قسنطينة هذه المدينة العتيقة التي لا تخلو زاوية من زواياها من عادات وتقاليد تروي تاريخها العتيق الحافل بروايات وقصص لن تنتهي من ذكرها ولن تندثر إلا بزوالها، هي مدينة الصخر العتيق، الجسور المعلقة، عش النسر، عندما تطأ قدماك أرضها يختطفك عبق أصالتها وروح حضارتها ويبهرك تاريخ سكانها، هذه المدينة النائمة على خصوصيتها وترفض التخلي على أبسط عاداتها رغم عامل السنين التي تحفر في جدرانها، إلا أنها تأبى الزوال والاندثار أمام رياح التغيير، فبدءا من شوارعها التي تشتم بها رائحة الزمن الجميل وصولا إلى المدينة القديمة «السويقة» هذا المكان الذي يختصر قسنطينة في عاداتها وتقاليدها وتعود بك للعيش بين أحضان «أيام زمان».
حيث لا تزال البيوت العتيقة قائمة رغم الانهيارات التي تباغتها بين الفينة والأخرى، هي التي تعرف بـ»ديار عرب» والتي تملك من الخصوصيات ما يجعلها عنوان المدينة العتيقة سيما بشهر رمضان الكريم، حيث تجدها تحافظ على خصوصيات هذا الشهر الفضيل حيث تجدها ترسم ماضي مدينة الجسور المعلقة الذي تختصره السويقة، والقصبة، سيدي جليس، مقعد الحوت، سيدي بوعنابة، الشط، رحبة الصوف، الرصيف بالحفاظ على عادات المدينة وتقاليدها.
«الشعب» وفي جولة مسائية للمدينة القديمة «السويقة» طمعا منها في العيش بين أحضان الذاكرة التي تأبى الزوال تتشبث بجدران «ديار عرب» التي ترفض أن تسلم ذاكرتها لرياح التغيير، هذه المنازل التي تعود لنشأة المدينة بأكملها وتعتبر من موروثها اللامادي المعروف لدى العام والخاص.. هي مدينة تتزين بجمال أصالتها المتأججة من طيبة سكانها.
سيرتا اليوم تحتفل بالشهر الفضيل وسط نفحات المدينة القديمة المتمثلة في ديار العرب المتناثرة بين مدنها القديمة، أين ترى رمضانيات قسنطينة من زاوية أخرى، هي زاوية تكللها شوارع لا تخلو من المساجد العتيقة وزوايا تعلوا منها تراتيل الذكر وآيات القرآن الكريم، وأزقة تتزين بأجود تقاليد الحياة الرمضانية بدءا من دكاكين قديمة تعرض أقدم الحلويات على غرار حلوى النوقة والمقرقشات، الكوكاوية والصامصة، لتأخذك رائحة القهوة الزكية نحودكان صغير يعرض أجود حبوب القهوة هذا الدكان الذي قيل أنه من أعتق الدكاكين بالمدينة، حيث لا يزال المواطن القسنطيني ورغم المتغيرات والتطورات الحاصلة، إلا أنه يفضل نكهة «قهوة السويقة» التي علقت بها ذكريات سيرتا العتيقة، فعلى طول دخولك لشوارع قسنطينة تجد نفسك وسط مدينة جل أزقتها قديمة تروي تفاصيل التاريخ والحضارات المتعاقبة على هذه المدينة التي تتحدّث التاريخ وتتنفس التقاليد وتتوارث العادات.
«ديار العرب» عبق التراث والحكايات الأصيلة وليالي المالوف
نحن نتجوّل رفقة أحد السكان القدماء بالمدينة العتيقة والذي أكد لنا صعوبة الحديث عن المكان أمام هذا الزخم والتراث الذي يتحدث من تلقاء نفسه، توجهنا رفقة «عمي محمد» الذي عاش كل حياته بـ»سيدي بوعنابة» إلى إحدى «ديار العرب» التي تدعوك منذ أن تطأ قدماك باب الدار لتتخيل ما كانت عليه هذه الديار فرغم قدمها وهوان الزمن عليها، إلا أن سكانها يصرون على الاستمرار بالعيش وسطها واستكمال عاداتهم وطريقة عيشهم وسط هاته القصور الصغيرة، التي ومنذ أن تطرّق على بوابة الدار من خلال ما يسميه أهل المدينة القديمة «الطرطايبة» وهي عبارة عن يد حديدية معلقة على واجهة باب المدخل تستعمل للطرق، لندخل بعدها الدار بروح الزمن الجميل نحو ما تسمى بـ»السقيفة» لنلاحظ حركة غير عادية تنم عن التحضيرات لطاولة الإفطار فرائحة «جاري الفريك» و»خبز الدار» تجذبك للتوغل أكثر والدخول «لوسط الدار»، لمعرفة ما تخفيه هذه الدار من أسرار الزمن القديم.
تقدمنا مع عمي محمد الذي رحّب بنا بشدّة ودعانا للدردشة وزوجته التي روت لنا أن عاداتهم التي يحافظون عليها بقوة في ظلّ التغيرات الحاصلة في المجتمع، حيث أن ليالي رمضان تختلف بالمدينة القديمة عن غيرها بالمناطق وذلك بسبب طبيعة العيش والعلاقات الطيبة التي بين العائلات القاطنة بديار العرب، حيث وبعد التحضير للإفطار والانتهاء من الأطباق التي تكون تقليدية بالدرجة الأولى في مقدمتها طبق الجاري فريك، طبق شباح الصفرة الذي يعود لعهد البايات، وخبز الدار بالجلجلانية، ليكون الإفطار فوق سينية يجتمع فيها كل أفراد العائلة، ليذهب بعدها الرجال لصلاة التراويح والنسوة يجتمعن في وسط الدار حول سينية القهوة المعبقة بماء الزهر المرفوق بالزلابية والنوقة المصنوعة بشوارع رحبة الصوف والتي لا يستغنى على وجودها في سينية السهرة.
بعد جلوسنا مع زوجة عمي محمد توجهنا صعودا للتعرّف أكثر عن تركيبة الدار الذي يتكون من عدد من العناصر التي كان يستخدمها سابقا أهل ديار عرب من بينها الدرابزي، دار الصابون، الدهليز وغيرها من الأسماء القديمة التي أخفاها الزمن لكن لم تنس من طرف أهل الدار العربي، كما لاحظنا عند صعودنا للسطح وجود قارورات تعرض للشمس والتي كانت حسب عمي «محمد» قارورات ماء الزهر والورد المقطر من طرف نساء الدار وهي العادة التي لم تفارق سكان مدينة قسنطينة ولا يزالوا يحافظون عليها، حيث لا تخلو عائلة لا من القطار ولا من ماء الورد والزهر.
الزلايج والرخام من مميزات دار العرب والسويقة تروي التقاليد
بعد الجولة التي قمنا بها بدار عمي محمد توجهنا رفقة صديقة عمي «بعزيز» هذا الرجل العليم بكل ما تخفيه المدينة القديمة والذي أراد مصاحبتنا ليرينا عدد من ديار العرب التي كانت من قبل والتي لا تزال آهلة بالسكان والتي كانت معظمها مبنية بمواد فخمة وجميلة الشكل وكانت تعود إجمالا لعائلات ثرية ومعروفة بمدينة قسنطينة، تأتي في مقدمتها ديار الزلايج التي عادة ما يتم تزين الجدران بها أما الدرج فتكون بالرخام والدرابزين بالخشب الممنقوش، هاته الجماليات التي كانت تعرفها ديار عرب بالمدينة القديمة منها ما تآكلت وجار عليها الزمن، والأخرى تعرضت للتخريب والهدم من طرف قاطني هذه المنازل للحصول على السكن ذلك في غياب حماية هذا الموروث الذي يروي تاريخ المدينة بأكملها، لتحدث لنا بحسرة عن أيام الزمن القديم وكيف كانت ديار العرب تصنع جمال عادات مدينة قسنطينة خصوصا عند حلول شهر الصيام والقيام أين تتزين بكل أنواع البخور وروائح المأكولات التقليدية وصناعة الحلويات التي كانت ولا زالت تنفرد بها عاصمة الشرق الجزائري بدءا من الجوزية وصولا لشباح الصفرة والصامصة، وبعدما أخذنا الحديث مع عمي بعزيز كنا قد وصلنا إلى «حومة طبالا بالقرب من «سيدي عبد المومن» التي بها دار عرب لا تزال تحتفظ بالقليل من عبق الماضي « والتي تعود لعائلة «بورشاش» ودار»قاواوية» والتي تتواجد منذ حوالي 350 سنة، ولدى دخولنا إليها تفاجئنا لجمالها فالرخام الزلايج كان ورغم انهيارهما الجزئي سيد الموقف حيث كانت تحوي دهاليز لربط الأحصنة، وبحسرة بدت على وجه عمي بعزيز الذي ذكر لنا كلا من دار ماجينوبالشط، دار «ولد بويا» في زنقة «بلمناحي»، وعدد من ديار عرب الذين وجدوا الإهمال والتسيب مصيرهم.
مقهى «النجمة» تروي ألف قصة وقصة عن ليالي المالوف
بعد جولتنا بديار الرب التي كانت لا تزال تصارع الزمن من أجل البقاء، توجهنا مباشرة نحوالأزقة الضيقة والحارات التي كانت تتنفس الحياة سكانها يعيشون على أمل البقاء وسط تلك المنازل الهشة التي تنبعث منها رائحة تاريخ قسنطينة وعطر عاصمة الشرق فبدءا من محلاتها التي تعرض ما لذ وطاب تجد كل سكان المدينة يتوجهون للسويقة بحثا عن رائحة الشهر الفضيل، حيث تجد الحيوية والنشاط، ليؤكد لنا احد الباعة أن السويقة تعتبر نواة المدينة حيث تعرف منذ حلول شهر رمضان الكريم توافد هستيري ذلك لما تتوفر عليه من سلع فضلا عن الأسعار التي تكون عادة في متناول المواطن البسيط، حيث أكد لنا أحد الباعة أن السويقة هي هي ملخص عادات وتقاليد المدينة العريقة فالزائر لها يشتم أنامل المرأة القسنطينية في تحضير أشهى أطباق التي تشتهر بها قسنطينة بشهر رمضان الفضيل، حيث وأنت تتجول تحس بأنك وسط دار عرب كبيرة روائح الأطباق التقليدية تصنع جور رمضاني مميزة، هذه النفحات وغيرها تجعل سكان المدينة العتيقة «قسنطينة» يتذكرون العادات والتقاليد رغم النسيان الذي ضرب العديد منها على غرارمدفع رمضان الذي كان متواجدا في منطقة المنصورة، بالإضافة «لبوطبيلة» هذا الذي كان يقوم بإيقاظ السكان للسحور، وكانت العائلات تقدم له الحلويات ومبلغا من المال يوم العيد.
ومن العادات القديمة أيضا هي السهرات الموسيقية في المقاهي، حيث كان يجتمع شيوخ المالوف في مقاهي المدينة القديمة في السهرات الرمضانية كمقهى «النجمة» المعروفة ب«القفلة» هذه المقهى التي كانت تعتبر ملتقى سكان المدينة منهم الفنانين المولاعين بفن المالوف.——