تثير حركات بعض دعاة شن إضرابات حفيظة عالم الشغل، في وقت حققت فيه الشرائح المهنية والاجتماعية مكاسب لاتزال قائمة، بالرغم من الظرف الاقتصادي الصعب. للأسف، ينجرف البعض وراء شعارات ظاهرها براق ومخادع بينما تخفي مضامينها غموضا ومطالب مبهمة وإلا لماذا الخشية من الجلوس إلى طاولة الحوار من أجل معالجة المسائل المتعلقة بالمطالب المهنية والاجتماعية وفقا لمنهجية تحكمها الواقعية.
حقيقة يكفل الدستور الحق في ممارسة الإضراب، لكن لا ينبغي أن يندرج في مسار يرسمه البعض ممن لديهم هيمنة على قطاعات لها ثقلها في المشهد الوطني وتبين أن هناك تنظيمات نقابية تحترف ألاعيب خفية لمحاولة التموقع في المشهد من أجل غايات يصعب فهمها.
لقد أكد رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة، الحرص على حماية مكاسب كافة العمال وعدم تعريضها للخطر، من بين تلك المكاسب الحقوق الاجتماعية وأبرزها التقاعد بالصيغة السارية اليوم والتغطية الصحية، ما يتطلب من المجتمع الحذر وتفويت الفرصة على من يسعون للدفع بالأوضاع إلى التعفن والزج بعالم الشغل في متاهات لا مخرج منها. ولايزال الرأي العام المتحرر من أي إيديولوجيا أو تحزب وغير مصاب بنزعة جلد الذات، حذرا من الحركات الاحتجاجية التي صمّت آذانها لمطالب الحوار والنقاش بالمعايير الموضوعية، إلى درجة أن تنظيمات محددة تقوم بتحدي السلطة القضائية غير معترفة بأحكام تبطل إضرابها وتدعو قيادتها إلى العودة للعمل وتحمّل المسؤولية المواطنية.
هي نفس النقابة التي تعلن انخراطها في الدعوة المشبوهة للإضراب اليوم، في وقت أصبح فيه جيل كامل من التلاميذ رهائن كأنهم اختطفوا في لحظة تم التصديق فيها أن المعلم كاد أن يكون رسولا، لكن هيهات أن يكون أولئك من تخلوا عن الضمير المهني وتجرّدوا من المسؤولية الاجتماعية، ما عدا الذين لايزالون في خندق الوفاء للمدرسة الجزائرية، يواصلون حمل الرسالة المقدسة ولو كانت بهم خصاصة.
كيف يمكن لمن يضرب عن التعليم أن يواجه تلاميذه غدا، خاصة لما يقوم واحد منهم يرفع صورة المعلمات اللواتي سقطن خلال العشرية الدموية بإحدى قرى سيدي بلعباس ضحايا الألة الإرهابية المقيتة، أين يمكن تصنيف من يتظاهرون بالزعامة النقابية اليوم، مقابل الالتزام البطولي لتلك المجموعة من المعلمات اللواتي ضحين بأرواحهن من أجل تأمين حقوق أبنائنا في العلم. طبعا لا مجال للمقارنة، فشتان بين من بقى على العهد وفيّا ومن يمارس الإبتزاز من أجل مصالح ضيقة تدفعها أنانية تدينها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والأخلاق الإنسانية.
لا مجال أكثر جدوى لتجاوز الأوضاع، مهما كانت صعبة، من الاحتكام إلى الحوار الإجتماعي الذي يتطلب من المنخرطين فيه التشبع بروح المسؤولية الاجتماعية والقدرة على الاإناع مع طول النفس، فكم هو سهل تدمير بناء شيّد بالمعاناة والتحمّل وكم هو صعب بناؤه مجددا.
يكفي أن يقف كل فرد لحظة مع ضميره ليقيس درجة الخطر المحدق ببلادنا التي تواجه تحديات متعددة الحوانب، تستدعي أن يقف كل واحد في مربعه مخلصا لوطنه وفيا لمجتمعه مشمرا على ساعديه من أجل تدارك الوقت والإمساك بخيط الخروج من الأزمة.
إن الأوضاع في مدارسنا العمومية ومستشفياتنا المختلفة ومؤسساتنا الاقتصادية ومرافقنا الإدارية، على ما فيها من نقائص واختلالات، تتطلب علاجا لا يمكن أن يتأتّى إلا بالعودة إلى قيمة العمل المحاط بالأخلاق حتى تسترجع الثقة، والانتقال بعدها إلى تفكيك القنابل الموقوتة بالحوار المفتوح ضمن الأطر الشفافة بعيدا عن أي ابتزاز أو انتهازية أو تطاول.
وليس من خطر على عالم الشغل من الترويج لمغالطات أو التسلل من خلال استثمار سيئ النوايا في صعوبات يواجهها العمال للوصول إلى غايات ذاتية وتكون هدامة إذا ما ارتبطت بالخصوص بمصالح حزبية أو دوائر أجنبية أو مراكز نفوذ لا هوية لها سوى الربح بأي ثمن ولو بتعريض سلامة واستقرار الوطن، كل الوطن، للخطر وهذا خط أحمر لا مجال فيه للعبثية.