«الحمد لله هكذا أو لكثر».. هي العبارة التي أصبحت متداولة بين جموع المواطنين المتطوعين لإطفاء الحرائق بمنطقة بوشارف ببلدية السطارة، الواقعة أقصى شرق ولاية جيجل، حيث اكتفت هذه الحرائق بحصد الكثير من الممتلكات دون الأرواح، لتلتهم نيرانها مختلف الجنان المتكونة من أشجار الزيتون بالدرجة الأولى ثم الأشجار المثمرة الأخرى بمختلف أنواعها التابعة للخواص، إضافة إلى ممتلكات غابية تابعة للدولة، وأخرى بمساحات كبيرة تابعة للخواص.
تعتبر هذه المنطقة من أهم المناطق المعروفة بإنتاج الزيتون بالنسبة للسكان المحليين، إلى جانب الفلين بالنسبة للدولة ومصالح الغابات.
قبل أسبوع اندلعت الحرائق المهولة، حاملة مع لهيبها مخاطر محدقة بكل ما تصادفه، وارتفع الخطر لما وصلت النيران إلى جبل انشيط، حيث زادت التهابا وسط ذهول ورعب المواطنين.
لكن المفاجأة أن اندلاع هذه الحرائق التي كانت بحجم صغير في منطقة تيغرمان ووصلت إلى قمة الجبل، قد تزامنت مع ارتفاع كبير في درجة الحرارة، الأمر الذي زاد من حدة الموقف وأصبحت الحرائق كالشبح تنتقل بين منطقة وأخرى في «رمشة عين»، ضاعف من انتشارها هبوب رياح قوية، وفي غضون ثوان اكتسح اللهب مئات الهكتارات، لتتحول في وضح النهار إلى سواد قاتم وأشباح أشجار.
النيران امتدت من منطقة بني معاندة إلى تيغرمان مرورا بالعقبية وجبل انشيط وصولا إلى الجبل الواقع بمنطقة لثنين؛ الإمتداد الغربي لحي بوشارف، والذي يعتبر من المناطق ذات الكثافة السكانية، والمحاذي للطريق الولائي الرابط بين السطارة وسيدي الزروق ببلدية سيدي معروف.
ما زاد من صعوبة مواجهة ألسنة اللهب وعورة التضاريس من جهة، ومن جهة أخرى كثافة الغطاء النباتي المتنوع والغني بمختلف المكونات النباتية. فبين انشيط ولثنين مسافة كبيرة لكن لهيب النار اختصرها في بضع ساعات، ليقضي على الأخضر واليابس مخلفا مناظر مؤلمة جدا.
لا أحد توقع المأساة
كانت ليلية الثلاثاء إلى الأربعاء ليلة حارة جدا، وما زادها صعوبة هبوب رياح خفيفة، خاصة بعد وصول الحرائق إلى محيط قمة جبل انشيط، فانتقلت ضوضاء المنازل إلى أسطحها، التي تحولت بدورها إلى منصات مراقبة وتحسر على الخسائر الكبيرة التي أصابت هذا الغطاء النباتي.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وهبت رياح في ليلة ظلماء ساخنة، ليستيقظ السكان على أهوال هذه الحرائق التي لم يرها أغلبية السكان طوال حياتهم، فكانت ألسنة اللهب تلوح من بعيد وما زاد من تخوف السكان زفيرها، الذي كان يقابله البعض من المواطنين بالتكبير والتهليل، خاصة أن كثيرا منهم قد تيقن أنها النهاية التي لا مفر منها، بعدما وصل لهيبها إلى منطقة لثنين في ساعات الفترة الصباحية، واقتربت من المنازل المحاذية للغابة التي لا يفصلها عن بعضها إلا الطريق الولائي بمسافة أمتار فقط.
انتشر الرعب وسط السكان، وزاد الهلع جراء لهيب النيران وأصواتها المرعبة، ومن صرخات المواطنين ورجال الحماية المدنية وأعوان الغابات وأفراد الجيش الوطني الشعبي الذين كانوا يحاصرون ألسنتها لمنعها من الوصول إلى المنازل، خاصة أن بعض الأوراق والأغصان المشتعلة قد نقلتها الرياح إلى الجهة الموالية من الطريق وبدأت النيران تلتهم الغطاء النباتي للشعاب، ومنها انتقلت إلى بعض البساتين الملتصقة بالمنازل على مساحات كبيرة مملوءة بمختلف الأشجار.
في دقائق تحول المشهد إلى سواد قاتم
خلال بضع دقائق تحول المشهد من منطقة مفعمة بالحياة إلى سواد قاتم، فاشتدت ألسنة اللهب وأكلت في طريقها كل ما هو أخضر، وتحولت تلك الجنان المبعثرة في تلك المنطقة التي كانت تمتد على مدّ البصر، وتتمتع بغطاء نباتي كثيف جدا إلى رماد، وأصبح المشهد مأساويا جدا مملوءا بحسرة السكان.
حينها كان سكان الحي المشاركون في عملية الإطفاء يعبرون بكل حسرة وثقل هدّ كيانهم وكيان عائلاتهم إثر هذه الخسائر. حدثنا واحد منهم قائلا: خسرنا اليوم وفي رمشة عين ثمرة عمل أكثر من 20 سنة، فقد قمنا بغرس شجيرات الزيتون واحتفظنا بها، ولما أصبحت اليوم في أوج عطائها جاءها الغدر بهذه النيران، وتحولت إلى رماد، يا لها من مصيبة ــ كما يقول.
ثم أكمل حديثه قائلا: نحن لم نر طوال حياتنا مثل هذه النيران، ولقد اضطررنا، حماية لأرواحنا، للعودة إلى الخلف والإكتفاء بحماية البنايات وإطفاء أي شعلة تنقلها الرياح، فقد حاولنا التدخل لكن الخطر كان أقوى من إرادتنا ومن عتادنا، فعدنا إلى الخلف ونحن نتألم من هول هذه الكارثة.
وحدثنا طارق (موظف) الذي انتقل إلى عين المكان فور سماعه خبر انتشار الحرائق، وقال: «جئت لمشاركة سكان المنطقة والمساهمة بقدر ما أستطيع في إخماد هذه الحرائق، وحماية ممتلكات السكان ومنهم أقاربنا»، فراح يحدثنا عن هول ما عاشه في تلك الصبيحة.
واصل حديثه عن خطر الدخان الذي انتشر وغطى أرجاء هذا الفضاء، وعن التخوف من التعرض للحرق في أي لحظة كانت، فأكد أن ألسنة اللهب كانت خطيرة جدا، لا يمكن توقع مكان خروجها، حيث ورغم ذلك النشاط الذي أبداه المتدخلون لإطفاء الحرائق كانت ملامح الدهشة والتخوف جلية على وجوههم.
المبادرة سيدة الموقف
من هول المشهد، ومن أصوات ألسنة اللهب التي كانت تصدرها، سارع كثير من المواطنين من مركز البلدية لنجدة سكان المنطقة ولمحاصرة الحرائق، فسارع عشرات المواطنين في هبة تضامنية غير مسبوقة لمساعدة رجال الحماية المدنية وأعوان الغابات الذين كانوا متواجدين في عين المكان.
في هذا الجو الرهيب اختلط الحابل بالنابل، وأصبح الكل مسؤول، يقرر وينفذ، فالمبادرة أصبحت سيدة الموقف، الكل يقدم الدعم للآخر، الكل يسارع لإطفاء فتيل النيران أو شعلة أتت بها الريح، الكل يلتف حول المواقد التي تظهر بشكل مفاجئ، والكل له اتخاذ القرار، لكن الهدف من كل هذه الجهود واحد، هو محاصرة اللهيب لتفادي وصولها إلى منازل المواطنين، وتفادي تسجيل خسائر مادية أخرى.
هبة تضامنية غير مسبوقة
من الصور الجميلة، رغم الألم الذي يعتصر المنكوبين وكل من شاهد الفاجعة وسط هذا الرعب، لحمة المواطنين وهبتهم لمساعدة إخوانهم في بوشارف، فخلال عشرات الدقائق فقط امتلأت المنطقة بالمتطوعين من مختلف الأعمار، منهم مختار (تاجر بمركز بلدية السطارة) الذي انتقل مع بعض من رفاقه إلى المنطقة مباشرة، وفور رؤيته الدخان الكثيف المنبعث والذي غطى المنطقة، تحرك مع مجموعة من الأصدقاء بغية مساعدة السكان وحمايتهم، حيث قال: «إنني لم أر مثل هذه النيران طوال حياتي، وكان صوت اللهيب مرعبا جدا»، لكنه أبدى شعورا طيبا حول الهبة التي قام بها سكان المناطق الأخرى. فبالرغم من الخطر ــ كما يقول ــ «وقفنا جنبا إلى جنب متماسكين، متضامنين نساعد بعضنا وبكل ما نملك، خاصة مع وجود رجال الحماية المدنية في المكان، ثم التحاق أفراد الجيش الوطني الشعبي الذين أعطونا دعما وقوة معنوية ومادية بفضل حسن تسييرهم لهذه الوضعية».
خلال متابعة هذه الحرائق، تم تسجيل حضور متطوعين من مختلف المناطق، وقيام كثير من أصحاب الصهاريج لجلب المياه، الى جانب تضافر الجهود لإطفاء كل المواقد التي انتشرت في المكان وفوق بعض المساكن، وكانت تدخلات المتطوعين والمصالح الأخرى موفقة إلى أبعد حد، ما ساهم في توقيف زحف الحرائق إلى المساكن، رغم أنها لم تكن تبعد عنها إلا بحوالي 15 مترا في بعض الأماكن، وقد أثمرت هذه الجهود أيضا حماية ممتلكات المواطنين، ومنهم قطيع من الخرفان تابعة لأحد السكان.
وصول أفراد الجيش وإخلاء المنازل
فور التحاق أفراد الجيش الوطني الشعبي وانتشارهم في المنطقة، طلب من السكان الخروج من المنازل بغية حمايتهم من جهة، ومن جهة أخرى لتسهيل أي تدخل في حالة انتقال النار إلى البيوت، وحتى يساهموا بأنفسهم في المراقبة الخلفية للقوافل التي تقوم بمواجهة ألسنة النار.
أغلبية السكان تحدثوا عن الصدمة التي ألمت بهم، وحالة الخوف والرعب التي التصقت بجنوبهم جراء الصوت الذي ينبعث من مكان الحرائق والذي اتفق الجميع أنه صوت مرعب تقشعر منه الأبدان، ومما كان متفق عليه أيضا وسط هذه الضوضاء والرعب أن الكثير من المتدخلين والسكان أصبحوا يرددون كلمة «الحمد لله هكذا ولا اكثر»، خاصة بعد التأكد من عدم إصابة الأشخاص، واقتصار الخسائر على الأملاك المتمثلة بشكل كبير جدا في الحقول بمختلف أنواعها وخلايا النحل.
حيوانات تحتمي بالسكان
من هول هذه الحرائق، ومن الخطر الذي أصبح محدقا بكل شيء، لم تجد خنازير الغابة من مفر سوى الإحتماء بالمواطنين، خاصة من لسعات ولهيب هذه النيران.
ووسط تلك الضوضاء، والهرج والمرج الذي كان سببه قوة لهيب النار، والذي وصل إلى بعض الأمتار فقط من منازل السكان، خرج خنزير في مشهد مأسوي رهيب، وكان هادئا جدا بجانب المواطنين، فلم يأبه لا لصرخاتهم ولنداءاتهم وبقي بجانبهم على حافة الطريق هادئا، كان همّه الوحيد الفرار من لهيب النار.
وما هي إلا لحظات وبعدما أحس بالأمان سلك طريقا آخر غير الذي قدم منه، فاتجه إلى الجهة الشمالية التي ما زالت لم تحترق بعد، قطع الطريق وعبر بعض المنازل واختفى عن الأنظار. ومن هول الرعب الذي عاشه الجميع، لم يتعرض أي كان لهذا الخنزير شفقة عليه، لأنه في الأصل كان مصابا ببعض الحروق.
أكثر من 30 حريقا في 15 بلدية
متابعة للوضع بولاية جيجل، بعد انتشار هذه الحرائق في عدة بلديات، وللوقوف عن كثب على عملية إخماد الحرائق، والأضرار التي ألحقتها بالغطاء النباتي، تنقل والي جيجل عبد القادر كلكال، نهاية هذا الأسبوع المنصرم، إلى منطقة أباينو ببلدية تاكسنة، مرفوقا بمسؤولين محليين من مختلف المؤسسات.
وبمنطقة أباينو صرح، أنه تم تسجيل 30 حريقا منذ تاريخ 09 أوت 2021، والتي سجلت على مستوى 15 بلدية، أين تم آنذاك إخماد 20 حريقا، فيما لا تزال حينها الجهود متواصلة لإخماد باقي الحرائق والتي تمت السيطرة عليها من طرف الأعوان المتدخلين. مع الإشارة أنه لم تسجل أية خسائر بشرية.
وأكد الوالي على تجنيد كل الوسائل المادية والبشرية، من بينها 509 عون من مختلف المصالح، من الحماية المدنية، محافظة الغابات، الدرك الوطني، أفراد الجيش الوطني الشعبي وعمال البلديات، بالإضافة إلى تسخير 125 آلية تابعة لمختلف القطاعات. كما أضاف، أنه تتواجد على مستوى الولاية خلية لمكافحة حرائق الغابات، تنشط عن طريق الخلايا الفرعية المتواجدة على مستوى كل دائرة وكل بلدية.
وأشار إلى وجود لجان منصبة على مستوى كل الدوائر، تتشكل من مصالح: الدرك الوطني، الأمن الوطني، الفلاحة، البناء والتعمير ومصالح البلدية، بحيث يهدف عملها إلى تقييم الخسائر المسجلة وتعويض المتضررين من الحرائق. كما أن الجهود لا تزال متواصلة من طرف كل أعوان الدولة المتدخلين لإخماد 10 حرائق المتبقية، يومها، والتي تم التصدي لها لتفادي وصولها للتجمعات السكانية.
وفي لقاء بالمواطنين، تمت الإشادة بالهبة التضامنية، ووقوف السكان جنبا إلى جنب مع أعوان الدولة المتدخلين في هذا الظرف العصيب، مع طمأنتهم بأن الدولة لن تدخر أي جهد لحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، ورغم فظاعة آثار هذه الحرائق وتثمين دور أفراد الجيش الوطني الشعبي الساهرين على حماية مواطنينا من خطر هذه الحرائق خلال زيارته لمفرزة مرابطة بالمنطقة.
قوافل تضامنية للمنطقة
وكغيرها من بلديات ولاية جيجل، تستقبل بلدية السطارة إعانات ومساعدات من مختلف المناطق. هذه الإعانات تعبر عن حالة التلاحم بين أفراد الشعب الجزائري ووقوفه إلى جانب إخوانه في المحن التي يتعرضون لها. وفي هذا الشأن، يسجل حصول جمعية كافل اليتيم لبلدية السطارة على إعانات، بحيث كانت الدفعة الأولى من الخيرين بولاية بومرداس، وهي عبارة عن مواد غذائية وأغطية وأفرشة ومستلزمات.
إضافة إلى وصول قافلة مساعدات أخرى من الجزائر العاصمة بقيادة مجموعة من الفنانين الذين أبوا إلا أن يساهموا في مساعدة العائلات المتضرره، ومنهم المخرج أمين بومدين، السيناريست سمير زيان، الممثلة سهيلة معلم، بالتنسيق مع الفنان رضا سيتي.16.
كما علمنا أن بلدية السطارة قد استلمت شحنة من المساعدات التي تبرع بها سكان ولاية بجاية لفائدة المتضررين من الحرائق، هذا في انتظار مبادرات أخرى في الأيام المقبلة.