قديشة المكان والتّاريخ، ليست أرضا مجهولة أو بقعة مطمورة على الأرض، بل هي قطعة من الماضي الجميل، وروح مهجورة أضحت كالمقابر لأنّ المكان فقد البريق التّقليدي الذي كان فيه، وأصبح ظلاّ منسيا رغم عمق جذوره في الأرض، فالمنطقة كانت معمورة بعشرات العائلات التي عاشت على بساط ترابها منذ قرون، ثم رحلت جُلّها بعد الاستقلال إلى المدينة، حيث أغرّتها إمكانيات الحياة الحديثة من نقل وطرق ومركز صحي وغيرها لتغادر التّاريخ والجغرافيا.
العارفون بالأدب يدركون بلا ريب، أنّ الشّاعر والكاتب رابح ظريف، عاد للتّراث الشّعبي الخاص بالمنطقة، واستنطق الأحداث والتواريخ، ليُخرج من تلك النوستالجيا كلمات من قلب حياة الأجداد وأسرار أرواحهم الإنسانية. “قديشة” الرّواية التي حاولت أن تحكي الحقيقة، بين ما يخسره الإنسان من عوالم روحية خفيّة، أمام الحداثة والتكنولوجيا، التي قتلت فينا جماليات الروح وسرقت منّا التّاريخ المعبّق بالذّكريات المفعمة بالشّوق والجماليات.
يقول الكاتب في مقطع من الرّواية “تتّكئ قديشة على أعلى تلّة شرق الحضنة، مقابلة بذلك السبخة، التي امتدّت على طول طرفها الجنوبي..”، ثم يتحدّث بعد ذلك عن “العارم” و«أحميدة القصاب” و«الشاوش” وغيرهم، وعن الشّاب الذي يحملق في فكر الشّيخ باحثا عن سرّه، بينما ترفض خطيبته جلوسه معه لما يلتصق به من رائحة “نتنة”، وتخيّره في مرحلة تالية بين الشيخ والهجران، فيقرّر “الرّاوي أن يهجر كل الوسائط الحديثة كالهاتف المحمول، ويهجر خطيبته من أجل فهم هذا الشيخ. ومن خلال الرّسائل المتبادلة بينهما، يظهر حجم ما يخسره الإنسان على مستوى المشاعر والأحاسيس بالاعتماد على التكنولوجيا في كل مناحي حياته”.في المنطقة مقام قديشة المشتق من قديسة، والذي تحوّل لمزار، تتوارد الرّوايات أنّه لإحدى الأخوات الثلاث، اللاّئي هاجرن كل واحدة منهن إلى وجهة لتصبح مدافنهن معلما، فالروّاة يتحدّثون عن أنّ قديشة أخت منصورة التي يتواجد لها مقام، وسميت على اسمها بلدية المنصورة بولاية برج بوعريريج، بالإضافة لـ لالا قوراية بمنطقة القبائل، بينما لا يوجد أي سند تاريخي يؤكد ذلك.
عند مقام قديشة التي تتشارك في ملكيتها ثلاث بلديات تابعة لولاية المسيلة، وهي عين الخضراء، برهوم وأولاد عدي القبالة، كانت تقام “الزرد” وحلق “الدراويش” التي لا يزال لها روّادها.
أرض شاسعة..مهجورة
في قديشة لا تزال معالم السّكينة بادية للعيان، يمكن أن تسمع جهاز تنفسّك بشكل أفضل، ويمكنك أن تتحرّر من الضّوضاء بكل صوفية لترى الهدوء أمامك ماثلا في قدسية المكان..حاولنا استطلاع آراء بعض السكان الذين يعدّون على أصابع اليد الواحدة، ويتناثرون في مختلف زوايا قديشة...ومنهم عمّي “السعيد - د« الذي يعكف على “قول زوّار المنطقة” منذ عشرات السنين كالرّهبان على تلك الأرض، وسط أشجار الزيتون ونشاطات فلاحية أخرى نجح في الوقوف عليها وجعلها هوايته المفضّلة رغم أنّها لا تدر عليه أرباحا كثيرة، حيث تجلّى مطلبه الأساسي في مرافق الحياة من كهرباء ومسالك معبّدة ليصل ويعيش في قديسته “قديشة” بكل راحة وسهولة..
بدوره “سليم - ر« وإخوته، وهو مدير مجمّع مدرسي، والذي عاد لأرض آبائه بحثا عن جذور الأرض ومقتفيا آثار الأجداد، زرع أشجار الزّيتون التي يسقيها من خلال جلب خزانات مياه، ويوفّر لها الماء دوريا بأزيد من 1000 دج للخزّان الواحد، حيث طالب هذا الأخير من السّلطات العمومية بالولاية بضرورة الالتفات إليهم من خلال توفير الكهرباء الرّيفية، وتسهيل منح رخص حفر آبار ارتوازية، أو دعمهم لإنشاء حواجز مائية مؤقّتا ريثما تتوفّر حلول أخرى.
وفي سياق متّصل، كشف لمجلة “التنمية المحلية”، “زيتوني - ق«، الذي نشأ فلاّحا في هذه الأرض التي تركها له والده، وتبلغ مساحتها 117 هكتار، أنه مازال وفيّا لتاريخ آبائه وأجداده، حيث مازال يتذكّر الأحداث التي عاشها والرّوايات التي سمعها عن والده “سي أحمد بن لمبارك” رحمة الله عليه، الذي كان يربّي فيها قطيعا من الأغنام والماعز، وعددا من روؤس الإبل وحصانا يمتطيه، يقوم من خلالهم برحلة الشتاء والصيف من منطقة الحضنة صيفا إلى منطقة التل التي فقد فيه ابنه البكر “الخير - ق« بعين الكبيرة بولاية سطيف، خلال الهجمات الإرهابية الفرنسية على مظاهرات الشّعب الجزائري في 8 ماي 1945.
قال زيتوني في ذات الصدد، إنّ أرضه لا تزال مهملة وأنّه عاجز عن استصلاحها أو الوقوف عليها لعدم وجود التوجيه والإرشاد من طرف المصالح الفلاحية، حيث وضع برنامجا واستراتيجية عمل لتوجيه الفلاّحين وتكوينهم عمليا حول كيفية استغلال أراضيهم، فضلا عن الوقوف على ظروفهم ومنحهم الإمكانيات الفلاحية من ماشية ونحل، وقدرات لوجيستية لاستغلال هاته الأراضي الشّاسعة التي تصلح للرعي والزيتون وزراعة المشمش، بالإضافة إلى إقامة الحواجز المائية للتّغلب على مشكلة انعدام المياه بالمنطقة.
بالمقابل “صابر - د«، وهو شاب في الأربعينيات من العمر يملك منزلا في المدينة، والذي مازال وفيّا للتاريخ القديم للأجداد، في رحلة الصيف والشتاء بين منطقتي الحضنة والتل، دعا السّلطات العمومية لضرورة الالتفات إليه، ومنحه أبقار وأدوات فلاحية من أجل مواجهة صعوبات المنطقة، ولهذا أقام مؤخرا حاجزا مائيا امتلأ عن آخره، حيث أكّد لنا عزمه المضي قدما في محاولة استصلاح الأرض الصّغيرة التي اشترى جزءاً منها من ماله الخاص، والعمل على ترقيتها مردّدا عبارة “بلا هاذي الأرض والشويهات هاذو وين رايح نروح، نبيعهم ونقابل الحيط، ما عنديش وين نروح هنا يموت قاسي..”.
«بلقاسم - ق« الذي جاء من العاصمة، حيث نشأ بعد أن عاد والده الدركي المتوفى لمسقط رأس أجداده ليقيم فيه، حيث أطلق مشروعا استثماريا هاما أنفق فيه أموالا معتبرة، وقام بزراعة عدة أنواع من الأشجار على رأسها الزيتون، وأنشأ حاجزا مائيا كما قام ببناء مستودعات كبيرة، وتحصّل على رخصة لحفر بئر ارتوازي الذي وجدناه قد انطلق فيه، ووصل لحدود 100 متر تحت الأرض ليصطدم بعراقيل في هذا الصدد، حيث انتهت رخصة الحفر وطالبته مصالح الدرك بالتوقف ونقل الحفارة لمكان آخر لغاية تجديد رخصته، ووجّه نداءه للسّلطات للنظر في وضعيته وتسهيل مهمته، بالإضافة لضرورة توفير أساسيات العيش والعمل في المنطقة، داعيا إلى دعم الاستثمار في قديشة بشكل واقعي وفعّال، وعبر آليات جادّة ودعم منهجي، ورفع التصنيف الرعوي على الولاية الذي أملته وفرة الأراضي بعد الاستقلال، ليؤكّد أنّ الأراضي في المسيلة حاليا موزعة بين رعوية، فلاحية وصناعية، وبالتالي يطالب السلطات إعادة النظر في الطابع التصنيفي لهاته المنطقة ككل وقديشة بالخصوص.
مشاريع في الأفق..
في ذات السياق، تحدّث إلينا رئيس بلدية برهوم، عيسى مرزوقي، عن منطقة قديشة الجنوبية التي يحدّها من الشمال الطريق الوطني رقم 40، ومن الجنوب بلدية عين الخضراء، ومن الغرب بلدية أولاد عدي لقبالة، ومن الشرق واد الجباس بمساحة تقدّر بـ 554 هكتار، تقطن بها عائلات تابعة إداريا لعين الخضراء وإقليميا إلى بلدية برهوم، حيث شرح لنا أنّهم كانوا يعيشون في ظروف صعبة، ومحرومين من أبسط الحقوق الاجتماعية.
وأشار مرزوقي إلى أنّه بعد الحوار معهم، تمّ تحويل إقامة بعض العائلات لبلدية برهوم، ومنحهم سكنات ريفية كدفعة أولى من المشاريع التي جسدت، كما تمّ إنجاز طريق على مسافة ثمانية ونصف كلم، بالإضافة إلى تجهيز دراسة لربط السّكنات بالغاز الطّبيعي، وكذا الكهرباء الرّيفية.
وفي ذات السياق، كشف مرزوقي أنّه تمّ تزويد المواطنين بالمياه الصالحة للشرب عن طريق صهاريج، في انتظار تسجيل عملية ربطهم بالمشاريع المقترحة لهذه المنطقة، وهي إنجاز الكهرباء الرّيفية، الغاز الطّبيعي والكهرباء الفلاحية لفائدة بعض المستثمرات، بالإضافة إلى اقتراح عشرة كلم من المسالك الريفية وتوفير الإنارة العمومية، مع تسجيل مشاريع أحواض مائية كأولوية.
وأشار مرزوقي إلى أنّه تمّ تسجيل هاته
الاقتراحات ضمن البطاقة الوطنية الخاصة بمناطق الظل، ويأمل السّكان في تسجيد هذه المشاريع في أقرب وقت إذا توفّر الاعتماد المالي، مضيفا أنّ المنطقة بها مساحة شاسعة ومؤهّلات فلاحية، وهي صالحة لإنجاز مشاريع استثمارية خاصة بالصّناعات التحويلية، بالإضافة إلى مستثمرات لتربية الماشية.
وأفاد في ذات الصدد، أنّ مصالح بلديته رافقت بعض الفلاحين وساعدتهم من أجل الحصول على تراخيص لحفر الآبار، وشجّعت أصحاب الأراضي على إنشاء مستثمرات فلاحية، بالإضافة إلى فتح مصالحه قنوات الحوار مع الساكنة، حيث يتم التنقل إليهم وتقديم النصائح للفلاحين فيما تعلق بإنجاز المستثمرات الفلاحية.
وضع صعب..واتّصال غائب
العارفون بقديشة يدركون أنّها منطقة شاسعة ومترامية الأطراف، فهذه الأرض المهملة والتي هاجر وهُجّر سكانها لأسباب شتى، لا تزال لليوم تحكي عن وضع صعب، يعيشه أبناء وبنات البلديات الثلاث التي حاولنا التواصل مع مسؤوليها واحدا واحدا، ومتابعة ومقارنة ما يقولونه بما يوجد على أرض الواقع، فلم يستجب لنا إلا رئيس بلدية برهوم عيسى مرزوقي، حيث وقفنا مثلا في عين الخضراء على وجود مفرغة عمومية ترمى فيها نفايات البلدية دون مراعاة للبيئة، وفي استغلال للمنطقة شبه المهجورة، بينما الشّطر الذي أنجز مؤخرا من الطريق بدأ يفقد فاعليته وتتطاير حبيبات الحصى التي تمّ إنجاز الطريق بها، حيث تساءل السكان عن مآل هذا الوضع وأسبابه، فيما تعهّد المقاول بالوقوف على الموضوع وفق ما أطلعنا عليه أحد الأعيان “رشيد - ر«، وهو من الذين نبّهوا للأمر منذ بدايته، وقادوا حملة فيسبوكية تكلّلت بوعود لمعالجة الأمر...
مدرسة واحدة
الذين يزورون مدرسة قديشة سيدركون بلا شك حجم ما قدّمته الجزائر المستقلة التي خرجت من حرب التحرير مثقلة بالجراح، لتبني مدرسة في أشد وأصعب الظّروف الاقتصادية، وبمعايير عصرية مباشرة بعد الإستقلال، وجهّزتها سريعا بطاقم تدريس وبمختلف المعدّات، فلا وجود لطريق ولا نقل ولا مساكن تليق بمعلم يعلم الأبناء أدوات العلم والعصر، بدأت هذه المدرسة تفقد بريقها بداية من سبعينيات القرن الماضي لتغلق أبوابها قبل الثمانينات، حيث ساهم هذا الوضع في استمرار نزيف الهجرة من المنطقة، التي كانت ترسل أبناءها لدوار “أولاد الحاج” للدراسة بها، على مسافة تزيد عن سبع إلى عشر كلم، الزائر لهذه المدرسة اليوم سيجدها مهملة من طرف السلطات المحلية، التي لم تبذل أدنى جهد في صيانة ملك من أملاك الدولة والحفاظ عليه، حيث تستعمل حاليا كمخزن للأدوات الفلاحية، وفي موسم الخريف يتم تخزين “التبن” الذي يخبّئه الفلاحون بأقسامها الدراسية وهياكلها.
إنّه لأمر عجاب أن لا تبذل السّلطات مجهودا طفيفا لترميم وإعادة هاته المدرسة لجمالها المنشود في هذا المكان المهجور، لعل الناس يعيدون لها روحها المفقودة ذات يوم، فتحتضنهم بكل فرح وسرور وتعيد صورا جمالية من لقاء العلم والتاريخ على جدران الماضي.
في بلدية أولاد عدي القبالة “العوايز” يحدث نفس الشيء، الناس تهاجر ومدرسة تغلق أبوابها، وتتحوّل لمسكن لموّال يستغلها كمأوى له ولماشيته في ظل غياب تام للسلطات المحلية، فيما تتواجد منطقتا واد الجباس وحمام الديالم بالبلدية مهملتين تنتظران من يلتفت لهما بالاهتمام والاستصلاح والتنمية.
منطقة تستحق الاهتمام...
العارفون بالمنطقة والمدركون لأهميتها، يعون تماما أنّ التّاريخ قادم لهذه البقعة المهجورة، التي كانت ولا تزال مرتعا للعقارب والأفاعي، ووجود بعض الثعالب والذئاب في أماكن مهجورة منها، بينما يقاوم الرّاسخون في الأرض عوامل الطّبيعة وقلّة الإمكانات التي تحول بينهم وبين عمارة مكان مقدّس في أرواحهم، عظيم في قلوبهم، فلا شيء يضاهي حنين القلب للأرض التي نبت فيها، وبها نشأ وعاش ولا يزال يقاوم..أفلا تستحق هذه الأرض نظرة فاحصة تعيد لها بعضا من بريقها الضّائع….
صادر عن مجلة التنمية المحلية شهر جويلية