شهدت الجزائر خلال صائفة 2021 سلسلة من الحرائق الإجرامية طالت العديد من الولايات، إذ تمتد تشعباتها الحقيقية إلى المخزن في محاولة فاشلة لضرب استقرار الجزائر.
لم يكتف المخزن بحياكة الدسائس منذ سنوات ضد الجزائر مع إظهاره واجهة الصداقة رسميا لتبرئة نفسه، ليقوم هذه المرة بتفعيل أذنابه وأتباعه من الجماعات الإرهابية (الماك ورشاد) لمحاولة إشعال النار في الجزائر.
وكان وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج رمطان لعمامرة، قد أكد أن المغرب تعاون مع الجماعتين الإرهابيتين (الماك ورشاد) اللتين ثبت تورطهما في الجرائم الشنيعة المرتبطة بالحرائق التي عرفتها عدة ولايات من الوطن.
وفي أعقاب ذلك، وجّه رئيس الدبلوماسية الجزائرية أصبع الاتهام لهاتين المنظمتين اللتين تقفان وراء اغتيال وتعذيب المواطن جمال بن إسماعين في 11 أوت 2021، الذي ذهب لتيزي وزو للمشاركة في إخماد الحرائق وتم اغتياله من قبل حشود غاضبة في الأربعاء ناث إراثن.
وقد قرر اجتماع للمجلس الأعلى للأمن، انعقد يوم 18 أوت المنصرم برئاسة رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع الوطني عبد المجيد تبون، تكثيف جهود الأجهزة الأمنية من أجل اعتقال بقية الأفراد المتورطين في الجريمتين وكذلك جميع أعضاء الحركتين الإرهابيتين اللتين تهددان الأمن العام والوحدة الوطنية إلى غاية القضاء عليهما، سيما حركة “الماك” التي تتلقى الدعم والمساعدة من جهات خارجية، خاصة من المغرب والكيان الصهيوني.
وأوضحت رئاسة الجمهورية، أن “الأعمال العدائية والمستمرة التي يرتكبها المغرب ضد الجزائر، استدعت إعادة النظر في العلاقات بين البلدين وتكثيف الرقابة الأمنية على الحدود الغربية”.
وعليه، قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب منذ أغسطس الماضي، على خلفية الأعمال العدائية التي تمارسها الرباط ضد الجزائر.
في هذا السياق، استخدم المخزن الحيل والخدع في محاولة لضرب استقرار الجزائر، فلجأ لإغراق البلاد بالمخدرات (حشيش) التي يحاول توزيعها عبر الحدود الغربية والتي تشكل إحدى خططه المزعزعة للاستقرار والمتمثلة في الضغط على الشباب لصرفهم عن المعرفة والتوازن الروحي والفكري.
كما ارتكب المخزن أعمال تجسس جماعية وممنهجة استهدفت مواطنين ومسؤولين جزائريين، من خلال استخدام تكنولوجيا إسرائيلية المتمثلة في برنامج التجسس “بيغاسوس” من قبل المخابرات المغربية للتجسس على آلاف الأشخاص في المغرب والجزائر وأماكن أخرى.
واشترك المخزن مع الكيان الصهيوني في تشويه صورة الجزائر المميزة وخاصة استقرارها واستقرار مؤسساتها وأمنها وسيادتها المكتسبة بالنفس والنفيس من خلال تضحيات جسام قدمها شهداء أبرار وحافظ عليها أحفادهم الأبطال.
وحتى الصحفيون المغاربة أشاروا إلى الموقف العدائي الشديد للمخزن تجاه الجزائر وتورّطه في الحرائق التي أشعلت النيران الصائفة الماضية في عدة ولايات من البلاد.
وتحدث هؤلاء الصحفيون عن “شراء ضمائر بعض الجزائريين” لبث الفتنة والعداء من أجل “تدمير الجزائر عبثا”.
عداء تاريخي
ومع هذا لم يترتب عن محاولات المغرب الدنيئة إلا تعزيز تضامن الشعب في مواجهة جميع التهديدات المحتملة على أراضيه، فضلاً عن التماسك والانسجام القائمين بين الشعب الجزائري وجيشه الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني.
فهجمات المخزن المتكررة على الجزائر ليست وليدة اليوم، إذ لم تتوقف المملكة في الواقع أبدا عن المبادرة بأعمال عدائية ودنيئة ضد الجزائر، لا سيما منذ استقلال الجزائر وحتى قبل ذلك.
فميول النظام الملكي العلوي الطبيعي للخيانة ليس وليد اليوم، بحسب ما أكده مقال لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، نشر شهر فبراير 1873، الذي أشار إلى أن الهزيمة التي مني بها الأمير عبد القادر لا تعود لـ«تفوق الجيوش الفرنسية” وإنما للخيانة التي تعرض لها من قبل السلطان المغربي، مولاي عبد الرحمان الذي تحالف مع العدو الفرنسي لمحاصرته.
وبدأت هذه العداوة التي تم توثيق طبيعتها الممنهجة والمتعمدة مع حرب العدوان المفتوحة عام 1963 وهي حرب بين الأشقاء، شنتها القوات المسلحة الملكية المغربية ضد الجزائر التي كانت استرجعت للتو استقلالها الوطني.
كما يعرقل المغرب مسار تصفية الاستعمار من القارة الإفريقية، من خلال إبقاء الشعب الصحراوي تحت سيطرته. علما أن الصحراء الغربية التي تعتبر آخر مستعمرة في إفريقيا قد تم احتلالها من طرف المغرب، ثم ضمها عام 1975 بعد مغادرة القوات الإسبانية.
وبهذا قام المخزن بتقويض كل جهود السلام في إفريقيا مما يحول دون تحقيق نموها وازدهارها ويعيق أيضا بناء الاتحاد المغاربي الذي حلم به الآباء المؤسسون لجعله فضاء للأخوة والسلام والاستقرار والتبادلات الاقتصادية والتجارية.
ويبقى المخزن عاملا مزعزعا لاستقرار وتهديدًا لأمن المنطقة برمتها.
اليقظة والتضامن
تعرضت تيزي وزو صيف 2021 إلى حرائق مهولة، أودت بحياة عشرات الأشخاص بين مواطنين وعسكريين، شبّت بالعشرات في نفس الوقت بالجزء الأوسط من الولاية التي تعرضت إلى مؤامرة هدفت إلى دفع الجزائر نحو المجهول، أحبطتها يقظة وتضامن الدولة والشعب.
كانت موجة الحرارة التي شهدتها ولاية تيزي وزو في مطلع شهر يوليو قد دفعت المصالح الولائية، سيما مديرية الحماية المدنية ومحافظة الغابات، إلى تجنيد كافة وسائل وإمكانات مكافحة الحرائق، تحسبا لاندلاع أي حريق.
ألا أن اليد الإجرامية كانت أقوى من جميع تلك الوسائل البشرية والمادية وباتت كل الإرادات الحسنة وتجهيزات المصالح المعنية بمكافحة الحرائق، شبه عاجزة أمامها.
فلقد شبّ 33 حريقا في نفس اليوم والزمن بالمنطقة الوسطى من ولاية تيزي وزو، التي تتميز بغاباتها الكثيفة التي تنتشر بها قرى ذات كثافة سكانية كبيرة، حيث خلفت في اليوم الأول 6 قتلى وعشرات الجرحى.
وأكد المحافظ المحلي للغابات، يوسف أولد محمد، الذي كان أول من وصف تلك الحرائق بالإجرامية، خلال دورة استثنائية للمجلس الشعبي الولائي خصصت لهذه الكارثة، أن الحرائق المميتة لـ9 أوت قد سجلت في المنطقة الأقل عرضة للحرائق بالولاية.
وانتشرت الحرائق التي شبّت في قلب المناطق الجبلية الآهلة بالسكان، بسرعة النار في الهشيم وساعدها في ذلك شده الحر والرياح، وهو توقيت اختاره بالذات مضرمو الحرائق التي حاصرت القرى والمداشر وزرعت الخوف والذعر في أوساط السكان.
فقد أصيب الجزائريون بالصدمة لهول ما تضمنته الصور والفيديوهات التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي نقلت فرار المواطنين المحاصرين بالنار في كل صوب وحدب، من بيوتهم.
وكانت ألسنة النيران تنتشر بسرعة البرق، حاصرت السكان داخل منازلهم ولحقت بآخرين كانوا يحاولون الفرار عبر أحراش الغابات أو وسط البساتين.
وقال أحد شبان قرية إخليجن (الأربعاء ناث ايراثن)، بعد أيام من الكارثة: “لم أر في حياتي حريقا ينتشر بتلك السرعة”، مضيفا: “كنا نشاهد الحريق الذي شبّ في أسفل القرية وفي لمحة بصر وصلت ألسنة اللهب إلى المنازل”.
وتذكر شاب آخر، نجا من الحرائق، كيف اختفى وراء إحدى المركبات المتوقفة على الحافة لكي يحمي بنات أخيه الإثنتين، متابعا: “لقد انتشرت ألسنة اللهب بسرعة لم أكن أتوقعها، وشعرت بحرارة لم أعرفها أبدا من قبل وألم شديد لا يوصف، كنت أظن أننا أصبحنا في عداد الموتى”.
ولما بلغت النيران أعلى الطريق، حاصرت العائلات التي كانت تحاول الفرار إلى قرية مجاورة، بحسب شهادات بعض سكان ايخليجن، الذين شاهدوا بأم أعينهم بعض إقاربهم يفارقون الحياة من بينهم بعض الأطفال.
وتكبد قطاع الفلاحة خسائر فادحة، حيث تشير آخر حصيلة تلقتها وأج من المديرية المحلية للمصالح الفلاحية إلى أن حرائق الصيف الأخير قد أتت على حوالي مليوني شجرة زيتون وأكثر من 810 ألف شجر مثمرة.
يضاف الى كل ذلك، خسارة 778 رأس من البقر وأزيد من 4200 من الأغنم و3200 من الماعز و140000 من الدجاج الموجه لإنتاج اللحوم و25000 دجاجة موجهة لإنتاج البيض، علاوة على 8000 أرنب وزهاء 31.000 خلية نحل منتجة.
رد فعل سريع
لمواجهة آثار الكارثة غير المسبوقة، تولدت هبة تضامنية من الجهات الرسمية ومن الشعب الجزائري برمته، من أجل المساعدة في عمليات إخماد الحرائق والتكفل بالعائلات المتضررة التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها منكوبة وفقدت كل ما تملك.
جندت الدولة كل مصالحها ومؤسساتها، المدنية والعسكرية، من أجل مساعدة المنطقة التي راحت ضحية مؤامرة من جهات أرادت من خلال الحرائق الإجرامية، زعزعة استقرار الجزائر.
فقد أعلن الوزير الأول وزير المالية أيمن بن عيد الرحمن، الذي زار ولاية تيزي وزو، أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، قد أنشأ صندوقا خاصا لتعويض المتضررين من حرائق الغابات التي سجلت عبر البلاد.
وسمح هذا الصندوق بمساعدة المنكوبين عبر منح مساعدة مالية تتراوح بين 250.000 ومليون دج، للذين احترقت منازلهم. وفي شهر سبتمبر الأخير تم تعويض قطعان الماشية التي احترقت ويتم حاليا إعادة إنشاء بساتين الأشجار التي احترقت ولازالت عملية التعويض متواصلة.
من جانبه، تجند الشعب عبر كل ولايات الوطن لمساعدة المتضررين بكل ما هم بحاجة إليه، فقد توافدت على ولاية تيزي وزو قوافل لامتناهية من المساعدات، ليلا ونهارا من جميع أنحاء البلاد.
وارتسمت في الأجواء، صورة رائعة لمعاني التضامن، فقد كانت حركة الشاحنات على الطريق الوطني رقم 12 لا تهدأ وكذا على الطرق المؤدية الى القرى، لنقل شتى المواد الغذائية والألبسة والادوية والالعاب والاغطية والشموع ومواد اخرى.
كما جاب أطباء ومختصون نفسانيون وفنانون وغيرهم وجمعيات ومنظمات، مختلف القرى المنكوبة ومراكز الاستقبال ليقدموا، كل حسب استطاعته، يد المساعدة من اجل العودة الى الحياة العادية.
اغتيال بن إسماعين... هبّة لنبذ العنف
عاشت الجزائر يوم 11 أوت الفارط وفي أعقاب الحرائق التي مست منطقة القبائل، حالة من الحزن العميق والحيرة والذهول والخوف، إثر وفاة الراحل جمال بن اسماعين، الذي أثار اغتياله هبة تضامنية فريدة مع عائلته، في سلوك أكد مجددا نبذ الجزائريين لكل أنواع العنف.
تأثر العديد من المواطنين وأدانوا قسوة ووحشية هذه الجريمة النكراء التي تستحق كل الإدانة، كون الضحية جمال تنقل إلى منطقة الأربعاء ناث ايراثن (تيزي وزو) بصفة طوعية من أجل المساعدة في إخماد الحرائق.
وقال رئيس جمعية “أصدقاء مليانة”، لطفي خواتمي، إن الأربعاء 11 أوت 2021 الذي ذهب خلاله جمال بن اسماعين ضحية جريمة شنعاء “لا يمكن تبريرها”، سيبقى “محفورا إلى الأبد في ذاكرة سكان مليانة (عين الدفلى) والجزائريين، بشكل عام”، قبل أن ينوه “بروح الانتماء والتضامن التي جمعت بين الجزائريين عقب هذه المأساة”.
وتذكر خواتمي وهو طبيب أسنان، العدد الهائل من المواطنين الذين نزلوا بمليانة عقب وفاة الراحل لتقديم التعازي لأسرة الفقيد، وكيف تسبب ذلك في صعوبة كبيرة في الحركة في المدينة وضواحيها.
كما عبر عن تأثره العميق لاغتيال جمال الذي عرف كفنان ملتزم ذي مواهب متعددة، ومواطن مثالي وعاشق للطبيعة ورجل إنساني بقلب كبير، كما قال.
وتعكس هذه الهبة التضامنية غير المسبوقة، بالنسبة له، تعبير المواطنين عن تعاطفهم مع أسرة المتوفي، رغم أن فقدان فلذة الكبد يشكل مأساة للوالدين ما بعدها مأساة.
والد ببصيرة نادرة وحكمة فريدة
يبقى أكثر ما ميز الجو الرهيب الذي أثارته الوفاة المأسوية للراحل جمال بن إسماعين، هو سلوك وأقوال والده في اليوم الموالي لاغتيال ابنه. وبالفعل أبان نورالدين بن اسماعين لدى تنقله إلى تيزي وزو لأجل استعادة جثة فقيده، مستوى عالياً من ضبط النفس وحكمة فريدة، بالرغم من مصابه الجلل.
فقد قال، متوجها للشباب الذين تجمعوا بالقرب من مستشفى تيزي وزو، “القبائل إخواننا ولا نبحث عن الفتنة. القبائل أصدقائي وأبناء إخوتي. اللهم ألهمنا الصبر، كان جمال أخوكم ومات شهيدا”.
وأضاف ببصيرة نادرة تنم عن رفعة خصاله: “لقد فقدت ولدا، لكنني فزت بأولاد لأنكم جميعًا أبنائي”، في دعوة صريحة منه لتهدئة النفوس، وفق ما أكده الكاتب رشيد الزيان، الذي يرى في هذه الكلمات “درسا في التسامح يجب تلقينه للأطفال في المدارس، إذ أن هذا السلوك يمثل المواطن الجزائري العادي الجدير بالاحترام”.
ويبدو جليا أن هذا الرجل كان يعلم، بالنظر لسنّه (65 عامًا) وتجربته في الحياة، بـ«وجود أشخاص يتربصون في الخفاء، ينتظرون اللحظة المناسبة لإشعال النار، لكن بصيرته منعتهم من تنفيذ خطتهم الجهنمية”، كما أشار شمس الدين، عضو بالجمعية وصديق مقرب من الراحل جمال.
وتذكر الشاب البالغ من العمر 26 سنة، “الغضب والاستياء الكبيرين” اللذين استوليا على الكل بعد اغتيال جمال، حيث أعرب سكان البلديات المجاورة لمليانة عن رغبتهم في إغلاق الطريق السريع احتجاجا على هذا الفعل.
وأضاف، أنه بعد ساعات قليلة من وقوع المأساة قدم سكان البلديات المجاورة لمليانة لإخبارنا أنهم مستعدون لإغلاق مقطع من الطريق السريع شرق-غرب العابر للولاية، مؤكدا أن أقرباء وأصدقاء المغتال رفضوا ذلك، لأن، كما قال، “كان سيرفضه الراحل جمال لو كان حيا”.
كما أعرب نفس الشاب، وهو خريج كلية العلوم السياسية وبصدد تحضير شهادة في الفلسفة، عن ارتياحه الكبير عقب سماع كلمات والد الضحية لسكان مليانة من تيزي وزو، حيث صرح: “أقول لأهالي مليانة، عليكم أن تكونوا فخورين به (ابنه جمال)، لأنه بطل، أضحى لديكم الآن، بعد علي لابوانت، جمال بن إسماعين”.
كما نوه الجامعي الشاب بموقف وسلوك السيد نورالدين بن إسماعين إزاء المواطنين الذين أتوا لتقديم التعازي، عند عودته إلى مليانة لجنازة ابنه.
وذكر أن والد الضحية بقي “ساكنا وكأنه من جماد”، بالرغم من الفاجعة التي ألمت به. في حين انفجر العديد من الأشخاص الذين تنقلوا إلى مليانة لأجل تقديم واجب العزاء بالبكاء، وأضحوا هم من يحتاجون إلى المواساة.
وقال عبد النور، إبن عم الضحية، إن “الوقت يعلمنا ترويض الألم”، مضيفا أن “نار الألم التي أحرقت قلوب أقرباء وأصدقاء جمال، لم تلتهم شرفهم ولا كرامتهم”.
للإشارة، صنف موقع “almanach.dz”... مؤخرا، والد جمال بن إسماعين الشخصية الأكثر تأثيرا بالجزائر سنة 2021 وذلك بفضل شجاعته وحكمته في مواجهة جريمة اغتيال ابنه.