“الشعب” ترصد واقع المجتمع المدني في الجزائر

أكثر من 90 ألف جمعية، لكن غالبيتها غائبة عن الميدان

استطلاع: العيفة سمير

تكشف مصادر وزارة الداخلية والجماعات المحلية عن وجود 90 ألف جمعية ولجنة على الورق، بينما يبقى النشاط الميداني من اختصاص قلة قليلة، كما أن الكثير منها يخرق القوانين ويرفض إجراء الجمعيات العامة وتقديم الحصيلة السنوية، حتى لا يفضح أمرها. كما أن الكثير منها يفضل العمل الموسمي والمناسباتي للظهور وتحقيق المصالح الضيقة على حساب الهدف الذي أنشئت من أجله.ككل استحقاق انتخابي تستنفر القوى السياسية في الجزائر من أحزاب وجمعيات قواعدها، من اجل حشد أكثر عدد من المؤيدين والأنصار سواء لحزب معين أو لبرنامج متعلق بفرد أو مجموعة من الأشخاص، والكل شعاره الوصول إلى المواطن محل العملية الانتخابية من أقصر طريق، والاستئثار بالمزيد من المؤيدين.
قبل اليوم كان المجتمع الجزائري يميل إلى العشائرية والى العروشية، وتتضح معالم ذلك أكثر ككل موعد انتخابي ترى الكل يعزف على هذا الوتر، من اجل استمالة الناخبين إليه، التركيز على رابطة الدم أكثر من أي رابطة أخرى، أين كان المستوى التعليمي محدود بين فئات المجتمع الجزائري، المعيار الوحيد للتأييد هو مدى قرابة المواطن من حزب سياسي أو مرشح سياسي معين. كما أن المجتمع الجزائري قبل هذا لم يعرف الجمعيات واللجان والهيئات بصفة كبيرة كما هي عليه اليوم، الكل كان في وعاء واحد كانت الرابطة الوحيدة بعد الوطن هي العرش.
منذ التسعينيات حظي المجتمع الجزائري بامتيازات جمة وعلى جميع الأصعدة، انخفض مستوى الأمية بين فئاته، وانحصر دور العروشية والقبلية إلى أن تلاشت تقريبا في أغلب ولايات الوطن، ماعدا بعض الجهات المحدودة  فانصهر الجميع في الوطن الواحد. وأعيدت صياغة التركيبة الإثنية في المجتمع الجزائري بطريقة عفوية ليحل محلها جمعيات المجتمع المدني من جمعيات مدنية ولجان أحياء وهيئات قائمة على شؤون قطاعات عديدة من المجتمع، هذه الجمعيات لا ننكر دورها في ملء الفراغ الذي نشأ من اندثار العروشية والقبلية، كانت صورة حضرية بامتياز، تعكس مدى تمسك المواطن بقناعاته سواء بالحزب أو الجمعية أو الهيئة، المعيار الوحيد للانتماء هو القناعة الشخصية، كما كان لها دورا حضاريا كبيرا جدا في تهيئة البلديات والأحياء، وكذلك كانت عبارة عن الوعاء الشفاف الذي يعكس مطالب أفراد المجتمع ويقربهم من الإدارة بشكل دوري، كما كان لها دورا كبيرا في الربط بين القمة والقاعدة بطريقة حضارية وبآليات المدنية الحديثة .
وسعت “الشعب” من خلال هذه الوقفة لمعرفة واقع هذه الجمعيات في المجتمع الجزائري والبحث عن الدور الحضاري الذي أريد لها انطلاقا من عنابة كعينة عن المجتمع الجزائري الكبير، ما هو واقع جمعيات المجتمع المدني في هذه الولاية العريقة؟
المواطن ......
 ينعدم لثقافة المجتمع المدني
جمعيات المجتمع المدني هي الصورة الحضارية لأي مجتمع في العالم، فعددها وشكلها وتنظيمها وهيكليتها في أي مجتمع تدل على مدى تحضر أي امة، حتى وجودها في حد ذاته هو جزء من الممارسة الديمقراطية، فمستحيل أن تتم ممارسة الديمقراطية بعيدا عن جمعيات المجتمع المدني، بل ممارسة الديمقراطية تنبع من جمعيات المجتمع المدني في حد ذاتها.
أردنا في هذا الاستطلاع الميداني، أن نغوص في المجتمع العنابي أكثر ونقف على حقيقة هذا الكيان الاجتماعي الذي كان من المفروض أن يكون العمود الفقري للتركيبة الاجتماعية، بل هو الرابطة الأشمل لكل المؤسسات الاجتماعية الأخرى انطلاقا من الأسرة، المدرسة، المسجد، الجامعة ...
وكم كانت دهشتنا كبيرة لما عرفنا أن أغلب المواطنين في ولاية عنابة لا يعرف حتى معنى هذا المصطلح، فالمواطن ينتمي إلى هذا الكيان الاجتماعي بطريقة عفوية، فأغلب من التقينا بهم لهم سواء انتماء في جمعية أو في نادي أو في لجان حي، وحتى أولئك الذين لا ينتمون إلى هذه الهياكل فهم متعاطفون جدا خاصة مع الجمعيات ولجان الأحياء، وخاصة في الأعمال الخيرية وترتيب وتنظيف الأحياء، فمثلا عبد الرحمان مواطن في الاربيعينيات من عمره من قلب الولاية، تاجر، يقول: “حقيقة كثر الحديث عن هذا المصطلح منذ مدة، لكن لا نعرف حتى مدلوله، وهذه مشكلة كبيرة”، سألناه هل تنتمي إلى جمعية قال “نعم”، وهل تنتمي إلى حزب سياسي قال “نعم “، وهل تؤمن بالبرامج المقدمة من الجمعية أو الحزب ؟ قال” إذا كنت لا أؤمن ببرامجهم فلماذا انتمي إليهما أصلا “... حقيقة كانت إجابته عفوية جدا، لكن تركت لنا ارتياح كبير، فهو عينة للمواطن الذي أصبح يعرف البرامج أكثر من معرفته بالهياكل، وهذا شيء يبعث على الارتياح.
كذلك مواطن ثان من “لالي روز” في الأربعينيات من عمره، قلنا له هل تؤمن بالعمل الجمعوي؟ ولجان الأحياء؟ والأحزاب؟ وماذا تعرف عن مؤسسات المجتمع المدني؟ قال بالنسبة للأحزاب أنا لا أؤمن بأي انتماء حزبي، لأن الساحة السياسية مؤخرا غلبت عليها الانتهازية ورجال المال والأعمال هم من يحركون اللعبة، فأنا لا أؤمن بكذا أحزاب سياسية، أما الجمعيات، قال أؤمن بالعمل الخيري  التطوعي وفقط، أما المصطلح قال سمعت عنه الكثير لكن لا أنافق فأنا مستواي التعليمي محدود، وبالتالي لا أعرف معناه بالضبط.
ارتأينا من خلال هذه العينة في استطلاعنا هذا، أن نضبط مفهوم المجتمع المدني نظرا لغياب جهات تضع المفاهيم وتبسطها ولو على مستوى عملي إجرائي وفقط. ثم نعود إلى بقية الاستطلاع.
يقول الدكتور بوحنية قوي للمجتمع المدني عناصر يمكن أن نلخصها فيها، في أن المجتمع المدني هو رابطة طوعية يدخلها الأفراد باختبارهم. ويتكون المجتمع المدني من مجموعة من التنظيمات والروابط في عدة مجالات كالمؤسسات الدينية والإنتاجية والتعليمية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية والأحزاب السياسية. وانه مجتمع الاختلاف والتنوع والالتزام بإدارة الاختلاف داخل قطاعاته المختلفة بالوسائل السلمية المتحضرة، وهو مجتمع يركز على قيم الاحترام والتعاون والتسامح. وإن للمجتمع المدني امتدادات خارج حدوده تتمثل في توسيع مؤسساته وانتقال فعالياتها إلى مجتمعات أخرى، وتتبلور هذه العناصر الجلية بالتجربة المقياس أو بالتجربة التي تصبح نموذجا للاحتذاء والتقليد.
ولاية عنابة مدينة سياحية، تضم تمثيلا ولائيا لكل التيارات والأحزاب السياسية التي تتمتع بها الجزائر، وقد أفرزت الانتخابات التشريعية الأخيرة في الساحة السياسية الجزائرية أزيد من أربعين حزب سياسي، وهو مكسب كبير للجزائر والشعب الجزائري من أجل إرساء دعائم الديمقراطية وتمثيل المجتمع على اختلاف مشاربه تمثيلا دقيقا وصحيحا، هذه الأحزاب لها دور مدني أكثر من أدوارها السياسية، القاعدة الأساسية لهذه الأحزاب هي المواطن، لابد أن تصل برامجها إلى مسامع هذا المواطن، وبازدياد عددها تزيد المنافسة فيما بينها ،لابد لها أن تغوص أكثر في المجتمع بجميع فئاته وتستيجب لأبسط متطلباته، لقد بات الرأي العام المحلي والوطني أكثر نضجا وتمييزا وفهما ووعيا وإدراكا، أصبح المواطن يعرف مصلحته أكثر من ذي قبل، مما يحتم على هذه الأحزاب أن تلتزم الصدق والموضوعية والشفافية في مخاطبة هذا المواطن.
فككل استحقاق انتخابي لم يعد المواطن العنابي يجتمع على الولائم، كما كان من قبل، بل أضحى المواطن يجتمع على البرامج التي جاءت بها هذه الأحزاب والتشكيلات السياسية، خاصة في المحليات. فعهد الولائم وشراء الذمم قد ولى، مما يحتم على هذه الأحزاب النظر بعين اليقين إلى المخارج السليمة في كل موعد سياسي وإلا مصيرها الزوال.
المجتمع في حاجة ماسة إلى الممارسة الديمقراطية السليمة التي تفرز من هو أصلح للبلاد والعباد. فهذه الأحزاب وعددها واختلاف انتماءاتها بات يبعث على الارتياح من اجل تمثيل سليم للمجتمع.
ومن خلال متابعتنا للانتخابات التشريعية السابقة، حقيقة مازال أمام هذه الأحزاب مشوار كبير من اجل تحسين الأداء، فالعدد والكثرة لا تعني مطلقا اداءا راقيا، وبالتالي ننتظر المحليات لكي تبدع هذه التشكيلات السياسية في وضع برامج تصل إلى مستوى تطلعات مواطني الولاية خاصة والجزائر عامة.
 لجان الأحياء تبتز
 المواطن بدلا من خدمته
تتمتع ولاية عنابة بما يزيد عن 33 جمعية، منظوين تحت لواء الاتحاد الولائي لجمعيات الأحياء، يتوزعون على أغلب تراب الولاية، مؤخرا بات دور هاته الجمعيات ينافس دور المصالح البلدية في عاصمة الولاية، خاصة ما تعلق بالشق الاجتماعي على مستوى الأحياء والمؤسسات الاجتماعية الأخرى كالمساجد، وكذا المدارس وكذا حملات تنظيف المحيط وتوظيب الحدائق والأماكن العمومية والمساهمة في العمل الخيري والتبرعات، وتنظيم أعراس جماعية كما شهدته عاصمة الولاية هذا الأسبوع بتنظيم زواج جماعي انطلاقا من تبرعات المحسنين وبإشراف بعض هذه الجمعيات، العملية تتطلب المزيد من التشجيع والمزيد من الإشادة، حقيقة شيء يبعث على الفخر أن يحمل أطفال وشباب وكهول الأحياء المعاول وأدوات التنظيف لينوبون على عمال البلدية الذين كانوا في إضراب الأسابيع الماضية ويشرفون بأيديهم على تهيئة محيطهم القريب. لكن لابد من الالتفاتة إلى هذا الهيكل الأساسي في المجتمع وتزويده ببرامج اجتماعية تمس جميع اهتمامات المواطن أليس هذه الجمعيات هي الأقرب من المواطن من باقي الأحزاب والإدارات العمومية؟لابد من تزويد هذه الجمعيات بواقع الولاية بشكل دوري وعلى جميع القطاعات، فهناك افتقاد إلى التنسيق بصورة كبيرة بين مؤسسات المجتمع. بالأمس عانت الولاية من موجة عنف، أضحت تؤرق مواطني الولاية، فأين دور هذه الجمعيات في كذا ظروف غير طبيعية؟ فرغم كثرة عددها لكن أداءها مازال محدودا وباهتا في العديد من القطاعات، وهذا بطبيعة الحال تتحكم فيه العديد من المتغيرات، خاصة المتغيرات المادية التي لابد أن تأخذ هذه الجمعيات الميزانية الكافية بناءا على برامجها الشهرية والفصلية والسنوية.
هذه الجمعيات هي القاطرة التي تقود المجتمع سواء باتجاه ايجابي أو باتجاه سلبي، لابد أن تتجاوز التركيز على العمل الخيري وفقط إلى باقي المجالات التي بات المجتمع العنابي في حاجة ماسة إليها أكثر من ذي قبل، خاصة من ناحية تناول أهم المواضيع والقضايا التي تمس المجتمع بصفة مباشرة كقضية الأمن، وتوزيع التجار على مستوى المدينة، والمساهمة في الانتخابات المحلية وكل الاستحقاقات الوطنية بما يضمن الحد الأدنى من نجاح هذه المواعيد على مستوى محلي، لأن هذا رئيس البلدية الذي سوف تفرزه الانتخابات سيصبح جزءا من هذا النسيج الاجتماعي والذي تعتبر الجمعية أو لجنة الحي العمود الفقري فيه.
ما نخلص إليه في هذا الاستطلاع أن غياب أو ضعف أو محدودية مؤسسات المجتمع المدني، يضعف إمكانات تبلور نمط حديث من التنظيم  السياسي التعددي، وبالتالي نظام ديمقراطي يشجع على المشاركة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024