تعتبر العديد من القصور الصّحراوية في منطقة الجنوب الشرقي، من بين الشّواهد التاريخية والثقافية على ما قدّمه الإنسان في هذه المناطق، وعلى الرغم من الوضع المتدهور الذي تشهده هذه البنايات، بسبب قِدمها وتأثير المناخ عليها، وكذا غياب برامج جادّة من الجهات المعنية لتمكينها من استعادة وجهها المشرق، والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، إلاّ أن بقاياها مازالت تملأ الأماكن لترسم مجتمعة لوحات فنية تراثية تروي تاريخا لا يغادر الأذهان.
من بين هذه القصور التي كانت أحد التّحف المعمارية المتفرّدة في طرازها، قصر تماسين وهو قصر يقع على بعد 10 كم تقريبا من ولاية تقرت، ويعد من بين القصور الكثيرة التي شيّدت في إقليم وادي ريغ، الذي تشير بعض القراءات إلى أنّ طبيعة مناخه ووفرة الماء والكلأ، جعل منه محطّة جاذبة للسكان، فقد تزاحمت عليه العديد من الأجناس والقبائل، وبرز هذا من خلال التّجمّعات السكانية التي مرّت عليها الحقبات الزمنية، والتي لازالت بعضها واقفة وقفة عزة وشموخ، تحكي تاريخ الشّعوب التي عاشت فيها، حيث انتشرت القصور على طول الإقليم، على غرار قصور مستاوة، تماسين، النزلة، تمرته ووغلانة.
وبالعودة إلى واحة تماسين العريقة بتاريخها وتراثها الكبير، نجد أهم ما يميّزها هي البحيرة والقصر القديم الذي يرمز إلى تاريخ وموروث حضاري كبير، الذي تأسّس سنة 782 ميلادي. يشير المهتمون بتاريخ المنطقة إلى أنّ موقع القصر قبل نشأته، كان مكانا لاستراحة القوافل، ولأنّ تماسين شكّلت تاريخيا نقطة تقاطع طريق الحج من الأندلس نحو البقاع المقدّسة، وطريق القمح من رأس الميعاد إلى بلاد النوبة «السودان حاليا»، حيث كان المسافرون يتوقّفون للاستراحة في منطقة السوق حاليا التي يوجد بها مرفأ مائي من أجل تأمين القوافل واستبدال الدواب والتزود بالمؤن، فقد كانت بذلك محطّة مهمة جدا للعديد من القبائل، منهم الزنوج، اليهود، الزيانيين وبني ميزاب وغيرهم، وهذا ما يفسّر اختلاف ثقافات المعمار في القصر القديم.
ويعد قصر تماسين من بين أنماط العمارة الإسلامية التي تندرج تحت نمط المدينة الإسلامية العريقة على غرار حجمها، فالقصر أقل حجما من القصبة ويرتفع على هضبة، الجزء الشرقي منها طبيعي بينما الجزء الغربي منها، رفع بفعل الإنسان استنادا على جذوع النخيل من أجل تفادي صعود المياه على مساحة 12 هكتارا بربوة ارتفاعها 8 أمتار، تطل على واحات النخيل الجهات الأربع، كما أحيط القصر بسور به خمسة أبواب، والتي تصد خمسة أحياء هي باب بلايكة، باب شحيمة، باب السوق، باب علا انجروة وباب الخوخة. ومن أجل حماية القصر من مشكل صعود المياه وكذلك الهجمات الخارجية، تمّت إحاطة كل السور بخندق يصل عرضه إلى 6 أمتار.
القصر القديم
تقول المهندسة المختصّة في العمارة المعمارية والعمرانية والمتابعة التقنية والمتهمة بالتراث المحلي للمنطقة، صبرينة لبسيس، لمجلة «التنمية المحلية»، إنّ العديد من العوامل أثّرت على عمارة القصر القديم، حيث كان للمناخ والطبيعة الصحراوية للمنطقة وعادات وتقاليد سكان المنطقة الأثر الكبير في عمارة المنطقة، من خلال استغلال مواد البناء المحلية وكذلك نمط البناء المتراص والمتداخل والشوارع المغطاة ووجهة الحوش في المسكن.
أمّا عن وقوع تماسين في نقطة تلاقي طريقي الحج والقمح، فقد ساهم في تنوّع التركيبة السكانية التي أبرزت عدّة ثقافات في البناء وأنماط عديدة في الزخرفة وتسميات متعدّدة المجالات، فمساكن اليهود اختلفت عن الإباضيّين وبرزت الأبنية الريغية بصفة مغايرة، ومع ذلك منحتها مواد البناء المحلية نمطا موحّدا، كما نجد من ساهم في جلب مواد البناء من مناطق أخرى، ومثال ذلك مسجد سيدي عبد الله المغراوي، الذي جمع ثلاث ثقافات معمارية فمواد البناء تونسية والمعماري مغربي أما الموقع فهو قصر تماسين.
وساهم الدين الإسلامي في تسطير قانون الحرمة، ونظام التدرج في التنقل بين البيوت، فنجد التدرج من الساحة إلى الشارع، ثم إلى الدروب المختلفة التي تنفذ إلى البيوت، كما منح التشريع الإسلامي إيجابية التجاور حسب العائلات، ليسهل على النساء حرية التنقل بين الجيران دون ولوج الغرباء.
أما حكم بني جلاب، فقد أبرز قانون الطبقية والفصل في طبقات المجتمع بين الغني والفقير، وقسّمت الأحياء وبرز حي مينج الذي جمع نخبة من العلماء وكبار التجّار والمرابطين الفلاحين، بينما لم يسجّل عهد الاستعمار الفرنسي أي تأثير على معمار قصر تماسين، ولا وجود للطراز الاستعماري إلا في مسكن واحد.
معالم وآثار
تنوّع الثّقافات ساهم أيضا وبشكل كبير في تنوّع المعالم الأثرية في القصر، فنجد المساجد والأضرحة والساحات والممرّات المغطاة والبيوت الكبيرة والمحلات والدكاكين. وعلى ذكر المساجد نجد به 06 مساجد أبرزها:
المئذنة (الصومعة) التي تتوسّط القصر: وهي مئذنة عتيقة يرجع تاريخ بنائها إلى عام 1192، ويبلغ ارتفاعها 21 مترا وعرض قاعدتها 4 أمتار وعمق قاعدتها 10 أمتار، وقد بناها محمد الفاسي المغربي، تحت إشراف مؤسّس المسجد المسمّى الحاج عبد الله المغراوي، أما المواد التي بنيت بها، فقد جلبت من أماكن مختلفة، فالجبس من موقع الحجيرة حاليا والأعمدة والآجر من منطقة الجريد بتونس، وقد نقلت هذه المواد كلّها على ظهور الإبل ما عدا الصخور فهي من البلدة، وقد تمّ بناؤها سنة 1196م.
مسجد سيدي الحاج عبد الله المغراوي: بني هذا المسجد من طرف الحاج عبد الله المغراوي، من منطقة مغراوة بالمغرب الأقصى وذلك سنة 1192م، وإليه تنسب تسمية المسجد، ومن مميزات هذا المعلم الأثري، المئذنة التي تمّ التطرّق إليها من ذي قبل، ويتكوّن المسجد من بيت لتدريس القرآن، بيت الإمام، مقام صغير، خزانة أثرية وغيرها.
المسجد الكبير (العتيق) أو الجامع الكبير بتماسين: وهو أكبر مسجد تقام به صلاة الجمعة، ويحوي مقام الصلاة على 45 قبة وبه منبر تاريخي، يعد من التحف النادرة، تتقدّم القبب الكبرى. ويعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 613 هجري، وقد كان المسجد في بادئ الأمر ضيقا، لا يزيد طوله على عشرة أمتار، ثم قام السكان بشراء بعض المنازل المحيطة به، فأضيفت إليه وأعيد بناؤه سنة 1913م، وكان المشرف عليه سيدي امحمد بن سيدي الحاج علي التجاني التماسيني. أما المسؤول عن العمل، فهو السيد الحاج محمد السبع المعروف بـ»بابا عيشة»، من مميزاته أنه يتوسّط القصر ويأوي إليه عدد كبير من المصلين، كما يحوي كذلك منبرا تاريخيا.
مسجد القبة الخضراء: وهو من المساجد الأثرية بتماسين، وتأسّس من طرف الحاج علي التماسيني بن الحاج عيسى بمساعدة بعض الأقارب والأصحاب وسكان البلدة، أما عن أصل التسمية، فمردّها إلى القبة التي تعلو المسجد والمسطحة بالقرميد الأخضر، وكان هذا المسجد يقوم بمهمة تعليمية تربوية أكثر منها تعبّدية، وذلك لأنه كان قبلة لطلاب العلم، حيث يتعلّمون فيه القرآن ومبادئ الفقه والتفسير.
مسجد باعيسى: بالرغم من غياب المراجع التاريخية التي تحدّد التاريخ المحدد لبناء هذا المسجد، إلا أن جل الآراء تجمع على أنه يعد من أقدم المساجد في قصر تماسين القديم، ودليلهم في ذلك هو كون تسمية المسجد باعيسى تسمية ميزابية، والمسجد كان يحوي على مئذنة بنيت على الطراز الإباضي، ويحوي المسجد على 21 قبة.
مسكن القصر: نجد العديد من المساكن العريقة التي تحفظ تاريخ وذكريات أناس عاشوا وارتحلوا، تروي لنا أحداث ووقائع لا يمكن لها أن تتكرّر، فنجد مسكن بابا عيشة، مسكن عائلة بوبكري السي الحبيب، مسكن الطالب بدة، مسكن عائلة بن قانه، مسكن الطالب العيد قويديري، إلى جانب العديد من المساكن التي مازالت شاهدة على تاريخ المنطقة.
تهديد مستمر بالاندثار
قصر تماسين الذي لا يزال شاهدا على حضارة قديمة تجلّت يوما ما، على الرغم من تدهور جزء كبير من مكوّناته، إلا أن طابعه العمراني الفريد يعكس عبقرية الرجل الصحراوي في تشييد صروح كهذه في مناطق صحراوية وبمواد بسيطة، ولكن بأسلوب وذوق عمراني رفيع ومدروس، يفي بالغرض المنجز لأجله فيما تعلّق بوظيفته الدفاعية كحصن منيع أو بتلطيف الجو مع تعاقب الفصول.
وعلى غرار القيمة التاريخية التي يعكسها القصر، فهو إرث ثقافي وتراثي كبير لتعريف الأجيال الناشئة بتاريخهم وثقافتهم وانتمائهم الحضاري، إلا أن وضعيته الحالية تدعو إلى ضرورة التدخل من أجل تهيئته وإعادة الاعتبار له، كونه أحد أهم المعالم الأثرية المصنّفة كقطاع محفوظ منذ جوان من سنة 2013، فالوضعية التي آل إليها، خاصة ما تعلّق بسكناته وكذا مساجده كمسجد سيدي علي التماسيني «القبة الخضراء»، الذي يعود إلى سنة 1204 ميلادي، والذي انهار جزء كبير منه، وكذا مسجد باعيسى الذي لا تزال تقام به الصلوات الخمس، يعكس حجم التدهور الذي وصل إليه، سواء بفعل عوامل المناخ القاسي المميز للمنطقة الصحراوية من جهة أو تدخلات الإنسان التي جعلته عرضة للانهيار من جهة أخرى، كما ذكرت المهندسة صبرينة لبسيس.
أدرجت عديد العمليات لإعادة تأهيل هذا المعلم العمراني والتراثي الهام، حيث جرى في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية رصد غلاف مالي يقدّر بـ80 ألف دولار للقيام ببعض أشغال الترميم التي مسّت الفضاء العمراني التاريخي.
وفي السياق ذاته، تمّ بناء مسكن تقليدي بداخل القصر، وهو عبارة عن بيت نموذجي تمّ تشييده بمواد بناء محلية مع مراعاة النمط المعماري القديم للقصر كالأقواس والقباب التي تميّز القصور الصحراوية القديمة، ليكون نموذجا معماريا في كل عملية تهدف إلى ترميم وإعادة إنجاز السكنات المتواجدة داخل القصر، فيما خصّص له نهاية سنة 2006 غلاف مالي يناهز 10 ملايين دج، في إطار صندوق تطوير مناطق الجنوب للقيام بتدخّلات عاجلة لإعادة الاعتبار للقصر، كما مسّت هذه التدخلات إنجاز دراسة تقنية حول القصر وتنظيفه، وفتح المسالك والممرات داخله، بالإضافة إلى ترميم عدد من المعالم الأثرية المتواجدة به، خاصة المساجد على غرار الصومعة ومسجد سيدي علي التماسيني «جامع القبة الخضراء».
وقد استفاد هذا المعلم التاريخي الهام من إعادة التقييم المالي لعملية إنجاز دراسة ومخطّط دائم لحفظ وإصلاح القطاع المحفوظ نهاية سنة 2015، ما سيسمح بإعداد إستراتيجية شاملة لحمايته وترميمه كي يظل شاهدا على تاريخ المنطقة وعادات وتقاليد سكانها، وإدراجه ضمن الحركية التنموية الاجتماعية والاقتصادية والسياحية للمنطقة.
وعلى ضوء هذا كلّه، تطالب الجمعيات المهتمّة بحماية التراث المحلي الجهات المختصّة مثل وزارة الثقافة والسلطات المحلية بالالتفات إلى وضعية القصر وإعادة الاعتبار لهذا المعلم التاريخي، الذي من شأنه النهوض بالقطاع السياحي للمنطقة.
ويبقى دور السكان الأصليّين للقصر كما أكّدت المهندسة صبرينة لبسيس، مهمّا للحفاظ على القيمة المعنوية لهذا المعلم، من خلال إعادة بعث الروح لمساكنهم عبر برنامج موحّد يحافظون فيه على تقنيات البناء التقليدية التي من شأنها المحافظة على الطابع المعماري المحلي، مشيرة إلى أنّه ينتظر من مديرية التعمير إصدار دفتر شروط بالتنسيق مع الجهات المختصة، يضمن الحفاظ على هذا الموروث المعماري.
من جهته، يعتبر خميسي ذباح وهو من بين المهتمّين بالتراث المحلي لولاية تقرت، أنّ هذا القصر المهيب مع «القبة الخضراء» ومئذنته الشّهيرة، أصبح في حال يرثى لها منذ أواخر القرن العشرين.
وقال المتحدّث، إنّ هذا القصر استفاد من أغلفة مالية للتدخلات المستعجلة التي قامت بها وزارة الثقافة بهدف الحفاظ عليه كموقع أثري مصنّف وتراث وطني، حيث ركّزت هذه التدخلات بشكل خاص على إجراء دراسة فنية بفتح مسالك مؤدية للقصر وترميم ما يجب ترميمه، إلا أن ذلك البرنامج لم يصل إلى مبتغاه، وبقي دون تطلّعات المهتمين بشأنه، وهذا ما يبرز جليّا من خلال ما يشهده حاليا من تدهور مستمر.
كما أشار إلى أنّ البيوت المجاورة للقصر، والتي بُنيت خارج سوره أضحت هي الأخرى مهدّدة بالانهيار، ممّا دفع الساكنة للتساؤل عن جدوى ما سبق، وعن التجاهل الذي يشهده حاليا هذا الصرح التاريخي، الذي ظلّ صامدا لقرون في مواجهة تأثيرات الزمن، حيث تجمع آراء السّاكنة هنا على أنّ الإجراءات المستعجلة التي اتّخذت من طرف الوزارة، وكذا الأموال الضخمة التي رصدت سابقا لإعادة إحيائه، ظلّت غير فعّالة، فلا ذلك شجّع على عودة «القصوريّين» إلى منازلهم، ولا رُمّمت القبة الخضراء كما ينبغي، فكل شيء آيل للسّقوط ومازال مهدّدا بالاندثار على غرار عدّة معالم في منطقة وادي ريغ.
صدر في مجلة التنمية المحلية
العدد 07