يعد القطاع الصحي أو الخدمات الصحية في أي مدينة معيارا أساسيا لقياس درجة الجدية في تسيير موارد المرافق الصحية من جهة، ومن جهة أخرى يعكس درجة الوعي لدى الجهاز الذي يدير هذه الهياكل بجميع وظائفها، كما يضفي على هذه الخدمات المقدمة بشكل دوري سواء للأهالي المقيمين في المدينة أو أولئك الزوار طابعا إنسانيا بالدرجة الأولى قبل أن يكون واجبا يحتم على المسير للمرافق الصحية وكذا الطبيب والممرض التفاني من أجل إنقاذ حياة الناس وأرواحهم.القطاع الصحي الذي كان من المفروض لا يقبل أي تهاون أو تقصير أمام أي حالة صحية مستعجلة، فكيف نرى تقصيرا كبيرا على مستوى تجديد هياكله التي أضحت بولاية عنابة غير قادرة على الصمود أكثر لقدمها ، كذلك العديد من المصالح الجراحية على مستوى أكبر مستشفيات عاصمة الولاية باتت تعاني ندرة حادة في الوسائل الضرورية، وكذا المعدات الأساسية للجراحة ، هذا ناهيك عن عدم توفر بعض الأدوية الأساسية في الجراحة، فككل يوم ترى طوابير طويلة تنتظر، ما ذنب هؤلاء ؟ ولعل أشد ما يحز في النفس أن ترى حالات مستعجلة للجراحة مازالت تعاني الانتظار ،بل هذا التأخير بات قاتلا لهؤلاء المرضى ،خاصة مرضى القلب والأورام والأعصاب ، فكل يوم يسمع المريض الذي على طاولة الجراحة حزمة من التبريرات بدل أن تباشر العمليات بشكل طبيعي. الجراحون يرمون الكرة في مرمى الإدارة والإدارة توزع وعودا، لها حججها في ذلك والكل يتنصل من المسؤولية ،ليتجرع المريض هذا الألم القاتل يوما بعد يوم .
»الشعب« عاينت الوضعية عن كثب في هذا الاستطلاع الميداني ، ووقفت على أغلب المصالح الجراحية على مستوى ثلاث أكبر مستشفيات بعاصمة الولاية (مستشفى بن رشد الجامعي،مستشفى الحجار والبوني ، ومستشفى بن سينا الجامعي ) ،كل قطاع ومعه حكاية ،الحالة تقريبا صورة طبق الأصل وأنت تعاين كل مستشفى على حدى ،شكوى المرضى لا تكاد تنقطع ، حالات مستعجلة تعاني الإهمال ، نقص حاد في المعدات،نقص الدواء ومواد التخذير الأساسية ،قلة الممرضين ببعض المصالح الجراحية ، حاولنا أن نجد تفسيرا لهذه الوضعية التي باتت مقلقة جدا .
المستشفى الجامعي بن رشد... ،نقص في مواد التخدير ،وغياب شروط النظافة..
سبق أن كان لنا موضوع في الأعداد السابقة لجريدة »الشعب« عن الوضعية الحرجة التي تعانيها مصلحة جراحة الأعصاب على مستوى مستشفى بن رشد ،أين تطرقنا إلى النقص الحاد في وسائل الجراحة الضرورية وكذا مواد
التخذير الأساسية لمباشرة العمليات الجراحية ، على الأقل من أجل التكفل بالحالات الحرجة وأولئك الذين ينتظرون بالمصلحة للجراحة ، لكن لا حياة لمن تنادي ، توجهنا الأسبوع ا لماضي إلى عين المكان بناءً على شكوى تقدم بها أحد أولياء المرضى الذي أكد لنا أنه ذاق الويلات في هذه المصلحة وهو يرافق قريبه المريض الذي مازال ينتظر دوره لإجراء عملية جراحية.
هذه المصلحة بها غرفتي جراحة، تضم تقريبا فريقا طبيا مشكلا من 12 طبيبا جراح، الغرفة الثانية للجراحة مغلقة من أزيد من 4 أشهر بسبب غياب مبرد ومجدد للهواء بسبب عطب على مستواه ولم يتم تصليحه ، مع العلم انه يوجد مبرد آخر على مستوى المستشفى ولم يتم استبداله أو كما أفادت مصادرنا ، وللعلم هذا المبرد يساعد على مباشرة العمليات الجراحية خاصة وفصل الصيف .
على مستوى نفس المصلحة ترى المئات من مرضى ورم spina bifida وكذا مرضى العمود الفقري ينتظرون منذ عدة أشهر ،والسبب بسيط هو تلك الغرفة الجراحية المتوقفة عن العمل والتي كان من المفروض أن تستوعب أضعاف هذا العدد من المرضى .
الجراحة بالمحاباة
ومن المفارقات الكبيرة أن ترى مصالح جراحية أخرى موازية تسير بطريقة نظامية ولا تعاني من أي نقص، فعلى مستوى مصلحة أمراض المسالك البولية وكذا مصلحة جراحة الأنف والحنجرة (O.R.L) لا ترى أي نقص لا من حيث الوسائل ولا من حيث المواد الطبية الصيدلانية الأساسية للجراحة ، هذه المحاباة باتت أمرا مقلقا جدا للأطباء الجراحين أكثر من المرضى ، فكيف أن تكون على مستوى مستشفى واحد هذه الازدواجية في التسيير ؟؟وما التفسير لذلك ؟؟والى متى يتحمل الطبيب الجراح هذه المسؤولية التي لم يكن يوما طرفا فيها ؟؟
حقيقة الأمر الذي ضاعف من هذه الحالة المأساوية تدهور الأوضاع الصحية للمرضى بشكل يومي ،وزيادة مسؤولية الطبيب الجراح بين الإقدام على الجراحة بما توفر من وسائل ،وبين هاجس المسؤولية التي تملي عليه مراعاة الجانب الإنساني المهني خلال العملية الجراحية ، فمن يخفف آلام أولئك المرضى إذا بات الطبيب عاجزا عن مباشرة عملياته الجراحية بسبب غياب المعدات والأدوية الأساسية ؟؟
المرضى أنهكهم التعب النفسي قبل التعب البدني ، أحد الشيوخ رفض الكشف عن هويته لنا هو عينة عن مئات المرضى ، تأجلت عمليته الجراحية على مستوى ورم بالرأس أكثر من أربع مرات، قال تمنيت أن الأجل قد حان على أن أعيش هذه المعاناة في ظل الألم الذي يتضاعف علي بشكل يومي، فمن يتحمل المسؤولية يا ترى؟؟
من جهة أخرى حاولنا أن نقف على الهياكل الموفرة على مستوى هذه المصلحة،
فوجدنا ظروف مأساوية للأطباء الجراحين إذ يتداول تقريبا عشرة أطباء على مكتب واحد ،وهو أمر بات متعبا وغير مريح إطلاقا للكادر الطبي الذي كان من المفروض أن تكون ظروف العمل مهيئة له أكثر من أي عنصر بالمستشفى .
الاستعجالات بحاجة
إلى إصلاح استعجالي
استعجالات بن رشد يوميا ،أقرب وصف لها أنها في حالة حرب ، اكتظاظ حاد جدا ، هياكل قديمة، لاتعرف الممرض من الطبيب ،إنعدام شروط النظافة، طوابير عشوائية تعرقل حركة السير ،صالات معاينة المرضى وكأنها »إصطبلات« ،لا نظافة مكاتب قديمة جدا وليست مستشفى جامعي يبعد بأمتار عن كلية الطب ،حقيقة وقفنا على واقع مزري جدا على مستوى هذه الاستعجالات التي كان من المفروض أن تكون النموذج لأكبر مستشفى جامعي بعاصمة الولاية ،كذلك المساحة الضيقة جدا التي تشغلها هذه الاستعجالات، لقد باتت غير قادرة على إستيعاب هذا العدد الكبير من المرضى ،خاصة على مستوى الأسرة وكذا صالات المعاينة والكشف الصحي ، تعد الإستعجالات في أي مستشفى هي المرآة العاكسة لطريقة سير هذا الهيكل الصحي ، توقفنا على ثلاث حالات حرجة تم إستقدامها إلى عين المستشفى جراء حادث مرور قاتل ، حقيقة الأمور تسير بطريقة بدائية جدا على مستوى الاستقبال وكذا الجهوزية في معالجة الحالات الأكثر استعجالا ،نتيجة غياب أهم المعدات الأساسية وكذا الجو العام في هذا القسم للمستشفى الذي بات مثبطا أكثر منه مشجعا على العمل .
يعاني مرضى القلب على مستوى مستشفى بن سينا طوابير كبيرة ،مما عقد من عمليات الفحص وكذا عمليات الجراحة ،باتت المصلحة لا تستوعب هذا العدد الكبير من المرضى ، حقيقة المشكلة قائمة على مستوى مصلحة الجراحة ،أين باتت غير قادرة على التكفل بهذا العدد من المرضى ، عاينا المصلحة ،المرضى في معاناة كبيرة ،العمليات الجراحية تؤجل بصفة دورية ،المشكلة قائمة على مستوى الهياكل وكذا طريقة سير قسم الجراحة الذي يسير ببطء كما قال أحد المرضى، لماذا تؤجل العمليات الجراحية بهذه الطريقة؟محمد شاب في الثلاثينات يعاني من مرض على مستوى القلب ، وحالته مستعجلة للجراحة ، يقول هذه ثاني مرة تؤجل عمليتي الجراحية لأسباب لا أعرفها ،حالتي الصحية تدهورت ،بالكاد استطيع الوقوف ،آخر مرة أستدعيت وتم تأجيل العملية الجراحية المرة أخرى ،وأنتم تعرفون الإكتظاظ الكبير الذي يعانيه قسم الجراحة ،لم أعد قادرا على التحمل أكثر ،هكذا قال هذا الشاب.
المستشفيات الجوارية
بعيدة عن التطلعات
أجمع أغلب الجراحين الأطباء المقيمين الذين التقينا بهم على مستوى مستشفى بن رشد، ومستشفى بن سينا ، على ضرورة فتح مستشفيات جامعية أخرى ،لأنهما باتا عاجزين أمام العدد الكبير من المرضى يوميا ،خاصة على مستوى قاعات الجراحة أسرة الإيواء للمرضى ، فلا يخفى انه في أوقات معينة بالعديد من المصالح الجراحية يتم إسكان مريضين بسرير واحد ، حقيقة طاقة استيعاب كلا من المستشفيين باتت ضعيفة جدا ،أيعقل أن تبقي مديرية الصحة كلية الطب التي شيدت منذ السبعينات على نفس الهياكل التابعة لها منذ أن كان سكان عنابة لا يتجاوز 30 ألف نسمة، وهم يفوقون اليوم 600 ألف نسمة، ناهيك عن المرضى المحولين من الولايات الشرقية الأخرى على غرار قالمة ،تبسة،سوق أهراس، الطارف، سكيكدة...
الأمر أضحى أكثر استعجالا بفتح مستشفيات جامعية جديدة ،أو الإرتقاء بأكبر مستشفيات الولاية إلى مستشفيات جامعية على غرار مستشفى الحجار ومستشفى البوني ، والذين يحتويان على العديد من التخصصات الجراحية ،كما أنهما يحتويان على طاقة استيعاب كبيرة ،مما يخفف الضغط على المستشفيات الجامعية بعاصمة الولاية.
كانت لنا زيارة في هذا الاستطلاع الميداني إلى كل من مستشفى الحجار وكذا مستشفى البوني ،أين وقفنا على الظروف الحسنة في كل من القطاعين ،إضافة إلى توفر وسائل الجراحة وكذا الظروف الجيدة لإقامة المريض ، كذلك توفر الكادر الطبي القائم على أغلب المصالح الجراحية ،أين التقينا بالعديد من الأطباء ، تقريبا الجميع يؤكد أن الظروف المهنية على مستوى كل مستشفى مريحة ،سواء للمريض أو للطبيب الجراح .
يجمع أغلب من التقينا بهم سواء على مستوى مستشفى بن رشد الجامعي أو على مستوى مستشفى بن سينا الجامعي أو مستشفيي الحجار وكذا البوني ،انه أصبح فتح مستشفيات جامعية جديدة أمرا ملحا أكثر من ذي قبل ،وبحكم أن عملية الانجاز تتطلب وقتا طويلا ،وان تأهيل مستشفى جامعي جديد أمر صعب ،فيكفي الارتقاء بأكبر مستشفيات الولاية إلى مصاف مستشفيات جامعية لتخفيف الضغط على العدد المحدود من المستشفيات الجامعية الأخرى .
هذا الأمر كذلك تضرر منه الطلبة المقيمون ،فالعدد المحدود للمستشفيات الجامعية أدى إلى ضعف تكوينهم التطبيقي ،وكذا أدى ذلك إلى العدد المحدود من مناصب التخصص الموجهة لكلية الطب بجامعة عنابة ككل سنة مقارنة بتلك الممنوحة لكلية الطب لكل من العاصمة ،قسنطينة ،وهران ، فكلية الطب لعنابة من ناحية المناصب الممنوحة لها في التخصص سنة أولى طبيب مقيم تأتي في ذيل الترتيب .
وهذا يعود إلى العدد المحدود للمستشفيات الجامعية الأمر الذي أدى إلى محدودية الأساتذة الأطباء المكونين وكذا تضاعف مهامهم بين التكوين للطلبة المقيمين من جهة ومباشرة العمليات الجراحية الكبيرة من جهة أخرى ، في ظروف معقدة نتيجة ضعف إستيعاب المستشفى لهذا العدد الكبير من المرضى الذي بات يتضاعف بشكل يومي ، وما أفرزته هذه العوامل من ظروف غير مريحة خاصة للمرضى والأطباء الجراحين.