- إهمال المهندس المعماري والرهان على مكاتب دراسات وراء الفوضى
إنها صورة بائسة رصدتها «الشعب الاقتصادي» في استطلاع، بشأن نمط العمران في مدينة الجسور المعلقة قسنطينة، معيدة للأذهان السؤال المحير، إلى متى يستمر إنجاز بنايات دون مراعاة مواصفات النوعية والجمال، بالرغم من الملايير التي تنفق على تجمعات سكنية، بل مدن بأكملها أنجزت حديثا؟.
تساؤلات وحلول مؤجلة
ما الذي جعل تراجع شكل العمران وجاذبية بنايات آيلة للانهيار، غارقة في فوضى لا مخرج منها، هي تجمعات سكنية بأكملها شيدت للتخفيف من الضغط على المواطنين وحل مشكل الحصول على شقة بأريحية، تفتقد لشروط العمران وتناسقيته مقارنة بالعمارة القديمة التي تصور أزمنة وحضارات تعاقبت على المكان.
عكس الكثير من الانجازات السكنية الحديثة في قسنطينة، حملت البنايات القديمة قيمة عمران تفنّـن مهندسوها آنذاك في أشكالها، مانحين لها روحا وثقافة ومدلولا معماريا له قاعدة لا تقبل القفز عليها وتجاهلها تحت أي عذر.
من المواصفات التي يمكن أن تطلق على هذا العمران، الذي ينجز في الزمن الراهن لعلاج أزمة سكن استفحلت، أنه معمار صادم المنظر، نافر صورة بعيدة عن تجمعات سكنية يفترض أنها تمثل هوية عمرانية تتباهى بها المدينة، ويحلم كثيرون بالإقامة فيها والتمتع قدر الممكن بمواقعها الجذابة.
عكس هذا، في زمن الانجاز في طوارئ وسباق ضد الساعة للتكفل بالمواطنين وتوفير لهم مسكنا، كونه الهدف والغاية، لم يعد الجانب الحضري للعمارات والمدن المنجزة بهذا الشكل والعجالة يثير الاهتمام، كأن المكلفين بالبناء والتعمير غير معنيين بجمالية المنجزات، والنتيجة طغيان البناء العشوائي وانتشار فوضى العمران... عمارات مربعة، بناء إسمنت ميت، تطور عمراني سريع، لكن نرى ويرى غيرنا أنه أكثر فوضوية من الماضي، ولهذا التحول أسباب تحدث لنا عنها بمرارة مختصون في الهندسة المعمارية.
هامل مرنيز: طغيان الكم على النوعية
اعتبر المرقي والمهندس المعماري هامل مرنيز في حديثه لـ «الشعب الاقتصادي»، أن تراجع نوعية البنايات مقارنة مع سنوات الماضية يعود إلى مجموعة من الأسباب، تأتي في مقدمتها السياسة القطاعية المنتهجة المبنية على قاعدة تغلب «الكم على الكيف»، حيث أن تحت ضغط أزمة السكن في الجزائر والنمو الديمغرافي انتهج المسؤولون سياسة البناء السريع لتلبية الطلب المتزايد، ما أدى إلى إنتاج سكن رديء، وفي فترة بداية السبعينيات عرفت بروز مؤسسات بناء عمومية نافست مؤسسات أجنبية.
هذه المؤسسات الوطنية تمكنت بفضل جديتها وجادتها السيطرة على السوق الوطني. هذه المؤسسات كانت عبارة عن مراكز تكوين، خرجت عمالا في مختلف تخصصات البناء والعمران: «بناء، كهرباء، ترصيص، طلاء، نجارة، خرسانة مسلحة» والقائمة طويلة، لكن غلق تلك المؤسسات في تسعينيات القرن الماضي، أدى إلى ضياع كم هائل من اليد العاملة المختصة والتي اعتمدت عليها المؤسسات الخاصة عند انطلاقتها.
القولبة الصناعية وترشيد الطاقة
وأضاف مرنيز، مقدما صورة دقيقة عن إشكالية مطروحة: «اليوم نفتقد إلى هذه اليد العاملة المختصة، وهو أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع معماري وهندسي، بالرغم من وجود معاهد للتكوين المهني شُيّدت بغرض رفع التحدي العمراني وتحسين مستواه، وتحقيق ما يطلق عليه أهل الاختصاص «بالقولبة الصناعية»، تساهم فيها أيضا مؤسسات أجنبية إلى جانب مؤسسات وطنية خاصة اقتحمت المجال في السنوات الأخيرة.
واستطرد الخبير قائلا: «إن تراجع النمط العمراني والانجاز بتسرع غير معهود في بناء أوفر سكنات وفي أي مواقع جغرافية على حساب النوعية، يعتبر من أسوإ الأنماط السكنية، لأنه ينتج عمارة تستهلك الطاقة بشكل رهيب ونحن الآن نمر إلى التسعيرة الحقيقية للطاقة وسياسة ترشيد الطاقة. هذا النوع البنائي يخالف هذه السياسة، ما أدى إلى تهافت مرقين على استعمال القولبة الصناعية لإنجاز سكنات رديئة وتوفير هامش ربح أكبر».
وبحسب مرنيز، فإن ما يسمى بكبار المرقين خاصة بقسنطينة، يبدو أن الجانب الجمالي لا يهمهم، مقابل انتزاع صفقات مربحة، فضلا عن وجود مكاتب دراسات قادرة على مواكبة هذه المرحلة التي أضحت فيها البنايات مجرد أشكال مربعة تفتقر لأي انتماء حضاري، مؤكدا ضرورة الاعتناء بالخبرات الأجنبية في وضع مخططات معمارية لها مواصفات تعالج اختلال تجارب إنجاز مدن جديدة وما خلفته من سلبيات معمارية.
الحل أيضا، بحسب محدثنا، يكمن في وضع خلية على مستوى مديرية السكن والتعمير تتولى متابعة مدى تطور المدن ومناقشة مسألة الإنجاز باحترام المعايير الجمالية والعمرانية واندماجه مع المحيط الخارجي، فضلا عن إعطاء الأولوية لتكتل مكاتب الدراسات وجعلهم قوة اقتراح من ناحية الهندسة الجمالية ومرافقة مؤسسات الإنجاز والمرقين بإعطائهم فرص تكوين مستخدميهم في جميع المجالات الخاصة بالبناء، إلى جانب إعادة تقييم ومراجعة القوانين المتعلقة بالعمران لإعطاء أريحية للمؤسسة المنجزة من الناحية المالية دون تركها وشأنها تغرق في الإفلاس.
كرواز يوسف: مراجعة القوانين التنظيمية
من جانبه قال المهندس المعماري كرواز يوسف، إن ما كتب بشأن مختلف الحضارات العريقة، لايزال بعضها ممتدا إلى وقتنا الحاضر بفضل تراثها المديد، خصوصا التراث المعماري أو ما يعرف بفن العمارة والعمران. فالتطرق إلى نوعية وجمالية الطابع المعماري والعمراني لمدن الجزائر في الوقت الحاضر، مقارنة بما كانت عليه لعقود خلت، له أهمية بالغة لما ينطوي عليه من أبعاد اقتصادية واجتماعية، ومن المؤسف، بحسبه، «القول إن الوضع المعماري الحالي قاصر على البوح بالهوية الجزائرية، فما نشهده اليوم في الساحة المعمارية لا يعدو أن يكون إلا مربعات إسمنتية تلبي الحاجيات الملحة للفرد الجزائري، لكن لا ترقى لأن تكون فنا يترجم وينقل رسائل ثقافية إلى الأجيال المقبلة».
وعن مسببات هذه الظاهرة وكبحها والحد من انتشارها، أوضح المتحدث أنه «يتوجب دراسة الموضوع بجدية وإسهاب»، مضيفا أنه «بالرجوع إلى حقبة ما بعد الاستقلال شهدت الجزائر نموا ديمغرافيا ونزوحا ريفيا رهيبا نحو المدن الكبرى بحثا عن الاستقرار الاجتماعي، ما أدى إلى توسع عمراني غير مسبوق على حساب النوعية».
هذه الحركات الديمغرافية والتدفقات السكانية التي رافقتها بطبيعة الحال توسعات عمرانية لتلبية حاجيات الفرد الجزائري في سكن يحفظ كرامة العيش الحضري اللائق، لم ترافقها نصوص تشريعية ولم تؤطرها قوانين تنظيمية ومتابعة جادة من السلطات والجماعات المحلية، ما جعل الساحة المعمارية عرضة لغزو أنماط سكنية فوضوية، إلا أنه لاحقا وفي نهاية التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية، جاءت محاولة تدارك هذا الوضع بسن سياسات جديدة كإنشاء مدن جديدة استعجالية للحد من ظاهرة الفوضى العمرانية والقضاء على الأحياء القصديرية، إلا أن هذه الإستراتيجية، في نظر الخبير كرواز، «افتقدت إلى قوانين تحافظ على النوعية أكثر، بدل الاهتمام بالكمية ومراعاة سرعة الإنجاز على حساب دراسات دقيقة يعول عليها في تفادي ما نعيشه اليوم من انتشار أحياء سكنية خالية من مقومات العمران؛ أحياء هي مجرد مراقد لا تلبي متطلبات حياة معاصرة ونمط حضري نتوق ونتطلع إليه».
وواصل كرواز يوسف في رصد الواقع العمراني غير المنسجم، «أن علاج الإشكالية العالقة يرجع إلى مدى تحكم السلطات في التشييد المعماري والعمراني، وكذلك إلى القوانين التي تبرز دور المهندس المعماري في معادلة البناء، سواء من الناحيتين الاستشارية أو الفنية»، مضيفا أن «دفاتر الشروط المنظمة لمشاريع السكن في الجزائر «تخنق» جانب الإبداع للمهندس المعماري، بسبب أمور تعجيزية كنوع المساحة الواجب احترامها، الفضاءات الواجب إدراجها في التجمعات السكنية وغيرها من شروط التي ينبغي أن تدعم المهندس المعماري وتجعل منه الحلقة الأقوى المرجعية في البناء.
وذكر المتحدث بمحاولات تغيير الوضع المعماري البائس بالقول: «في الآونة الأخيرة وخصوصا بعد ظهور صيغة السكن الترقوي الحر وبالرغم من قلة المشاريع، هناك محاولات جادة في النهوض الجدي بالعمران في الجزائر. أعتقد أن هذه الحقبة هي بوابة الإبداع المعماري عندنا، ببروز العمارة الحديثة ذات التصميم الهندسي، نأمل مستقبلا أن يكون هناك إدراج للهوية الجزائرية لمزيد من التميز، كما نأمل أن يكون هناك مجال لإعادة النظر في القوانين التنظيمية للعمران، تلائم الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمواطن وتعطي مكانة متميزة لنجاح آليات المراقبة وردع المخالفات العمرانية، مع ضرورة منح الأولوية والاهتمام لدور المهندس المعماري بمنحه مساحة أكبر من حرية المبادرة والدقة في تصميم بناءات تتوفر على شروط الحياة تسر الناظر.
بن زردة ميلود: الخلل في تهميش المهندس المعماري
يرى بن زردة ميلود، رئيس هيئة النقابيين للمهندسين المعماريين بولاية قسنطينة، أن أخطر العوامل الأساسية في تراجع القيمة الجمالية للبناء، سرعة إعادة الإسكان في مراحل متعددة مرت بها البلاد واللجوء لإنشاء مناطق حضرية جديدة في ظرف زمني قصير، فضلا عن ضياع الحس الجمالي بسبب استبعاد دور المهندس المعماري في صياغة وتحضير المشاريع والاعتماد فقط على مكاتب الدراسات.
وقال بن زردة، إن نقابة المهندسين المعماريين تعمل لإصلاح الخلل، مبرزة حاجة ملحة للعودة لخيار المسابقة في الهندسة المعمارية، معتبرا إياها مصفاة الأفكار الصحيحة، خاصة فيما يتعلق بإطلاق مشاريع حضرية تحافظ على الهوية وتاريخ المدينة، مشددا في ذات الشأن على ضرورة تغيير الذهنيات بإقرار حتمية إشراك المهندس المعماري في البناء والتشييد والابتعاد عن التعامل دوما مع مكاتب دراسات لا تمثل هوية وحضارة المكان.
وبالحديث عن هوية المدن القديمة بالجزائر، أكد بن زردة ميلود، أنها تراث أمازيغي بحت وليس له علاقة بالتواجد العثماني الذي اقتصر على عدد محصور من البنايات.
وقال شارحا أكثر، أن نسيج المدن العتيقة أمازيغية بامتياز، وهي مشيدة بإتقان عبر بلدان المغرب العربي، بحسب ما أكدته دراسات وبحوث، منتقدا الانحراف العمراني قائلا بحزن، «إننا نفقد أمازيغيتنا عبر بناياتنا ونهمل هويتنا المغاربية الأصيلة»، معتبرا إياها مدرسة عريقة تعبر عن تاريخنا المجيد وحضارتنا العريقة.
عن الحلول الممكنة لعلاج إشكالية التعمير والعمران، يرى الخبير ضرورة العودة إلى خيار التكوين بالجامعات الجزائرية والمدارس العليا، باعتبارها مصدر ابتكار وإبداع لا يمكن تجاهلها. فهي الممر الحتمي والمنطلق الجاد لإنجاز تجمعات سكانية ومدن متناسقة، جمالية المنظر، متوفرة على مرافق تمنحها روحا وتكفلا بحاجيات السكان وحقيقة من العمران يمكن إحداث التغيير والنهوض بالإنسان.
النسيج العمراني لمدينة الجسور المعلّقة تحت المجهر
تشييــــد دون مواصفــات وبنــــايـــــات بــــــــــلا روح
مفيدة طريفي
شوهد:761 مرة