تفاؤل، محبّة واستحضار العادات والتّقاليد
أحيت عاصمة الأوراس باتنة على غرار ولايات الوطن، ذكرى عاشوراء في أجواء من التكافل والتضامن الاجتماعي. كالعادة لم يتخل الشاوية بكل بلديات الولاية، خاصة بالمناطق الريفية والقرى الجبلية، عن استحضار العادات والتقاليد والطقوس التي ربطوها بيوم العاشر من محرم، على غرار عادة إخراج الزكاة وتقصير الشعر وفتح الأبواب المغلقة في هذا اليوم المقدس، حسبما وقفت عليه جريدة «الشعب» بعين المكان، وتعرض أدق التفاصيل في هذا الاستطلاع.
دأبت عائلات الاوراس على التحضير لهذه الشعيرة الدينية بالكثير من الفرح والتقرب من الله عز وجل، من خلال استغلال المناسبة في الصيام والعبادة رغم تخللها للكثير من الطقوس القديمة والتشاؤم من بعض الممارسات، التي فصل الدين شرعا في عدم جدواها، إلا أن الغالب على الذكرى هو الاحتفال بنجاة سيدنا موسى عليه السلام من بطش فرعون وجبروته، في إحدى أعظم صور انتصار الحق على الباطل على مر التاريخ.
عاشت العائلات الأوراسية فرحة عاشوراء بداية بالتحضير لها من خلال اقتناء الحلويات والمكسرات، وغيرها من أنواع الخضر والفواكه لتحضير مائدة الشعيرة الدينية المميزة بحضور تقاليد خالدة، ترجع لقرون خلت من الزمن ولا تزال راسخة في المخيال الشعبي للشاوية على غرار طبق الشخشوخة أو البربوشة سيدا المائدة وفقا لرغبة أفراد العائلة في تناول الوجبة المفضلة لديهم، ضمن برنامج معد بدقة مسبقا تشارك فيه أضحية العيد بقوة من خلال ادخار جزء من كتف الأضحية لهذه المناسبة خصيصا.
الشخشوخة والبربوشة..طبقان لا غنى عنها
كما تميز يومي تاسوعاء وعاشوراء بولايات باتنة، خنشلة، أم البواقي وقالمة وحتى سوق أهراس بأجواء روحانية غلبت عليها الأجواء الرمضانية، من خلال صيام العائلات لهذين اليومين التزاما بهذا التقليد الديني الراسخ لدى الجزائريين والأمة الإسلامية جمعاء.
وجد أغلب أفراد العائلة فرصة عاشوراء في تأدية سنّة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلّم - والخاصة بتحبيذ الصوم في هذين اليومين حمدا لله وشكرا على نعمة نجاة النبي موسى عليه السلام من فرعون، وكذا لنيل الجزاء العظيم الذي وعد الله به عباده الصائمين، ومن فضل هذه المناسبة تكفير ذنوب سنة كاملة كما هو معلوم من السنة النبوية الشريفة.
على هذا المنوال، احتفلت العائلات بهذا اليوم المبارك كل على طريقتها الخاصة حسب عاداتها وتقاليد كل منطقة، غير أنّها تشترك في تفاصيل كثيرة على غرار أن عاشوراء فرصة ثمينة لتبادل المودة والرحمة والتسامح، وتعزيز صلة الرحم بين الأهل والأقارب.
وتحضيرا لهذا اليوم المشهود، تتسابق المحلات التجارية والأسواق خاصة الشعبية في عرض أجود اللوازم بإعداد ما لذّ وطاب من الأكلات التقليدية وأحلاها، وكالعادة تزين سوق الرحبة الشعبي بقلب مدينة باتنة، بأجود أنواع التوابل واللحوم البيضاء والحمراء والفواكه الطازجة والجافة، حيث شهد محلات السوق إقبالا منقطع النظير خلال الأيام القليلة التي تسبق الاحتفال بعاشوراء.
وحتى لحم القديد الذي يمز مائدة عاشوراء، كان حاضرا بقوة في هذه المحلات التي دأبت في السنوات الأخيرة على توفيره للمواطنين الذين لم يتمكنوا من تحضيره بمنازلهم..غير أن غالبية العائلات الأوراسية تفضل طبخ وجبة العشاء بكتف أضحية العيد المعروفة محليا بـ «المسلان»، استنادا الى شهادات حية من الاوراس الاشم.
وقد أكّدت السيدة نورة لـ «الشعب»، في هذا الشأن، أنها لا تتنازل عن طبق الشخشوخة الذي تحضّره بنفسها رغم التعب، موضحة أنها لا تستغني عن رؤيته فوق مائدتها خاصة وأنه الطبق الوحيد الذي يشكل تواجده بالمائدة إجماعا لدى عائلتها في عاشوراء، كطبق رئيسي بالخضر واللحم.
وأشارت نورة إلى أنها تحضّر في ثاني يوم عاشوراء بربوشة بالقديد الذي قامت بتطعيمه بالملح والتوابل وتركه للهواء عقب نحر أضحية العيد، حتى يجف ومن ثم استغلاله في هذه المناسبة الدينية.
وقد شهدت أغلب محلات بيع المعجنات إقبالا كبيرا من طرف السيدات خاصة العاملات، لاقتناء الكسكس، الرشتة والشخشوخة وغيرها، حيث لاحظنا خلال جولتنا الاكتظاظ الكبير بهذه المحلات بالزبائن الذين تعوّدوا على اقتنائها في مثل هذه المناسبات، التي يكثر فيها الطلب على الأطعمة التقليدية التي تعكس تمسك عائلات الاوراس بهذه العادات المتوارثة عن الأجداد.
عادات وطقوس تيمّنا بعاشوراء تأبى النّسيان
لكن لعاشوراء أبعاد ومضامين أخرى، فهي أيضا فرصة للتبرك والتفاؤل بالخير والرزق الوافر، ومناسبة تستغلها العائلات في القيام بالعديد من الأعمال التي ترى فيها بركة، حسبما أكّدته لنا أكثر من ربة بيت.
السيدة سميرة التي وجدناها منهمكة باقتناء بعض المكسّرات والحلويات، صرّحت لـ «الشعب» أنها لا تزال تتذكّر بكثير من الحب والفرح في بيت والدها منذ كانت صغيرة عادات هذا اليوم، خاصة عندما كانت والدتها تقوم باكرا بفتح كل الأبواب المغلقة الموجودة بالمنزل كأبواب الخزائن والغرف والنوافذ، على أمل أن يكون الرزق اول الضيوف والوافدين في ذلك اليوم، وهو ما تحرص عليه هي اليوم على القيام به ببيتها ونقله لبناتها.
ويدخل في سياق ذلك قص الشعر وتكحيل العينين، ووضع الحناء في اليدين لكل أفراد العائلة، وهي عادات قديمة تستحضرها النساء بقوة بعد أن توارثتها عن الأجداد. وهنا أوضحت السيدة فطيمة في هذا الشأن أن وضع الحناء يعتبر من علامات الفرح والسعادة بهذا اليوم، حيث تجمع الفتيات اللائي لم يتزوّجن بعد ويقمن بخلط الحناء بالسكر وماء الزهر ووضعها في أيديهن، على أمل أن يرزقن بأزواج صالحين خلال هذا العام، إضافة إلى وضع الكحل اعتقادا أن من قام بذلك لن تمرض عيناه أبدا بداء الرمد والأمراض الأخرى، كما تروي فطيمة عن جداتها، وكذا الاغتسال في هذا اليوم لتختتم العادات بقص الشعر تبركا بهذا اليوم واعتقادا بأن ذلك يزيد من طوله وجماله.
وتضيف محدّثتنا بالمناسبة، أنّ الفتيات خاصة العازبات يحرصن بتوجيهات من النساء الأكثر منهن عمرا وخبرة على تذكيرهن بتقليم الأظافر ليكون عامهن القادم سعيدا ومليئا بالمفاجآت السارة كغياب المرض واحتمال الزواج وغيرها من المعتقدات المتوارثة.
وفي مقابل هذا الحرص على التبرك والتفاؤل بهذا اليوم، نجد البعض من سكان الاوراس يتشاءمون من بعض العادات ويتجنبون القيام ببعض الأعمال كتجنب الخياطة، وكل ما له علاقة بتخبيط الملابس أو حتى ترقيعها،وبالتالي فتجنب إمساك الإبرة والقيام بأعمال على الملابس وحتى حمل القلم والكتابة، من الأمور التي تتجنبها خاصة النساء، وأرجعت إحدى السيدات التي التقيناها بجوار حديقة مسرح باتنة الجهوي الأمر إلى أن من تخيط يوم عاشوراء تصاب بارتعاش في اليدين عند الكبر، ويلاحقها ذلك مدى الحياة.
ونفس الشيء بالنسبة لتجنب القيام بأعمال المنزل كالغسل والتنظيف، وما يصاحب ذلك من استعمال للصابون وغسل الملابس، لأن يوم عاشوراء هو عيد، لذا ينبغي على سيدات البيوت القيام بكل الأعمال المنزلية قبل حلول المناسبة للتفرغ بعدها للصيام وقراءة القرآن الكريم.
وإخراج الزّكاة أولوية لا تنازل عنها
يصر سكان باتنة والولايات المجاورة لها على إخراج الزكاة في هذا اليوم وهي المعروفة بـ «العشور»، حيث ربط السكان هذه المناسبة بأحد أركان الإسلام الخمسة وهو الزكاة، حيث يحرص السكان خاصة الفلاحين وأصحاب المحلات التجارية وغيرهم على توزيع زكاتهم من الأموال أو الحبوب أو الذهب التي مرّ عليها عام كامل، وهو ما يسمى بالعامية بـ «العواشر» نسبة ليوم عاشوراء، حيث يقوم أصحاب الحقول والثروات والأملاك بتطهير أموالهم بتزكيتها بتخصيص جزء منها للفقراء والمساكين والمعوزين.
وأكّد عمي العيد في هذا الصدد أنّ إخراج الزكاة المفروضة ليست مرتبطة بعاشوراء أو غيرها بل يكفي أن يدور حولها عام كامل، غير أن السكان خاصة الكبار في السن يفضّلون تبرّكا إخراجها في هذا اليوم الذي يعتبرونه مباركا طمعا في الأجر والبركة بتضاعف الأموال، ورغم أن العديد من الأئمة يؤكّدون عدم اقتصار إخراج الزكاة بيوم عاشوراء إلى أنّ المزكين يصرون على إخراجها في يوم عاشوراء حتى وإن مرت بعض الأسابيع على دوران العام حولها.
ترسيخ لقيم التّكافل والصّلح والتّسامح
إن مناسبة عاشوراء ليست فقط للحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة عن الأجداد فقط، بل هي فرصة ثمينة لتطهير القلوب وترسيخ قيم التكافل والتسامح والمحب والعطف بين الجزائريين، حيث تتميز عاشوراء بتنظيم المناسبات العائلية كإبرام الخطبة وتختين الأطفال في هذا اليوم المبارك، إضافة إلى عقد مجالس الصلح وحلقات الذكر والموعظة بالمساجد، حيث يحرص الشاوية على نشر قيم التسامح بين الناس، سواء كانوا أهلا أو جيرانا خاصة بين المتخاصمين.
إنّها عادة قديمة متوارثة جيلا عن جيل بالأوراس، لا يزال مفعولها قويا وتأثيرها كبيرا، حيث لا يستطيع أي طرف من الأطراف المتخاصمة رفض المطالب بعقد جلسات الصلح وحتى بالتنصل من نتائجها مهما كانت، فالخروج عن رأي «الجماعة»، فأل سيء وينذر بالشؤم لهذا يتجنب الجميع رفض الدعوات الخاصة بالصلح في هذا اليوم.
كما يستغل الجميع من أفراد وعائلات المناسبة للاجتماع على حل المشاكل العالقة التي تكون بين الإخوة والأقارب وحتى الجيران، ممّا يساهم في نشر المودّة والرّحمة والمحبّة بين الأفراد.