تبسة بين ثنائية الأمن والتّـنمية

240 مليار سنتيم لتنمية 10 بلديات حدوديــة

سمية عليان

  تترجم أرقام التّخصيصات المالية المرصودة في مختلف البرامج التّنموية بولاية تبسة، الأهمية القصوى التي توليها الدولة الجزائرية لانتشال سكان مناطق الظل بـ 10 بلديات حدودية مع الشّقيقة تونس من الفقر والتّهميش، ويظهر ذلك جليّا على مستوى بنود العمليات المالية المجدولة في مخطّطات البلدية للتنمية والبرامج القطاعية وصندوق التضامن للجماعات المحلية بعد أن أثبتت الأرقام عجز أغلبية هذه البلديات عن التكفل بمختلف انشغالات سكان الولاية رقم 12، التي تحصي كثافة تقترب من مليون نسمة، ثلثهم يقطنون بالبلديات الحدودية.

تضم ولاية تبسة 10 بلديات حدودية بكثافة سكانية تمثّل نسبة 33 بالمائة من إجمالي كثافة سكانية تجاوزت سقف 800 ألف نسمة، تتصدّرها بلدية بئر العاتر بأكثر من 96 ألف نسمة، ويتوزّع سكان الحدود على بلديات بئر العاتر، المريج، عين الزرقاء، الونزة، الكويف، الحويجبات، أم علي، صفصاف الوسرى، بكارية ونقرين بإجمالي عدد سكان تجاوز 262 ألف نسمة. وعاشت هذه البلديات منذ فجر الاستقلال حالة من التخلف مع عجز ميزانيات البلديات التي وقعت مجملها في صعوبات مالية بالرغم من الإصلاحات المتكرّرة لقانوني البلدية والولاية بغرض محاولة رفع قدرة تحصيل عائدات تسيير أملاكها العقارية المهملة بآلاف الهكتارات، فقد ظلّت مشاريع فك العزلة مع تباعد المشاتي وصعوبة التضاريس في هذه البلديات من الانشغالات الأولى لسكان هذه المناطق، إضافة إلى طرح إشكالية التموين بالماء الشروب وترقية السّقي الفلاحي، إذ لم تتجاوز المساحة الفلاحية المسقية في ولاية تبسة 30 بالمائة من مجموع 400 ألف هكتار صالحة للزّراعة، وتعمّقت هذه الأزمة في أغلبية مشاتي البلديات الحدودية التي دخل سكانها في رحلة معاناة أزلية لتوفير هذه المادة الحيوية بالتنقل لمسافات بعيدة وجلبها على ظهور الدواب، تعرّض لها الرّئيس عبد المجيد تبون في عدّة مناسبات أثناء خطاباته المتضّمنة تشخيص واقع سكان مناطق الظل بما فيها البلديات الحدودية، منتقدا الوضعية المزرية لاستعمال أدوات أكل عليها الدهر وشرب في نقل وتخزين المياه، ما يشكّل خطرا كبيرا في انتشار أمراض فتّاكة.
وهو نفس الوضع الذي تعيشه قطاعات أخرى في صورة التربية أين تشهد المدارس في المناطق الريفية والحضرية والمتوسطات والثانويات عدم توفّر مختلف الخدمات أو ضعفها، في حين تبقى العزلة المفروضة على البلديات الحدودية بولاية تبسة مع صعوبة تضارسها وتباعد مشاتيها عن بعضها البعض تصطدم بعدم عدالة وضعف برامج رد الاعتبار، وصيانة وإنجاز أجزاء الطرق الوطنية والولائية والبلدية، وفتح المسالك الريفية للمساعدة على استقرار السكان.
وفي ذات السياق، يبقى ضعف أداء القطاع الصحي النقطة السّوداء بالولاية، فقد هجر الأطباء الأخصائيّون المؤسّسة الاستشفائية العمومية الدكتور تيجاني هدام ببئر العاتر بعدما كانت منذ 10 سنوات القبلة المفضّلة للمرضى من داخل وخارج الولاية في جميع التّخصّصات، وضعف تأطير العيادات المتعدّدة الخدمات في البلديات الأخرى سيما بنقرين، الكويف، عين الزرقاء والمريج، وحتى المؤسّسة الاستشفائية العمومية الدكتور فؤاد بوغرارة بالمدينة المنجمية الونزة ظلّت تشتكي ضعف الخدمات في مختلف الأجنحة، وتكريس وضعية غلق عنبر الجراحة العامة وصعوبات أخرى في توفير أطباء أمراض النساء والتوليد، ما فتح الباب لرفع عدد التحويلات داخل الولاية وخارجها، وضغط مستمر على مستشفى الأم والطفل خالدي عبد العزيز بعاصمة الولاية.
 تحويل الفوسفات..الأمل
 ظلّت وتيرة الاحتجاجات منذ أكثر من 10 سنوات ترتفع للمطالبة بفتح مناصب شغل في هذه البلديات الحدودية، قصد استبعاد شبهة وتهمة ممارسة نشاط التّهريب بشكل إرادي في ظل ضعف مستوى الاستثمار بمنجم الحديد بالونزة ومنجم الفوسفات ببئر العاتر، حيث تراجع عدد العمال بالمنجمين بنسبة أكثر من 50 بالمئة مقارنة بـ 20 سنة الأخيرة، وظلّت مستويات الإدماج في هذه القطاعات المدرّة للعملة الصّعبة على خزينة الدولة ضعيفة، ولا تلبّي حاجيات جحافل البطالين من الفئة النّشطة والقادرة على العمل، على أمل أن تعرف المناطق الحدودية استحداث أكثر من 5 آلاف منصب شغل في مرحلة أولى بعد إتمام إجراءات الشّراكة الأجنبية في أكبر مشروع على المستوى الوطني لاستخراج وتحويل الفوسفات. وتتولّى إنجازه وحدات بسكيكدة، تبسة وسوق أهراس لإنتاج الأسمدة ومختلف مشتقات الفوسفات الموجّهة للقطاعين الصّناعي والفلاحي، غير أنّ الآفاق المستقبلية لمنجم الحدبة ببئر العاتر لا تزال في الخطوات الأولى بتهيئة المرافق ونقل المياه من آبار بلدية نقرين. ورفعت الحكومة الجزائرية تحدّي البحث عن شريك أجنبي آخر بعدما تخلّت الشّركة الصّينية العملاقة عن المساهمة في هذا المشروع لتستمر جهود الإنجاز وتطلّعات اقتحام الأسواق العالمية، وفي تحويل مشتقات الفوسفات من طرف الدولة الجزائرية سيما بعد الدّراسات الإيجابية لنوعية المنتجات والاحتياطي الضخم للإنتاج لأكثر من عشرين سنة.
252 عملية تنموية في مخطّـطات البلدية
 بغرض رفع التّخصيصات المالية لمجهودات الدولة في تنمية المناطق الحدودية، جاءت مختلف البرامج التنموية لتصب في هذا الاتجاه بداية من 2019 إلى يومنا هذا، حيث تمّ رصد غلاف مالي معتبر في جدول مخطّطات البلدية للتنمية للفترة بين 2016 و2021 بقيمة 240.37 مليار سنتيم لمجموع 252 عملية موزّعة على مختلف القطاعات، استفادت منها بلدية بئر العاتر الحدودية من حصّة الأسد بـ 26 عملية بأكثر من 38 مليار سنتيم، تليها بلدية أم علي بـ 35 مشروعا، وبمبلغ فاق 28 مليار سنتيم، في حين استفادت بلدية بكارية من 13.8 مليار سنتيم لإنجاز 18 مشروعا، وقد أخذت مشاريع التهيئة الحضرية الحصة الأكبر بـ 57.7 مليار سنتيم، سجّلت لفائدة 37 مشروعا. وتعد مشاريع تزويد المناطق الحدودية بالمياه الصالحة للشرب 75 مشروعا، وبمبلغ 48.6 مليار سنتيم من أولوية المشاريع التي تمّ خلالها مد شبكات المياه الصالحة للشرب لعدد معتبر من السكان، في حين تمّ رصد في إطار البرامج القطاعية التي استفادت منها المنطقة كمشاريع كبرى 85 مليار سنتيم لإعادة الاعتبار لشبكة التطهير بمدينة بئر العاتر، وإنجاز ثانوية بكل تجهيزاتها ببلدية الونزة بـ 39 مليار سنتيم، وإنجاز طريق اجتنابي بذات البلدية بـ 60 مليار سنتيم، وهذه المشاريع وغيرها من شأنها تحسين الظّروف المعيشية لقاطني هذه المناطق.
مشاريع منجزة ببلدية الكويف
 يكشف الهادي فارس رئيس بلدية الكويف لمجلة «التنمية المحلية»، عن تسجيل وانتهاء الأشغال في عمليتين ضمن المخطّط البلدي للتنمية سنة 2020، بمشروع أوّل لمنطقة رأس لعيون يتعلّق بتعميم شبكة الصرف الصحي ورد الاعتبار للمتدهورة منها، في حين تضمّنت العملية الثانية فتح مسالك ريفية لفك العزلة عن مشاتي بلغيث قصد الولوج لمقر البلدية أو المناطق الحضرية الأخرى. وعرفت سنة 2021 تخصيص 5.4 مليار سنتيم لإنجاز مسلك ريفي لمشاتي النصلة و3 شبكات تطهير أخرى برأس لعيون، وجّه جزء من هذا المبلغ لتثبيت صهاريح غاز البروبان لفائدة تجمّعات سكنية ريفية. وشملت العملية أكبر عدد من المشاتي مع تحري التوازن والعدالة في التوزيع، وهي عملية ستخلّص سكان المناطق الحدودية من معاناة التنقل لجلب قارورات غاز البوتان سيما في فصل الشتاء، مع تسجيل عدة عمليات للربط بشبكة الكهرباء في الأرياف والمناطق الحضرية، وتمّ الانتهاء من أشغال العيادة المتعدّدة الخدمات في حي لقار بمشروع قطاعي للصحة والسكان بنسبة 100 بالمائة في انتظار تجهيزه.
ويقول رئيس البلدية إنّه تمّ اقتراح عملية أخرى متعلقة بهذا المشروع ظلّت مطلبا ملحّا للسكان، ويتعلق الأمر بالطريق المؤدي للعيادة انطلاقا من جميع أحياء المدينة، في حين سجّل 12 طلبا لأصحاب الآبار الفلاحية بالمناطق الحدودية بالبلدية، استفاد منها 5 فلاحين من رخص حفر الآبار، ما يفتح آفاقا واسعة لتوسيع المساحة الفلاحية المسقية في البلدية والولاية ككل.
عصابات تهريب الوقود تحت الحصار
    دفع القرار الأخير للدولة بسحب البنزين العادي والممتاز عصابات التهريب لتقليص حجم تداول تهريب الوقود باستثناء المازوت بالعودة التدريجية لموازين اختلال الأسعار بين تونس والجزائر بالرغم من اللجوء لاختيار مسالك ريفية أخرى، بعد أن تمّ حفر خنادق كبيرة عبر المسالك القديمة على أعماق يصعب الولوج إليها، وتستخدم حاليا طرق وطنية في تهريب الوقود ومواد أخرى لتنحرف على مستوى حدود ولاية سوق أهراس تجنّبا للحصار الأمني، فحتى منطقة بودرياس المقابلة لجبل الشعانبي من بلدية الحويجبات أصبح التحرك فيها يخضع لمراقبة أمنية مشدّدة عدا على أهالي وسكان المنطقة، وتحت إجراءات تفتيش مستمرّة، وهي الوقائع التي تؤكّدها حقيقة المحجوزات الكبيرة من المواد المهرّبة التي تجاوزت 40 مليار سنتيم في السداسي الأول 2013 من طرف كل الأجهزة الأمنية المكلفة بمراقبة الحدود، في حين انخفضت قضايا التهريب في المحاكم. في مقابل ذلك تعد الوضعية بعد غلق المعابر وكل منافذ التهريب في تصريحات للمهرّبين كارثية من الجانبين، فقد توقّفت حركة التّسوّق للعائلات التونسية في تبسة، سطيف وعين الفكرون بعدما كانت مصدر قوت لمواطني الشّريط الحدودي من الجانبين.
 رحلات علاج عن طريق التّـهريب
 عرفت المعابر الحدودية الأربعة بتبسة على مرّ السّنوات حركة دخول وخروج من وإلى الجارة تونس بشكل مكثّف ويومي، وفي الوقت الذي يقصد معظم الجزائريّين تونس للعلاج في مستشفياتها المعروفة بالدقة والاحترافية في علاج مختلف الأمراض، يدخل التونسيّون إلى الولايات المجاورة للشريط الحدودية وصولا إلى ولاية قسنطينة لاقتناء مختلف المواد الغذائية والألبسة ومواد التجميل وغيرها، وهي الحركة التي عرفت توقّفا شبه تام بعد غلق الحدود والمعابر بسبب تفشي الوباء، لكن هذا لم يمنع حج الجزائريين في رحلة علاج ذهاب وعودة نحو الشقيقة تونس «تهريبا» عبر سيارات التهريب، لعلاج حالات صعبة لا تتحمّل انتظار فتح الحدود.
وبعد تهريب الوقود والمهلوسات ومختلف المواد، فرض فيروس كورونا واقعا جديدا ومرعبا طال «تهريب الأشخاص» نحو تونس عبر ولاية تبسة، فبعد اتخاذ السلطات قرار غلق الحدود البرية للحد من تفشي الوباء، تمّ تعليق جميع الرّحلات الخارجية، وهو ما لم تتحمّله فئة من سكان الولايات الشرقية خاصة المرضى منهم، والذين اعتادوا على العلاج في العيادات الطبية التونسية، الأمر الذي دفع بالعديد من هؤلاء المرضى وأصحاب الحالات الحرجة إلى السفر بطريقة غير شرعية لاستكمال البرنامج العلاجي الذي لا يستلزم التأخير أكثر من اللازم، بعد تعطّله خلال فترة انتظار الفرج، لتصبح بذلك هذه التجارة هي سيدة السوق تحت مقولة «للضّرورة أحكام».
وفي مقابلتنا للعديد من الأشخاص الذين خاضوا تجربة السفر بطريقة غير شرعية، وفي إجابتهم عن سبب ذلك، كشف لنا هؤلاء، أنّ العديد من المرضى الذين لديهم مواعيد جد مهمة في طب العيون وغيرها من الأمراض الخطيرة، اضطروا إلى التنقل إلى العيادات في تونس بطريقة غير شرعية، ومنهم من أجرى حتى عمليات جراحية وبعد فترة النقاهة والشفاء عاد إلى الجزائر بذات الطريقة، وهذا لسبب رئيسي (حسبهم) وهو غلاء الفحوصات والتحاليل والأشعة دون القدرة على تشخيص الأمراض محليا، مؤكّدين في ذات السياق، أنهم يضطرون للتنقل للعيادات التونسية بالرغم من غلاء الأسعار وحتى غلاء سعر التنقل إليها، نظرا للإحترافية والعالمية والنتائج جد الفعالة في التشخيص والعلاج، فالكثير من الحالات المستعصية حسبهم في الجزائر، وجد لها أطبّاء تونسيون العلاج.
من جهة أخرى، أكّد أحد الشباب الجزائريّين العالقين في تونس أنّه يضطر لزيارة عائلته المقيمة بتبسة كل ما سمحت له الفرصة بطريقة غير شرعية، كما قام في إحدى المرات بأخذ والده للعلاج في تونس بعد سوء حالته وإرجاعه مرة أخرى، ما كوّن له علاقات مع المهرّبين وأصبح يتنقّل معهم دون مقابل، كما يفعل الكثير من الجزائريّين الذين لا يملكون ثمن التنقل من وإلى الجارة تونس.
أدوية غير متوفّـرة تدخل عن طريق التّـهريب
  لجأ الكثير من المرضى إلى المهرّبين للحصول على أدويتهم غير المتوفّرة بالسّوق المحلية، ومن أجل ذلك ما عليهم سوى تقديم الوصفة الطبية ومبلغ من المال عادة ما يكون ثمن الأدوية لأحد المهرّبين، الذي يعطيها لشخص آخر في الجهة الأخرى من الحدود خلال إحدى عمليات تبادل السلع المهرّبة ليرجع الآخر بالدواء في المرة المقبلة.
يبرّر محترفو تجارة التهريب نشاطهم، بتفاقم معدّلات الفقر والبطالة نتيجة استمرار الأزمة الصحية الناجمة عن تفشي وباء كورونا واستمرار غلق الحدود، وارتفاع مؤشّر الإصابة بفيروس كورونا في تونس. ويذكر العارفون بقطاع الصحة بتبسة أنّ سبب ارتفاع عدد الإصابات بالولاية راجع إلى الإصابات بالعدوى بسبب عمليات التّهريب، حيث يتجوّل عدد من التّونسيّين بكل أريحية في الشّوارع التبسية ممّا ينقل العدوى بين السكان، وهذا ما أدّى إلى الارتفاع المتزايد لعدد الإصابات في الولاية بالمقارنة مع الولايات الأخرى.
اقتراح أقطاب حضرية جديدة بالمناطق الحدودية
  تقترح السّلطات المحلية إنشاء 5 أقطاب حضرية جديدة في البلديات الحدودية في إطار تنشيط هذه المناطق، وكهدف استراتيجي ومستقبلي على المدى الطويل لتحسين الواجهة الدولية للجزائر على الحدود الشرقية، وجعلها قبلة للسياح من الشرق الأوسط، بميزانية 210 مليار سنتيم وحصّة 42 مليار سنتيم للقطب الواحد، وتتوزّع الأقطاب الخمسة على مناطق عين سيدي صالح بالونزة، بتيتة ببئر العاتر، رأس لعيون بالكويف، بوشبكة بالحويجبات والمريج.
عن مجلة التنمية المحلية عدد 07

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024