتساقط، متسبّبا في سقوط الثمار قبل نضجها، وهو ما كشفته خبرة السّنوات للفلاح «مبروكي مبروك»، صاحب أقرب مزرعة للنّقطة الصفر بموقع حمودية «كانت المنطقة تنتج أنواعا جيدة من التمور، وكانت غلّتها تدر بالأطنان، إلى غاية حدوث هذه التّفجيرات الملعونة بالمنطقة، حيث أصبحت تثمر تمورا رديئة الجودة غير صالحة للأكل، ورغم محاولة علاجها وتوفّر المياه إلاّ أنّ الأمور تزداد سوءاً، وبوتيرة لم تعرفها المنطقة من قبل، وتدهورت الواحات الخضراء التي أصبحت تعاني من أمراض لم تعرفها من قبل كمرض البيوض الذري».
ويمكن أن نقيس على ذلك بقية المحاصيل الزّراعية الأخرى في تراجع غلّتها من حيث الكم والجودة، وهو ما أجمع عليه مختلف فلاحي المنطقة بقولهم إنّ للتفجيرات النّووية تأثير كبير على الفلاحة، حيث أنّ منطقة رڤان كانت فيما قبل تشهد نشاطا فلاحيا لا بأس به، لكن بعد هذه التّجارب أصبحت الواحات قاحلة لا زرع ولا كلأ ولا نخيل، وحتى ولو أنبتت تعطي ثمارا أقل جودة وكمّا من ذي قبل»، كما كان للثّروة الحيوانية نصيب من آثار الإشعاعات، حيث أكّد المختصّون وسكان المنطقة ملاحظتهم بوجود انخفاض سريع في الثّروة الحيوانية والتنوع البيئي، واختفاء عدد من السّلالات التي تكيّفت عبر السّنين مع بيئة المنطقة، كما لوحظ اختفاء عدد من الزّواحف والطّيور المهاجرة.

«إن إكر»..وتستمر الجريمة

 رغم أنّ تفجيرات رقان أدخلت فرنسا النّادي النّووي، وكان من المفروض أن تسارع إلى التكفير عن ذنبها بتطهير المنطقة، لكنها تمادت أكثر في جريمتها بمنطقة أخرى من جنوبنا الكبير، وتوسيع مسرح تجاربها النّووية إلى منطقة «إن إكر» على بعد حوالي ١٨٠ كلم شمال غرب مدينة تمنراست من خلال أنفاق على شكل نهاية حلزونية بطول حوالي كلم واحد وأكثر، تمّ حفرها في جبل «تاوريرت تان أفلا»، وهو عبارة عن جبل صخري من مادة الغرانيت، بمحيط حوالي ٤٠ كلم، حيث تمّ إجراء ١٣ تفجيرا باطنيا تحمل رمز الأحجار الكريمة، إضافة إلى عدة تجارب بمنطقة «تن ترام» تعلّقت أساسا بالدراسة الحركية لانتشار مادة البلوتونيوم في شكل رذاذ أسمتها فرنسا بـ «تجارب بولان».

عندما يتمخّض الجيل سمّا

 قادتنا رحلة تحقيقنا في جرائم التّفجيرات النّووية الاستعمارية بصحرائنا، إلى منطقة «إن إكر» بتمنراست، حيث حرصنا على زيارة المنطقة رفقة أفراد سرية الحماية الإشعاعية للناحية العسكرية السادسة، والوقوف على شواهد هذه الجريمة التي رغم أنّها جرت في أنفاق باطنية إلاّ أنّ آثارها لا تزال ظاهرة للعيان، وهو ما تبرزه حمم سوداء مقابلة للنفق E2 والتي كانت نتيجة تفجير أسفر عن خروج حمم إشعاعية أدّت إلى تلوّث جوي معتبر على مسافة ١٥٠ كلم، ويعرف هذا التفجير بحادثة «بيريل».
وعن هذه الحادثة توثّق شهادة مكتوبة تحصّلنا على نسخة منها من أرشيف جمعية «تاوريرت لضحايا التّجارب النووية بالأهقار» للمرحوم حمداوي أحمادو بن محمد، الذي عمل بمحافظة الطاقة الذرية الفرنسية مفادها «خروج دخان كثيف أبيض ثم أسود من باطن الجبل لتلبّد به السماء وتزلزل الأرض زلزالا كبيرا ويظلم النهار وكأنه ليل دامس..».
وعن ذات الحادث يضيف الأخوان «بامحمد أحمد» (من مواليد سنة ١٩٤٩) و»عبد الله» (من مواليد سمة ١٩٤٩) اللذان عملا سابقا بموقع «إن إكر» إنّه «عند التفجير وخروج تلك السّحابة اتّجهت نحو الجنوب الشرقي، واستقرت فوق قرية مرتتك التابعة لبلدية ادلس (تبعد عن إن إكر حوالي ٨٠ كلم، وعن تمنراست حوالي ٢٠٠ كلم)، لتتساقط عليها»، مؤكّدين أنّهما سمعا عن معاناة سكان هذه القرية من أمراض نادرة، إضافة إلى نفوق مواشيهم دون أي مسبّبات مع تدهور فلاحتهم ومحاصيلهم.
وفي سياق ذي صلة، تحصي جمعية «تاوريرت» بحسب نائب رئيسها عددا معتبرا من الضحايا بسبب تأثير الإشعاعات النووية، مؤكّدا عدم اقتصار التأثير على قرية «مرتتك» بل طال حتى البدو الرحل المتواجدين بالمنطقة، وهو ما يضاعف من عدد الضّحايا.
يعاني سكان منطقة الأهقار على غرار ساكنة رڤان من ارتفاع عدد الوفيات بسبب السرطان، حيث بات هذا الأمر يثير مخاوف السكان والأطباء على حد سواء، وهو ما تعكسه الأرقام التي تحصّلنا عليها من مصلحة الوقاية وعلم الأوبئة بالمؤسسة العمومية الاستشفائية بتمنراست، وعن ذلك تقول الدكتورة بورزيق نعيمة إنّه «إضافة إلى ارتفاع عدد حالات السرطان، نسجّل أيضا ارتفاعا في عدد وفيات الأطفال عند الولادة، بعضهم يعاني من تشوّهات خلفية، ناهيك عن ارتفاع حالات العقم التي أصبحت شائعة وكذا التأثيرات الوراثية، ويبقى تأثير الإشعاعات المشتبه الرئيسي في مسبّبات هذه الأمراض والطفرات الجينية».
ولم يقتصر إجرام فرنسا الاستعمارية بحق البشر والحيوان والبيئة برڤان فقط، بل واصلت ذلك بموقع «إن إكر»، حيث أجبرت العمال الجزائريين وفق الشّهادات المتحصّل عليها على مباشرة أعمال الصيانة والحفر في الأنفاق عقب التفجيرات مباشرة دون أي حماية، رغم علمها بخطورة الإشعاعات التي تترصّد حياتهم، ومن ذلك التأكيد الذي تلخّصه معاناة «شارف اسرغو» (مميز سنة ١٩٤٨)، الذي عمل حفارا بالموقع، حيث يعاني اليوم من عدّة أمراض يرى أنّ لها علاقة بنسبة كبيرة بالإشعاعات، والأمر نفسه توثقه شهادة المرحوم حمداوي أحمادو بن محمد، الذي كان ضحية هذا القاتل اللاّمرئي في شهادته المكتوبة أنّها «بدأت بعد زواجه، حيث أجهضت زوجته ثلاث مرات، ومرضه هو الذي حيّر الأطباء إلى أن غيّبه الموت».

الإرث القاتل

 ما يلفت الانتباه بمحيط «إن إكر» وجود بعض مظاهر الحياة من أشجار وأحراش، إضافة إلى تواجد بعض الحيوانات التي تختص بها المنطقة على غرار الإبل وبعض أنواع الماشية. وعن الخطر الذي قد تنقله باعتبارها مصدر غذاء للإنسان والحيوان، نقلنا سؤالا لمدير المصالح الفلاحية بولاية تمنراست السيد «بن زاوي سليم» في حال تناول لحوم وألبان الحيوانات التي ترعى بالقرب من هكذا أماكن ملوّثة إشعاعيا، أجاب قائلا: «إنّ انفتاح الأقاليم الصّحراوية يجعل من انتقال الكائنات الحيّة من وإلى المناطق الملوّثة إشعاعيا ممكنا»، مضيفا أنّ «الخطر الذي تحمله لحوم وألبان هذه الحيوانات التي ترعى بالقرب من محيط الأماكن الملوثة وارد ومحتمل جرّاء اجترار هذه الحيوانات للعشب الملوث إشعاعيا، وكذا شربها لمياه قد يكون تسرّبت إليها مواد مشعّة»، ليختتم حديثه أن مصالحه تعطي أهمية بالغة للصّحة العمومية والحيوانية لتوخّي المخاطر التي تترصد الإنسان.
في هذا الخصوص، خلصت دراسة أجرتها اللّجنة المستقلة للبحث والإعلام حول الإشعاع بفرنسا من خلال تحليل فضلات إبل ترعى بالقرب من موقع «إن إكر» إلى وجود ضرر إشعاعي نووي تسبّبت فيه التّجارب الباطنية في «حادثة بيريل» التي أضرّت بالمياه الجوفية للأرض، والتربة، والنبات على حد سواء وصولا إلى الإبل باعتبارها كائنا حيّا يرتع في هذه البيئة.
لقد طالت آثار التّفجيرات النّووية في الأهقار البيئة، فبعد أن    كانت المنطقة واحة غناء تنتج محاصيل ذات جودة ونوعية، أضحى الوضع اليوم مغايرا تماما، فالقمح مثلا فقد حجمه الطّبيعي والنخيل أصابه ما بات يعرف بالبيوض النووي، وهي نفس الأعراض التي خلّفتها تفجيرات رڤان.

مطالب بجبر الضّرر

 إنّ وضع حدّ لهذه المعاناة على النّسل والحرث والبيئة مرهون بالاطّلاع على أماكن دفن القوات الاستعمارية الفرنسية نفاياتها النّووية بمحيط مناطق التّفجيرات النّووية، وهو المعطى الذي ترفض فرنسا التعامل معه من خلال تسليم الجزائر أرشيف تجاربها النّووية.
ومن المطالب التي ترافع من أجلها فعاليات المجتمع المدني في كل من رڤان وتمنراست لجبر الضّرر، تسمية الأشياء بمسمّياتها من خلال تغيير التسمية من «تجارب نووية علمية فرنسية نظيفة» إلى «تفجيرات نووية عسكرية فرنسية ملوّثة»، إضافة إلى مطالبة فرنسا بتحمّل مسؤولياتها من خلال تطهير وتأهيل المناطق المنكوبة والأماكن الملوّثة، مع توفير مراكز طبية ومستشفيات متخصّصة، وتوفير الرّعاية الطبية اللاّزمة للتّشخيص والعلاج والوقاية من الأمراض الناتجة عن الإشعاعات النّووية.
بالرّغم من صدور قانون بشأن تعويض ضحايا التّفجيرات النّووية الفرنسية، إلاّ أنّه يجسد من  حيث مضمونه إقصاء للضّحايا الجزائريّين بالنظر إلى الشّروط المجحفة التي وضعتها، والتي لا تخدم إلا الرّعايا والجنود الفرنسيّين الذين كانوا في مهمة رسمية بالمناطق المتضرّرة وذويهم في فترة محدّدة، كما أنّه لا يعترف بأي أضرار للبيئة والمحيط بالرغم من أنّ الإشعاعات تبقى لملايين السّنوات في الطبيعة.
وفي هذا السّياق، تطالب جمعية «تاوريرت  لضحايا التّفجيرات النّووية الفرنسية» بالأهقار، بإعادة النّظر في هذا القانون بحق الضحايا الجزائريّين، وتوسيع المناطق المعنية في قانون التّعويضات لجميع الصّحراء الجزائرية، إضافة إلى عدم تحديد فترة زمنية ليستفيد منها الضّحايا المزمع تعويضهم، خاصة وأنّ آثار الإشعاع النّووي على حياة الانسان ومكونات البيئة الطّبيعية متواصل لآلاف السنين القادمة.
من جهته، يصر النّاشط الجمعوي برڤان السيد «الهامل عمر» على ضرورة خلق رأي عام وطني وإقليمي ودولي لتصنيف هذه التّفجيرات كجريمة ضد الإنسانية، وحرب إبادة منظّمة لا تسقط بالتّقادم، كونها تفجيرات ليست نتيجة حوادث نووية طارئة كما هو الحال في تشرنوبيل وفوكوشيما، بل هي تفجيرات نووية عسكرية فرنسية واسعة النطاق، وجريمة مع سبق الإصرار والتّرصّد أجرتها السّلطات الاستعمارية على أرض ليست لها، وقد جلبت لساكنتها دمارا شاملا لا يزال ممتدّا ومستمرّا.
ومن منظور الحفاظ على الذّاكرة، يتطلّع شباب رڤان وتمنراست إلى وجوب تدوين الشّهادات التّاريخية المرتبطة بالجريمة، وهو ما تصبو إليه لجنة الشباب وهيئات المجتمع المدني بالمجلس الشعبي البلدي لرڤان من خلال سعيها لإنشاء متحف يؤرّخ للذكرى، وعن ذلك يقول السيد «ظمبا توفيق»، رئيس اللجنة، إنّ إنشاء متحف أصبح ضرورة ملحّة لتجميع كل ما له علاقة بهذه الجريمة من أرشيف وثائقي وشهادات وكتب وبحوث سيكون من شأنها الارتقاء بالجانب الأكاديمي للباحثين والمختصّين من جهة، وبالجانب التثقيفي لأجيال الغد من جهة أخرى».
في الوقت الذي تتكلّم فيه فرنسا في المحافل الدولية عن حقوق الإنسان، وعن مآسي بعض الشّعوب وكأنّ بها عليهم رحيمة تتناسى ما تسبّبت فيه من جرائم التّفجيرات النّووية التي لا تزال آثارها الوخيمة ممتدّة في الزّمن تحصد المزيد من الضّحايا، وهو ما يستدعي التزام فرنسا بتعويض الدولة الجزائرية حكومة وشعبا عمّا أصابها من أضرار نتيجة للإشعاعات النّووية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024