في الجنوب الغربي من الجزائر، قد تتفاجأ بوجود مناطق عذراء لم تطأها قدم إنسان من قبل، وقد يتبادر إلى ذهنك وأنت تعبر الحمادة الشّاسعة بأنّك قد سافرت عبر الزّمن، لتمتزج روحك بعبق التّاريخ وروعة المكان في أجواء تجعل وقتك يمر بسرعة.
بتندوف، حكمت الجغرافيا والتاريخ سلطانهما على الولاية، ليُشكّلا منها جوهرة من جواهر السياحة الصّحراوية ببلادنا، والتي لا زالت إلى اليوم حبيسة الصّور الفوتوغرافية والتقارير المكتوبة.
تزخر ولاية تندوف بمؤهّلات سياحية وعوامل جذب سياحي من شأنها أن تضع الولاية في ريادة المناطق السياحية بالوطن، فموقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية مكّناها من الحصول على مقوّمات سياحية هائلة، منها ما هو تاريخي بقي شاهداً على عراقة المنطقة، ومنها ما هو طبيعي يضيف للمنطقة وجهاً جمالياً قلّ نظيره.
المعالم التاريخية المعمارية على غرار دويرية أهل العبد ومسجد موساني العتيق بخصائصهما التاريخية والهندسية يشكلان سجلاًّ مكتوباً من طين، بقي شاهداً على حضارة الإنسان وتواجده في المنطقة في غابر الزّمن، كما تزخر الولاية بمناطق رطبة كبحيرة تفقومت ولبحير بإقليم بلدية أم العسل وسبخة تندوف والقطارات بمنطقة حاسي منير، تضاف لها عشرات المواقع الأثرية التي تحوي نقوشاً صخرية وتنوّعا بيولوجيا فريدا، وأزيد من 300 معلم جنائزي عمر بعضها يمتد لـ 10 آلاف سنة.
بين جدران متحف «آمنير التراث» ببلدية أم العسل ومتحف تندوف، يكاد يتوقّف التّاريخ وتُختزل المسافات، فالتاريخ هنا شيء ملموس، والمسافات هي خطوات صغيرة بين أروقة المتحف، تسافر بك في أعماق تاريخ المنطقة الضّارب في القدم بين مخطوط قديم ونقوش صخرية لإنسان ما قبل التاريخ، ومستحثات بحرية تؤرّخ لمنطقة صحراوية كانت يوماً ما عبارة عن غابات وبحيرات، فالمتحفين يشكّلان بمحتوياتهما منارتين يهتدي بهما الزّائر للمنطقة، ويتعرّف على كل مكنونات الولاية السياحية.
أمام هذا الكم الهائل من الكنوز السياحية، كشف بوسحاب محمد مدير السياحة بولاية تندوف لمجلة «التنمية المحلية»، عن مخطّط عمل يهدف إلى خلق حركية سياحية بالمنطقة عبر تكثيف الجهود مع شركاء القطاع، والرّفع من الطّاقة الاستيعابية للمؤسسات الفندقية، أين أوضح المتحدّث أنّ 07 مؤسّسات فندقية مستغلّة حالياً بطاقة استيعابية تصل إلى 328 سرير غير كافية أمام الطّلب المتزايد على الإيواء، وفي ظل دخول المنطقة في مرحلة تنموية جديدة تتطلّب استغلال كل الإمكانيات الموجودة من أجل مسايرتها.
قال بوسحاب «إنّ القطاع لم يبق مكتوف اليدين، بل سارع إلى تسجيل 25 مشروعاً سياحياً تصل طاقته الاستيعابية إلى 1843 سرير، ويخلق 863 منصب عمل، وقد وصلت نسب الأشغال في المشاريع السياحية ما بين 10 % و80 %، وهو ما من شأنه تغطية النقص الحاصل فيما يخص الهياكل الفندقية، بالإضافة إلى العمل على الرّفع من عدد الوكالات السياحية، إذ تتوفّر الولاية حالياً على وكالتين سياحيتين فقط».
عرّج مدير السياحة على ملف مناطق التوسع السياحي بالولاية، البالغ عددها 03 مناطق بمساحة إجمالية تبلغ 295 هكتار، انتهت بها أشغال الدراسة في انتظار التصنيف والتحديد على مستوى الوزارة الوصية قبل الشّروع في إعداد مخطّط التهيئة السياحية الخاص بهذه المناطق، والموجّهة خصيصاً لاستيعاب المشاريع السياحية.
ويضيف مدير السياحة بالولاية، أنّ الهاجس الأكبر لدى المتعاملين السياحيّين هو عدم توفّر اختصاص السياحة بالولاية، وعزوف الشباب عن التكوين في مجال السياحة والفندقة، مشيراً إلى امكانية فتح تخصّصات في السياحة مستقبلاً بالتعاون مع قطاع التكوين المهني، وتوجيه الشباب وطالبي الشغل الى مجال السياحة باعتباره قطاعا مربحا، ويدر مبالغ معتبرة، بالإضافة إلى العمل على ترسيخ ثقافة سياحية لدى تلاميذ المؤسّسات التربوية بالتعاون مع مديرية التربية لولاية تندوف.
جرد، تثمين وحماية
عمل الدّيوان الوطني للحظيرة الثقافية لتندوف على جرد التراث الإيكوثقافي، وجرد المستحاثات والمناطق الأثرية بكل من منطقة أم الطوابع بإقليم بلدية أم العسل، وتلك الموجودة بمنطقة غار الجبيلات، من خلال خرجات ميدانية دورية رفقة خبراء، كما يواصل ديوان الحظيرة الثقافية جهوده من أجل المحافظة على التنوع البيولوجي للمناطق السياحية والمعالم الجنائزية المنتشرة بكثرة في المنطقة، حيث يتمحور دور الحظيرة في هذا الإطار في تثمين الموروث الإكوثقافي للمنطقة، والتعريف به وحمايته من خلال الاشراف على إنشاء أزيد من 20 مركزاً للمراقبة، وتكثيف الجهود مع السلطات الأمنية التي أسفرت عملياتها خلال سنة 2019 عن حجز آلاف القطع الأثرية، والعديد من المستحاثات التي كانت معدّة للتهريب عبر مطار الرائد فراج، وتعد هذه التّصرّفات جريمة في حق الهوية لكونها تجرد هذه المحجوزات من قيمتها التاريخية.
تجدر الإشارة، إلى أنّ ولاية تندوف تتربّع على مساحة إجمالية تقدّر بأزيد من 158 ألف كلم، وتضم الولاية العديد من المواقع الأثرية والمناطق الطبيعية العذراء، التي لم تنل نصيبها من الدراسة بفعل العديد من العوامل الموضوعية التي اجتمعت في بوتقة واحدة لتشكّل حاجزاً أمام توافد السياح للمنطقة، يضاف إلى ذلك وجود العديد من المناطق الرّطبة غير المصنّفة حسب اتفاقية رامسار رغم أهميتها وتنوّع الأنظمة البيولوجية بها.
تراث لامادي فريد
التّراث اللاّمادي بولاية تندوف ثري بمكوّناته وتشعّباته التي أضفت على المنطقة ميزة خاصة قد لا تتوفّر في باقي ولايات الوطن، فثقافة المنطقة استطاعت احتواء العديد من الألوان والطّبوع الغنائية والشعرية دون سلطان أحدها على الآخر أو غلبة لون على حساب آخر، فحافظ كل منها على خصوصياته ومتابعيه، مثلما حافظ الشباب على الزي التقليدي للمنطقة، فالملحفة للمرأة والدراعة للرجل يمثّلان هوية سكان ولاية تندوف، إلى جانب العديد من الأطباق التّقليدية التي تمتاز بها المنطقة.
الغناء والشّعر لهما مكانتهما في ثقافة المنطقة، حيث تعزّز المشهد الثقافي بولاية تندوف بمولود جديد يضاف إلى جملة المكاسب المحقّقة للرقي بالنّشاط الثّقافي بالولاية، من خلال تأسيس «بيت الشّعر الجزائري» على مستوى الولاية، هذا المولود الثّقافي الجديد بالولاية، من شأنه نقل الثقافة المحلية إلى أبعاد أخرى، والسفر بها خارج إقليمها الجغرافي، من خلال الإسهام في التعريف بثقافة المنطقة بكل ألوانها، والتي لم تنل نصيبها من البحث في فترة تعرف موتا حقيقيا للسّاحة الثقافية المحلية، وتراجع نشاطها رسمياً وجمعوياً.
بيت الشّعر الجزائري بفرعه على مستوى ولاية تندوف، كان مطلباً ملحّاً للكتّاب والشّعراء في المنطقة التي تزخر بموروث ثقافي غير معروف، وهو ما يضع أعضاء مكتب بيت الشعر بتندوف أمام تحدٍّ صعب من أجل التعريف بالثقافة الحسّانية وتسويقها.
الشّاعر مباركي سعدي بيه، رئيس المكتب الولائي لجمعية بيت الشعر بتندوف، أكّد على أنّ الهدف من تأسيس بيت جزائري للشّعر هو العمل على إرجاع الشعر إلى مكانته الرّيادية، وإحداث قطيعة مع «مركزية» النّشاطات الأدبية والفنية في العاصمة، والعمل على خلق نشاطات أدبية في كل الولايات، كما سيشرف بيت الشّعر الجزائري على تدوين الأعمال الشعرية والأدبية الأخرى، وحفظ الكم الهائل من المنتوج الثقافي الذي تزخر به بلادنا.
أشار الشّاعر مباركي سعدي بيه، إلى أنّ من أولويات الفرع الولائي لبيت «الشعر الجزائري» هو التعريف بالثقافة الحسّانية التي تمتاز بها ولاية تندوف كأحد مكوّنات الثّقافة الجزائرية وعامل جذب سياحي، مؤكّداً على أنّ المواطن الجزائري لا يعرف شيئاً عن هذه الثقافة، ولا عن الشّعر الحسّاني بالرغم من كونه طابعا وطنيا لجهة من جهات الوطن، وله خصوصياته ويمثّل لوحة من لوحات الفن الجزائري والثقافة الجزائرية.
مباركي سعدي بيه، رئيس فرع بيت «الشّعر الجزائري» بتندوف، يوضّح كيف تشكّلت الثّقافة الحسّانية التي هي مزيج مختلط بين عدة ثقافات، فالامتداد التاريخي للثّقافة الحسانية لا يكاد يخلو من البعد العربي القُح، البعد الإفريقي الزنجي والبعد الصنهاجي الأمازيغي، هذه الثّقافات الثلاث امتزجت عبر الزّمن شيئاً فشيئاً لتنتج هذه الثّقافة النّاضجة التي تسمى اليوم بالثّقافة الحسّانية بشعرها المتميّز، زيّها التّقليدي، عاداتها وتقاليدها ومجتمعها الذي يسمى مجتمع «البيظان» في أبهى حلله، وتشكّل العربية الفصحى في لسان «البيظان» نسبة كبيرة جداً، وهي اللغة السائدة في اللهجة الحسانية، بالإضافة إلى بعض الثقافات كالزنجية الإفريقية والصنهاجية.
الشّعر الحسّاني له عَروضه الخاص وأبحره الشّعرية وميزانه الموسيقي، وله ارتباط وثيق بالموسيقى الحسّانية التي تسمى «أزَوان»، وبحور الشّعر الحسّاني سبعة متداولة وأخرى كثيرة تمّ هجرانها ونسيانها عبر الزمن، أمّا الموسيقى الحسّانية التي تسمى «أزوان»، فهي طابع فني قائم بذاته يراه الشاعر مباركي سعدي بيه جديرا بالاهتمام وقابلا للتدريس، ووضعه في قالب أكاديمي مناسب له، وإعطائه حقّه من الدّراسة التي ستساهم بشكل كبير في اتّساع دائرة المعرفة بين الجزائريّين لهذا اللون.
المواطن التندوفي ذوّاق بطبعه للثّقافة الحسّانية بكل مكوّناتها من شعر وموسيقى، و»أزوان» حاضر في كل بيت من بيوت «البيظان» وفي كل المناسبات، فالموسيقى الحسّانية هي من تحمل الشّعر الحسّاني، وهي أداة حاملة وحامية لنفسها من الضّياع، فهي ساكنة في وجدان مجتمع «البيظان» لا تفارقهم، وترفض الانصهار مع الثّقافات الأخرى، وتأخذ لنفسها مكانة سامية بين المجتمعات المجاورة.
حين تلتقي التيدينيت بالقمبري
الثّقافة الإفريقية فرضت لنفسها مكانة في المشهد الثّقافي المحلي، من خلال الطّبوع الغنائية ذات البعد الإفريقي التي تلقى رواجاً على المستويين المحلي والوطني، حيث شهدت الطّبوع الموسيقية التّقليدية عودة قويّة إلى السّاحة الفنية، خاصة بين أوساط الشباب بعدما شهدت في فترات سابقة بعض التّراخي والتراجع، فاسحةً المجال لغزو الموسيقى العصرية، خاصة تلك الطّبوع الشبابية الصاخبة التي تستعمل فيها التكنولوجيا الحديثة.
يرى سالم كابوس الحرفي في صناعة الآلات الموسيقية التقليدية، أنّ آلة «القمبري» وغيرها من الآلات الموسيقية التقليدية تحتاج إلى قدر كبير من الإتقان، خاصة إذا كانت صناعتها تتم بشكل يدوي، وهذا ما يفرض علينا - يضيف المتحدّث - الحرص على إيجاد مواد أولية تليق بمكانة الآلة، غير أنّ واقع الولاية وبعدها عن مصادر التمويل جعلنا نلجأ إلى استخدام مواد أولية بسيطة ومحلية في صناعتها بما يضمن الوجه الجمالي للآلة، ويحافظ على وظيفتها التي وجدت لأجلها.
قال سالم كابوس إنّ مادة الجلد التي تعتبر مكوّناً أساسياً في صناعة كل الآلات الموسيقية التقليدية، وبالرغم من وفرتها في المنطقة على شكلها الخام، إلا أنّ تحويلها إلى مادة صالحة للاستخدام يحتاج منّا جهدا إضافيا عبر مراحل تأخذ الجهد والوقت، وهذا راجع إلى افتقار المنطقة إلى مدبغة للجلود، بالإضافة إلى صعوبة تسويق مختلف المنتجات التقليدية لأسباب اعتبرها «موضوعية» تتعلّق في مجملها بنقص المشاركة في المعارض الوطنية والدولية، وافتقار المنطقة لحركية سياحية حقيقية تضمن لهم التّرويج لمنتجاتهم.
تحصي مديرية السياحة وجود 2093 حرفي تابع لقطاع الصناعة التقليدية بولاية تندوف، ينشطون حالياً في مختلف الحرف التّقليدية، وهو قطاع اعتبره مدير السياحة بالولاية مكمّلاً أساسياً وعاملا مهما في نهضة السياحة مستقبلاً، مؤكّداً على مرافقة الحرفيّين في كل انشغالاتهم ومشاكلهم، خاصة ما تعلق منها بجلب المواد الأولية أو التسويق لمنتجاتهم الحرفية.
حضرت المسالك وغاب السياح
تتربّع ولاية تندوف على مساحة إجمالية تقدّر بأزيد من 158 ألف كلم، وتضم الولاية العديد من المواقع الأثرية والمناطق الطبيعية العذراء، التي لم تنل نصيبها من الدراسة بفعل العديد من العوامل التي اجتمعت في بوتقة واحدة لتشكّل حاجزاً أمام توافد السياح للمنطقة، بالإضافة إلى العديد من المناطق الرّطبة غير المصنّفة حسب اتّفاقية رامسار رغم أهميتها وتنوّع الأنظمة البيولوجية بها.
رسومات صخرية تسبق تاريخ الفراعنة، وشواهد لحياة إنسان ما قبل التاريخ، هي كنوز تروي قِدم المنطقة ومدى عراقتها وثرائها الإيكوثقافي، يضاف إلى ذلك التنوع البيولوجي الذي يميّز العديد من المناطق بالولاية بعضها لم تطأها قدم الانسان من قبل، كل هذه الكنوز وغيرها بقيت دون استغلال محكم من طرف وكالات السياحة والأسفار، والتي بقيت تعتمد في مداخيلها على تنظيم رحلات الحج والعمرة دون التفكير في إيجاد طرائق لجلب السياح الأجانب للمنطقة بحجة الحظر المفروض على تواجد الأشخاص في هذه المناطق السياحية، والتي تقع غالبيتها على تخوم الحدود من المملكة المغربية.
هذا الأمر نفاه بوسحاب محمد، مدير السياحة بولاية تندوف في حوار خصّ به «الشعب «، أين أكّد على أنّ السلطات المحلية بالولاية اعتمدت ثمانية مسالك سياحية تعمل المديرية حالياً بالتعاون مع الشركاء من أجل تفعيلها ووضعها تحت تصرّف مديرية السياحة، وأضاف المتحدّث أنّ اللقاءات التي جمعته بمختلف الشّركاء من جمعيات، وكالات سياحية ومؤسّسات عمومية تهدف إلى إنعاش الحركة السياحية بالمنطقة التي تعرف ركوداً رغم ما تزخر به من تراث مادي ولامادي غير مستكشف يجعل من المنطقة قطباً سياحياً بامتياز، وهي خطوة رغم تأخّرها تأتي بهدف خلق مكانة لولاية تندوف ضمن الخريطة السياحية للوطن، خاصة مع انطلاق موسم السياحة الصّحراوية، والتحضير لبدء استغلال المسالك السياحية بشكل رسمي لأوّل مرة في تاريخ الولاية، وفتحها أمام الاستغلال المباشر للوكالات السياحية تحت إشراف مديرية السياحة.
قال بوسحاب إنّ ولاية تندوف مفتوحة أمام حركة السياح الوطنيّين والأجانب عكس ما يتم تداوله، ولا وجود لعراقيل إدارية أو غيرها بدليل تنظيم الولاية لعدد من النّدوات والملتقيات الدولية شارك فيها أجانب، مضيفاً بأنّ سنة 2019 سجّلت دخول 12466 وافد جزائري إلى تراب الولاية، و482 سائح من جنسيات أجنبية، في حين شهدت سنة 2020 نقصاً حاداً في أعداد الوافدين بسبب القيود المفروضة على السفر بسبب جائحة كورونا، حيث بلغت 4488 جزائري و104 أجنبي.
(عن مجلة الشعب للتنمية المحلية)