ميزانيات وموارد البلديات

ثروة اقـــتصـاديـة ضائـعـة

سفيان حشيفة

اتكال على الخزينة بالرغم من الأزمة الاقتصادية

تعاني أغلب بلديات الجزائر من شحّ الموارد المالية الذّاتية، ما أبقى كثيراً منها في بوتقة الإتكالية على الميزانية المالية السنوية في تمويل وتسيير شؤونها، وأرهق كاهل الخزينة العمومية، التي ظلّت طيلة عقود تخصّص اعتمادات ضخمة للجماعات المحلية دون  طائل أو تصحيح للمسارات المالية والإقتصادية.
الإصلاحات الاقتصادية في البلاد التي جاءت تباعا لإنهاء التبعيّة للمحروقات، فشلت ولم تحقّق هدفها بسبب تحييد البلديات، وعدم جعلها كنواة صلبة ومنصّة للإقلاع الإقتصادي في تلك المخطّطات، إذ من غير الممكن الحديث عن اقتصاد متوازن وقوي والبلدية فيه هي الحلقة الضعيفة والمنهكة بتراكمات التبعات الإجتماعية والإدارية.
تحرير كاهل الخزينة العمومية من أعباء تمويل البلديات، ودفعها نحو صناعة ثروة محلية في الأمد القريب، أصبح من ضروريات المرحلة الحالية، بسبب الأزمة الإقتصادية التي تعيشها البلاد الناتجة عن أزمة تراجع أسعار النفط منذ سنة 2014، واحتمال تواصل تداعياتها السلبية على جميع القطاعات مستقبلا، حسب الخبراء.

موارد ضخمة ولكن!

يرى العديد من الفاعلين الإقتصاديّين، أنّه من المجحف أن تتوفّر الكثير من البلديات على موارد ومقوّمات مالية ضخمة كالموانئ البحرية والجافة، والشّركات النفطية والصناعية الكبرى، والمناجم، والأسواق الجهوية والوطنية، ومناطق النشاطات الصناعية وغيرها من الموارد، لكنها تظل تعتمد على الخزينة العمومية وتتواكل على مقدراتها المالية، في وضعية تثير الاستغراب والتساؤل لتأخّر تثمين كل بلدية لثرواتها المحلية لصالح ميزانياتها.
طرحت الحكومات المتعاقبة في السابق جملة من التشريعات والتعليمات للولاة لتفعيل وتثمين موارد البلديات، لكن لم تجسّد قي الواقع إلى اليوم، لغياب منهجية التنفيذ وخلق الثروة محليا، مع تسجيل انعكاس الأزمة السياسية التي حلّت ببلاد منذ مطلع سنة 2019، سلباً على كل المبادرات التي اقترحت لإنعاش موارد الجماعات المحلية.
التّغيير المتسارع للجهاز التنفيذي، وعدم استقراره خلال السّنوات الماضية بسبب ظروف سياسية استثنائية، بدوره ألقى بضلاله على واقع البلديات، وحال دون أن تؤدّي الوزارات المعنية دورها في تنفيذ ما يجب من إصلاحات راوحت مكانها دون أي تحسّن لميزانيات البلديات المالية وترشيدها وتثمينها.

قانون مقيّـد للمبادرة

لا تؤدّي أغلب البلديات في الجزائر دورا اقتصاديا مباشرا أو غير مباشر على المستويين المحلي والوطني، وتعاني قصورا في توفير موارد ذاتية ومحلية كفيلة بتسيير شؤونها الداخلية، إذ لا يزال دورها مقتصرا في الغالب على الجانب التسييري الإداري والخدمات العمومية، لتتحوّل في السّنوات الأخيرة من كيان مؤهّل للعب أدوار اقتصادية، إلى ما هو أشبه بمرفق عمومي اجتماعي مضطلع بما يشغل المواطن لا أكثر، بسبب تداعيات الأزمات الإقتصادية والسياسية على البلاد وتأخّر الإصلاحات.
ضعف المجالس المحلية وغياب تكوين المنتخبين في مجالات التسيير والاقتصاد والقانون، بدوره أسهم في التراكمات السلبية على البلديات، الأمر الذي كان له نتائج سلبية مباشرة على ظروف تدبير المجالات المالية، وما يعضّد ذلك هو القانون الانتخابي السابق، الذي حتّم وجود منتخبين ذوي انتماء سياسي في المجالس، أكثر منه كفاءات علمية وخبرات إدارية ومالية، وكذلك غياب تام لمراكز متخصّصة في تكوين المنتخبين وتوجيههم لتطبيق السياسات الحكومية.
كما لم يقدّم قانون البلدية صلاحيات أوسع، وقوّة اقتراح وتنفيذ لرئيس المجلس والأمناء العامين لتحقيق ما هو مطلوب منهم، وتجسيد «البلدية النموذج تنمويا، اقتصاديا واجتماعيا».
تخليص الخزينة العمومية من أعباء تسيير البلديات يبدأ منطقيا من تشكيل مجالس بلدية قويّة تضمّ كفاءات وإطارات إدارية في المراحل القادمة، وبعث إصلاحات في قانون الجماعات المحلية وتطويعه ليكون في صميم العملية الاقتصادية، ويكون مرتكزا على جعل البلدية العمود الفقري للتنمية المحلية، ومصدرا لخلق الثروة وتنويع مصادرها حسب مقوّمات كل إقليم.
وللإستفادة من أخطاء الإصلاحات السّابقة، لابد من تحليلها وتقييمها للاطّلاع على مكامن الخلل الذي عطّل تجسيدها، وكان وراء عدم تحقيق المبتغى من مخطط تثمين موارد البلديات واكتفائها ماليا ذاتيا، سيما مع قرب موعد تجديد المجالس المحلية المنتخبة، التي تعاني من مشاكل فاقمت من حدتّها الأزمة السياسية التي عاشتها البلاد مذ بداية سنة 2019.

بلديات بلا موارد

تفتقر الكثير من البلديات في المنطقتين الداخلية والجنوبية لموارد الثروة ومصادر الإنتاج، ما سبّب لها عجزاً وصعوبات مالية أكبر، فلا مقارنة بلدية مثل بلدية حاسي مسعود البترولية على سبيل المثال ببلدية بن قشة النائية الواقعة في الحدود الشرقية بين الجزائر وتونس، وتنعدم فيها كل المقوّمات، إذ يتعين من خلال هذا إعادة النظر في وضعية مثل هذه البلديات الفقيرة، وأخذ بعين الاعتبار سبل خلق موارد ومشاريع لها في الأمد القريب.
ولتدارك وضع البلديات الفقيرة غير المتوفّرة على مصادر ومقوّمات الثروة على غرار الموانئ والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، لابد من وضع دراسة ميدانية جديدة تحدّد خصائص كل بلدية وإمكاناتها التنموية المتاحة، وتطويعها لتكون أحد مصادر التمويل الذاتي كإنجاز هياكل تجارية عصرية، ومرافق عمومية سياحية نوعية حسب طبيعة كل منطقة وظروفها الجغرافية، واستغلالها كمورد مالي دائم.

تعليمات الرّئيس

أصدر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مطلع سنة 2021 تعليمات هامّة خلال اجتماع لمجلس الوزراء، أمر فيها بوضع مناطق النّشاطات الصّناعية تحت وصاية وتصرّف «رؤساء البلديات»، لتحديد حاجيات كل منطقة من مختلف الأنشطة، وفتح المجال أمام المؤسّسات الناشئة، لكن هذه التعليمة لم تتجسّد بعد أو تأخّر تطبيقها بسبب الظروف الاستثنائية الوبائية التي تعيشها البلاد، وقد يكون ذلك مردّه انتظار تشكيل مجالس شعبية محلية جديدة قبل نهاية السنة الجارية.
تطبيق هذه التعليمة وفق المعطيات، سيكون له أثر إيجابي على مناطق النشاطات الصناعية وميزانيات البلديات على حد سواء، إذا ما طُبّقت بالشكل الصحيح، وطوّرت تلك المناطق لاستقطاب أكبر للمؤسّسات الناشئة عبر منح تحفيزات وتسهيلات، لاستغلالها كمورد جبائي مالي عبر آليات قانونية واضحة، كما ستسمح تلك التعليمة لرؤساء البلديات بمعاينة نقائص مناطق النشاطات عن قرب، والإسهام في معالجتها وتذليل مختلف العراقيل التي تواجه المستثمرين.
إدراج مناطق نشاطات صناعية في كل البلديات في حدّ ذاته يعتبر مكسبا اقتصاديا وموردا ماليا ذاتيا، لهذا فالتوجّه بإقامتها وتجسيدها ومنح امتيازات خاصة لجلب المستثمرين ورؤوس الأموال أصبح ضرورة يقتضيها الظرف الإقتصادي الحالي في البلاد، ومن شأن ذلك أن يحوّل البلديات إلى مناطق استقطاب تنموي واقتصادي وديموغرافي مستقبلا.

ضعف الميزانيات سبب الأزمة

يؤكّد، أستاذ كلية الإقتصاد وعلوم التسيير بجامعة الوادي البروفيسور مفيد عبد اللاوي لمجلة «الشعب الإقتصادي»، أنّ الدولة تسعى دائما وتبذل مجهودات كبيرة من أجل تحقيق التنمية المستدامة للوصول إلى مستوى مقبول من الرضا لدى مواطنيها، ويكون ذلك بتحقيق العدالة التنموية، وتوفير احتياجات المواطنين عن طريق الجماعات المحلية، ولعلّ أهمها البلدية التي تعتبر المفصل الأساسي الذي يكون ملامسا لما يحتاجه المواطن البسيط، وهو المرفق الرئيس الذي عليه توفير الاحتياجات المتعلقة بالحياة الكريمة، والتنمية المطلوبة، وفقا لمقتضيات الأدوار المخوّلة لها.
المشهد العام، حسب البروفيسور، يوحي بعدم الرضا على ما تقدّمه المجالس من خلال عدم مسايرتها للمتطلّبات الضرورية، التي تدخل ضمن المهام الرئيسية لها، ويعود ذلك في أغلب الأحيان إلى نقص الموارد المالية التي لا يمكنها بأي حال من الأحوال تلبية احتياجات كل المواطنين، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
ومن الضّروري قبل اعتماد أي مشروع، توفير مورده ومخصّصاته، وهو الأمر الذي يشكّل عائقا كبيرا بالنسبة للبلدية، إذ لا تتوافق مداخيلها مع النفقات المبرمجة، خاصة وأنّ المداخيل تأتي من ممتلكات هذه البلديات وكذلك الضرائب، في حين يتطلّب الواقع إنفاقا كبيراً من أجل تحقيق التنمية المحلية، وإنجاز المشاريع، وبناء مختلف المرافق، ناهيك عن متطلبات الكهرباء، ورفع القمامة، والإنارة العمومية وغيرها، يضيف المتحدث.

بين السياسة والإقتصاد

يتشكّل المجلس الشعبي البلدي بعد انتخابات محلية، يختار فيها الشّعب من يثق فيه من أجل تحقيق رغباته وتلبية احتياجاته، لهذا تكون غالبا الجوانب السياسية هي المسيطرة على المشهد، حسب البروفيسور عبد اللاوي، سواء كانت عن طريق برامج حزبية أو بقوائم حرّة، وهو الأمر الذي قد يكون عائقا في حالة عدم وجود الكفاءة والقدرة على التسيير، لأنّ عملية إدارة مرفق مهم كالبلدية يتطلّب دراية في التسيير والإدارة، ومعرفة بالشأن الاقتصادي والتنموي، وهو الأمر الغائب في عديد البلديات، التي قد تصل إلى حدّ الانسداد في عملية التسيير.

الإستثمار في المقوّمات

من أهم الأدوات النّاجحة في تسيير البلديات وترقيتها ـ حسب البروفيسور عبد اللاوي ـ إيجاد بدائل تنموية تمكّنها من جذب الطاقات الشبانية وترقية المهارات، ولا أفضل من الاستثمار في مقدرات كل منطقة وما تحتوي عليه من قيمة، فالقطاعات الراكدة كثيرة كالقطاعين السياحي والفلاحي، والقطاعات الإنتاجية والصناعية هي ملاذات اقتصادية ناجحة لو تستغل أحسن استغلال.
كما أوضح المحلل الإقتصادي، أنّ شحّ الموارد الاقتصادية أظهر اختلالات تنموية بشكل كبير، وقد تبرز عديد مظاهر اللاّعدالة في توزيع المشاريع - على قلتها - وهو الأمر الذي يؤثّر بشكل كبير على مناطق الظل لكونها مناطق بعيدة على مركز القرار، وعلى المشهد العام، في ظل وضع يؤمن كثيرا بما أسماه «البرستيج والزخرفة»، حتى ولو كانت على حساب المواطنين.

الشّـباب والمؤسّـسات النّـاشئة

يعتبر البروفيسور عبد اللاوي المورد البشري ركيزة أساسية للنهوض بأي اقتصاد، وذلك بالاستثمار فيه من خلال توفير مناخ مساعد للإبداع والابتكار، فالطّاقات الشبانية لاسيما أصحاب الشّهادات يتحيّنون الفرص من أجل إنجاز مشاريعهم الخاصة، ولهذا وجب توفير مناخ أعمال ملائم مع مرافقته بتحفيزات جبائية، مالية وقانونية، ممّا يجعل التوجّه نحو تحويل المشاريع المبتكرة إلى مؤسسات حقيقية خيار ناجح لشباب المناطق.
مناخ الأعمال، يضيف المتحدّث، من شأنه تخفيف العبء على الجماعات المحلية، من خلال توفير مناصب شغل من جهة، وأيضا تحقيق متطلّبات السّوق عن طريق توفير الاحتياجات والسلع، والخدمات التي يطلبها المواطن وبأسعار تنافسية من جهة أخرى، كما توفّر المؤسّسات قاعدة رئيسية لتحسين موارد البلدية من خلال زيادة الوعاء الضريبي، فسياسة التوسّع الضريبي الأفقي هي الحل الأنجع للتنمية المحلية المستدامة، عن طريق زيادة المؤسّسات الدافعة للضرائب على عكس التوسّع الضريبي العمودي، الذي يعتمد على زيادة الضّرائب كل مرة على المؤسّسات المتواجدة.

الشّـراكة مع القطاع الخاص

يؤكّد الخبير الإقتصادي مفيد عبد اللاوي، أنّ النّهوض بموارد البلدية لابد له من تفعيل بعض المواد في قانون البلدية وتغيير بعضها، ذلك أنه بات من الضروري الحديث عن مؤسسات بلدية - تابعة للبلدية - تقوم بالخدمات، بل والإنتاج لصالحها وحتى لصالح الآخرين من أجل تحقيق الأرباح، بهذا يمكن الموازنة بين جلب الموارد وتحقيق المنفعة العامة، وأيضا لم لا تفعيل الشراكة مع القطاع الخاص في تحقيق وتجسيد المشاريع التنموية؟ وبهذا يمكن تحقيق العلاقة - رابح رابح - بين القطاع العام والخاص.

الرّقمنة.. الحل الغائب

مع أنّ الدولة وضعت قدماً في مجال استخدام الرقمنة في بعض الخدمات، حسب البروفيسور عبد اللاوي، إلاّ أن خطوات المضي في هذا الطريق ثقيلة جدا مقارنة بمتطلّبات التنمية من جهة، وتطوّرات استخدام التكنولوجيا من جهة أخرى، ففي ظلّ انتشار وسائط التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية و»النت»، بات ضروريا استغلالها من طرف الجماعات المحلية من أجل تقديم الخدمات، وهو الأمر الذي يدر موارد مالية كبيرة للبلديات من خلال تقليص عديد النفقات، خاصة منها المتعلقة باستخدام الوثائق وطباعتها.

صادر عن مجلة الشعب الاقتصادية عدد08 سبتمبر 20021

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024