«ستارت آب».. مختصّـون يحذّرون من استنساخ تجربة «أونساج»

زروقي: التّـعويل على المؤسّـسات النّـاشئة لامتصاص البطالة مبالغ فيه

محمد فرڤاني

شيباني: الدّورات التّـكوينيّـة ضرورية للشّـباب المبتكر

المؤسّسات النّاشئة أو ستارت آب «startup» حلقة مهمّة في مخطّط الحكومة الحالية لبعث النّشاط الاقتصادي، والالتحاق بركب اقتصاد المعرفة، من خلال توفير مناخ ملائم لمرافقة الشّباب المبتكر واحتضان مشاريعه في ميدان الرقمنة، لكن وحسب المختصّين فإنّ الابتكار وحده غير كافٍ لضمان تطوّر «الستارت آب»، والحصول على براءة اختراع أو الوصول إلى مَصفّ المؤسّسات النّاشئة، فالخبير في مجال «الستارت آب»، عز الدين شيباني، يرى أنّ وضع المصطلحات في سياقها الصّحيح، وتحديد المفهوم الدّقيق لـ «ستارت آب» هو أولى الخطوات التي ينبغي توضيحها للشباب المبتكر، قبل الخوض في أي تجربة في تكنولوجيا الرّقمنة يُراد بها الوصول إلى تقديم خدمة تكنولوجية في مجال تطوير الخدمات أو إنشاء مؤسّسة مصغرة. فيما يرى المستشار في إدارة المشاريع أنّ الخطابات التي تسوّق لنجاح المؤسّسات النّاشئة، وطرحها كبديل لامتصاص خرّيجي الجامعات مبالغ فيها، وقد تكون نتائجها عكسية على الشباب المبتكر.
يرى الخبير في المؤسّسات النّاشئة عز الدين شيباني، أنّ ترجمة مصطلح «الستارت آب» إلى اللغة العربية باسم مؤسّسة ناشئة يُضيّع المعنى الحقيقيّ للكلمة التي تعني اصطلاحا بالانجليزية «تشغيل، إنطلاق»، فيما يقصد بها في التّعريف العلمي أنّها مؤسّسة أنشئت للبحث عن نموذج عمل قابل للنّمو السّريع والاستمرار، من مهامها البحث عن حل لمشكلة ما أو عن الأسباب التي تعيق الوصول إلى الحل.
يضيف محدّثنا لمجلّة «الشّعب الإقتصادي»، أنّ الرئيس عبد المجيد تبون أعطى التّعليمات الصّريحة والصّحيحة لتجسيد معنى «ستارت آب» الحقيقي، من خلال حثّه الشباب المبتكر على البحث عن حلول لتطوير المؤسّسات وإيجاد سوق لخدماتهم، ومن ثم طلب الدعم من الدولة.
فعلى الشّباب المبتكر البحث عن نموذج عمل قابل لمعالجة مجموعة من الحلول والفرضيات تصل إلى فكرة مبتكرة تصبح قاعدة الانطلاق في إنشاء «ستارت آب».

فكرة المؤسّـسات النّـاشئة و»ستارت آب»
من خلال الفكرة المبتكرة يستطيع صاحبها ولوج مرحلة الاحتضان، والتي تعتبر ضرورية من أجل توسيع عملية البحث ووضع الفرضيات للخدمة المراد تقديمها، لدراسة جميع الأفكار المحتملة للعناصر المعنية بالخدمة أو التّطبيق الرّقمي.
بعد مرحلة الاحتضان يقدّم الشاب المبتكر نموذج العمل الحقيقي لعرضه على المؤسّسات المعنية بالخدمة، وهنا يكون النّموذج قابلا للاستغلال على أرض الواقع من أجل إخضاعه للتّجريب مباشرة، مع زيادة أو سحب بعض الخدمات من النّموذج، عوض تقديم العرض على شكل مجموعة من الأدوات في ملفات إلكترونية تحتوي على شرائح إفتراضية «PowerPoint»، وفي حال نجاح التجربة لأكثر من مرة يتوجّه الشاب المبتكر لنيل براءة الاختراع وحمايتها، وهنا آخر محطّة لـ «ستارت آب».
ويؤكّد محدّثنا أنّ الوضع القانوني ضروري لتحديد مصير براءة الاختراع، إمّا ببيعها لشركة ما، أو كرائها، أو إنشاء مؤسّسة ناشئة بواسطتها.
تّـمويل بصيغ جديدة لضمان فرص النّـجاح
وضعت وزارة المؤسّسات الصّغيرة والمؤسّسات النّاشئة واقتصاد المعرفة، أرضية رقمية بين أيدي الشباب المبتكر لتسجيل مشاريعهم، كما توجد لجنة خاصة مكلّفة بدراسة هذه المشاريع الراغب صاحبها في تحويلها للعلامة التي يراها تناسب طموحه إما كمشروع مبتكر، أو ستارت آب، وفق شروط محدّدة تضمن التمويل من طرف الصّندوق والإعفاءات الجبائية والجمركية.
ويختلف التّمويل الحالي للمشاريع المبتكرة عن سابقيه، حيث يطرح الصّندوق بالوزارة المعنية نمطا واحدا في طريقة التمويل، وقبل الشّروع في ذلك يقوم الصّندوق بتقييم شامل ودراسة السّوق المراد ولوجها من طرف صاحب المشروع، ومن ثم يقدّم تمويلا مع الاستحواذ على نسبة معيّنة من أرباح المؤسّسة التي صارت ذات أسهم بهذا النّمط، كما تتيح لصاحبها شراء هذه الأسهم في حال حقّق أرباحا تسمح بذلك، وهو الهدف المنشود من الصندوق الذي يعود بالأرباح لتمويل مشاريع مبتكرة أخرى، ويغطّي على المشاريع المتعثّرة التي تكفل الصّندوق بمرافقتها سابقا.
ويشير شيباني إلى أنّ «الستارت آب» يخرج عن الإطار الكلاسيكي في تمويل وتسيير المؤسّسات، فمن ناحية التّمويل كان على صاحب المؤسّسة العادية عرض مشروعه على البنك مع ضمانات قبل التّمويل، إضافة إلى هيكل هرمي تقليدي في التّسيير، في حين ينبغي على صاحب المشروع الآن عرض عدّة نماذج لأعمال يختار أكثرها ضمانا للوصول لأهداف المشروع، والذي من مميّزاته استهداف السّوق الكبيرة من أجل تحقيق نموّ سريع دون اشتراط حيّز جغرافي محدود للجمهور المستهدف، إضافة إلى تواصل صاحب المشروع مع فريق العمل بشكل مباشر إلى غاية الوصول إلى الحل في كل مرة.

نموذج الابتكار و«Fablab»
يشترط في نموذج الابتكار المخبري توفّر قابلية التصنيع، فالمواد التي تُكوِّن النموذج ينبغي أن تكون متوفّرة بشكل كافٍ للوصول إلى إنتاج وحدات المشروع المبتكر بالكمية المطلوبة من أصحاب المؤسّسات، لذا لا يمكن إهمال مرحلة مختبر التّصنيع
«Fablab»، وهي ورشة صغيرة تقدم تصنيعا رقميا توفّر نماذج قابلة للتّصنيع بشكل يراعي توفّر المواد الأولية التي تشكّل المنتوج النّهائي.
ويشدّد شيباني هنا على أنّ هذه المنهجية غائبة في الجزائر، فالسّوق متشبّع ويحتاج إلى ابتكار حقيقي ناجح ومجرّب بطريقة فعّالة، لذا يحذّر من استنساخ الفشل الذي عرفته الجزائر في إنشاء 360 ألف مؤسّسة وفق أجهزة الدعم المتعارف عليها منذ 1996، فعصر تحويل الفكرة إلى مؤسّسة انتهى، وضروري اليوم إضافة عنصر الابتكار إلى كل فكرة، فـ»ستارت آب» لا تسيّر مثل الشّركة العادية، وهو المفهوم الذي يجب تلقينه للشباب المبتكر في الجامعات من خلال تكثيف الدّورات التّكوينية النّاجعة لتوضيح الرّؤى بين الشباب ومشاريعهم، ووضع مخطّطات فردية يلج من خلالها هؤلاء إلى عالم المؤسّسات مع ضمان أكبر قدر ممكن لنجاحها.

مسرّعات الأعمال
مع الثّورة الرّقمية التي تتنافس فيها عدّة دول، ظهر مصطلح جديد يدعى مسرّعات الأعمال، وهي عبارة عن نسخة مطوّرة للحاضنات، تعمل على تقليص مدّة احتضان المشروع إلى أقل وقت ممكن يكون فيها الشاب المبتكر قد قدّم نموذجا جاهزا للعمل، فيما تسعى مسرّعات الأعمال إلى توجيه صاحب الابتكار في التسويق للمنتوج، وجلب رؤوس الأموال لضمان التمويل المباشر.
يؤكّد محدّثنا، أنّ أغلب أصحاب المشاريع يُحجمون على تصنيف ابتكاراتهم وفق سلم التكنولوجيات الموجودة، فيما يعكفون على تقديمها في شكل مجموعة من ملفات إلكترونية تحتوي على شرائح إفتراضية عبر جهاز الكمبيوتر، في حين يبحث أصحاب المؤسّسات عن نموذج جاهز للعمل مباشرة، وهي النّقطة التي ينبغي للشباب المبتكر مراعاتها كي لا تبقى أفكارهم حبرا على ورق.

هل يمكن امتصاص بطالة أصحاب الشّـهادات؟
يرى أستاذ الإعلام الآلي بجامعة البويرة والمستشار في إدارة المشاريع، الدكتور طه زروقي، في حديثه مع مجلة «الشعب الاقتصادي»، أنّ مصطلح المؤسّسة النّاشئة يمكن إطلاقه على ذلك المشروع الاقتصادي الذي يسعى صاحبه من خلاله إلى تجسيد فكرة تتعلّق بالتّجارة أو الصّناعة أو قطاع الخدمات، بغض النّظر عن مصدر تمويل المشروع سواء كان من طرف الحكومة في إطار دعم المشاريع أو بأموال خاصة.
يضيف محدّثنا، أنّ تسمية المؤسّسة النّاشئة ارتبطت اليوم بتلك الأفكار الجديدة التي يخاطر أصحابها في تطبيقها على أرض الواقع، ولم يسبق أن طرحت من قبل سواء على مستوى منطقة معيّنة أو على صعيد أوسع من ذلك، وأوضح المستشار في إدارة المشاريع أنّ الأمثلة على المؤسّسات النّاشئة بالجزائر كثيرة، إلاّ أنّنا قد نغفل على تصنيف العديد من النّشاطات والمشاريع ضمن مفهوم المؤسّسة النّاشئة خاصة التجارية منها وخدمات النّقل والتّوصيل، وما يميّزها هو عنصر المخاطرة، فصاحب المشروع قد يصطدم بواقع عدم رواج المنتوج أو تقبّل الخدمة.

سياسة دعم المشاريع وروح المسؤولية لدى الشّـباب
أوضح الدكتور زرّوقي بأنّ سياسة دعم المشاريع للمبتدئين في مجال المقاولاتية والمؤسّسات النّاشئة التي تُعتمد في الجزائر قديمة، ومتعارف عليها في النّظم القديمة أين كانت صيغ الشّراكة بين أصحاب الحرف وأصحاب الأموال للانطلاق في مشروع وفق شروط محدّدة في نسب تقاسم الأرباح وتحمّل الخسائر في حال ما فشل المشروع. وهنا يكمن عنصر المخاطرة الذي كان مطروحا منذ القدم في صيغ التعاقد من أجل إنشاء المؤسّسات، والذي يبقى مطروحا إلى يومنا هذا من خلال ما تقوم به الدولة حاليا في دعم المشاريع، وإيجاد صيغة قانونية في تقاسم الأعباء في حال تعثّر المشروع.
وانتقد المستشار في إدارة المشاريع، الدكتور طه زروقي، سياسة الحكومات السّابقة في دعم المشاريع، والتي كانت تتمّ بنوع من الشّعبوية وتوزيع الرّيع على الشباب الراغب في إنشاء مؤسّسات دون مراعاة نسب المخاطرة، والتي جعلت الرّاغبين في إنشاء المؤسّسات واثقين من مسح ديونهم حتى قبل تسلّم الدعم وانطلاق المشاريع، وهو الأمر الذي نعيشه اليوم أين يطالب العديد من المستفيدين من جهاز «أونساج» بمسح ديونهم بعد تعثّر مشاريعهم.
وصنّف الدكتور طه، مسبّبات تعثّر العديد من المشاريع السالفة الذكر في خانة المشاكل الاجتماعية وذهنيات أصحاب المشاريع، كما أوضح أنّ هناك مشاكل حقيقية تتعلّق بالجانب التقني في عملية المرافقة، ففي بداية تطبيق أجهزة وآليات دعم الشباب في إنشاء المؤسّسات كان الكثير من المستفيدين من هذه الأجهزة يفتقدون لعنصر الخبرة في التسيير، ولو أنّ صيغ دعم المؤسّسات حاليا تراعي تكوين هؤلاء المستفيدين من جانب التّسيير، إلاّ أنّ ذلك غير كافٍ حسب أستاذ جامعة البويرة، ولطالما اصطدموا بالعديد من المعوقات كالتّهرّب الضّريبي في عملية التّعاقد مع مالكي مقرات العمل، مثال على ذلك (شخص يرغب في كراء محل لممارسة نشاطه، فيشترط عليه صاحب المحل تخفيض ثمن الكراء على الورق من أجل التّهرّب الضّريبي، في حين يكون الثّمن الحقيقي للكراء مضاعفاً بعشر مرات على الأقل، وهنا قد تصل خسارة المستفيد من الدعم إلى ربع مبلغ الدّعم قبل الانطلاق في مشروعه.
وأضاف الأستاذ زروقي، أنّ من بين الآليات التي فُرضت الآن في صيغ الدّعم هي آلية المرافقة من أجل تكوين المستفيدين من مختلف صيغ الدعم قبل الدّخول في سوق الأعمال والمنافسة بين المؤسسات، كدورات تكوينية في مجال الضرائب والمناجمنت، وهو ما يصنّف في خانة تقويم التجارب السابقة في مجال دعم الشباب، إلاّ أنّ التّصريح الكاذب في كراء محل المؤسّسات لا يزال قائما، وينبغي إيجاد آليّة فعّالة لمعالجته.

الجامعة لا تكوّن أرباب أعمال
يقول الدكتور طه، إنّ هناك نسبة من المخاطرة العالية لدى بعض المؤسّسات النّاشئة، وهي تنقسم إلى قسمين المخاطرة التّقنية والمخاطرة الاقتصادية، أمّا المخاطر التقنية فهي تتعلّق بالمنافسة في السوق ونقص التكوين، واستعجال الكثير من الطلبة على ولوج عالم المقاولاتية دون خلفيات في العمل والتكوين في المجال. وأضاف ضيف «الشعب الاقتصادي» أنّ حاضنات الأعمال بالرغم من أنّها تعمل على توفير تكوين للشباب قبل انتقالهم إلى مرحلة إنشاء مؤسّسة ناشئة، إلاّ أن جانب الخبرة الحقيقية يظهر جليّا من خلال افتقاد المسيّر الشاب لخبرة التّعامل مع ضغوط الإجراءات، في حين استثنى محدّثنا من هذه القاعدة الشباب الذي نشأ ضمن محيط اقتصادي في العائلة أو في علاقاته الخارجية، وهو ما سيسهّل عليه تسيير مؤسّسة في حال استفادته من إحدى آليات الدّعم، فالجامعة لا تكوّن أرباب أعمال والطّلبة يميلون لمحيط نشأتهم في نظرتهم لعالم الشغل.
وفيما يتعلّق بالمخاطرة الثانية فهي مرتبطة بالمخاطرة الاقتصادية، فالفكرة المبتكرة التي يقدّمها صاحب المؤسسة النّاشئة ستخضع لمنطق السّوق، وبالتالي قد تتعثّر في أول ظهور لها خاصة من جانب المنافسة، كما أنّ الفكرة قد تكون سابقة لأوانها، ففي مجال الدّفع الإلكتروني مثلا، أوضح الدكتور زروقي أنّه وقبل 15 سنة انطلق بعض الشباب في العمل على نظام الدّفع الالكتروني لكن غياب النّصوص القانونية، وغياب تأطير هذا المجال رفع كثيرا من نسبة المخاطرة، الأمر الذي عجّل بإفلاس المؤسّسة التي تبنّت هذا المشروع سابقا، وهو ما كان ليحدث اليوم أين تتوجّه الحكومة، وبترسانة من القوانين إلى تعميم عملية الدفع الالكتروني.

استغلال أجهزة الدّعم للتّـهرّب الضّـريبي
أوضح الأستاذ الجامعي طه زروقي، أنّ العديد من المؤسّسات الكبيرة والمتوسّطة قد تتحايل على القانون للاستفادة من أجهزة الدعم بإنشاء شركات ناشئة مثلما كان عليه الحال في الحكومات السّابقة، من خلال إنشاء فروع لمؤسّسات كبرى ومتوسّطة، وتصنيفها ضمن الشّركات النّاشئة من أجل الاستفادة من الدّعم والتّهرّب الضّريبي، وهو ما سيسهم في تقليص فرص النّجاح لأصحاب الشّركات النّاشئة الحقيقيّين باعتبار أنّ المؤسّسات المتحايلة على القانون تملك من الخبرة ما يؤهّلها للتّنافس بأريحية في السّوق.
وختم المستشار في إدارة المشاريع، الدكتور زروقي، بضرورة إعطاء الصّورة الحقيقية للمؤسّسات النّاشئة وعدم المبالغة من فرص نجاحها، مؤكّدا على أنّ خرّيجي الجامعات يتوجّب عليهم عدم تجاوز مرحلة التّسلسل الوظيفي في المؤسّسات قبل إعطائهم مسؤولية إدارة مؤسّسات مهما كان نوعها.
(عن مجلة الشعب الاقتصادي)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024