دحر داعش في أوكاره بالعراق وسوريا، لا يعني أبدا نهاية الإرهاب، بل إن إختفاء قيادات وعناصر هذا التنظيم الدموي بهذه السرعة وتواريهم عن الأنظار إنما يدعو إلى التساؤل عن مكان تواجدهم بعد تلقيهم الأوامر بالإنسحاب إلى نقاط محصنة ومضمونة بمثابة إقامات مؤقتة عبارة عن مراكز لاستراحة المحاربين ريثما يعاد رسم لهم خارطة طريق أخرى، وإتجاهات ثانية.
اليوم، وبعد انهيار دفاعات داعش، وعدم قدرتها على الصمود في وجه الضربات المتتالية الموجهة لها بكل بدقة غابت تلك القراءات القائمة على مرحلة مابعد داعش التي كنا نعتقد بأنها ستكون معالم لمعرفة محطات توقف كل هؤلاء الذين فروا من تلك المناطق التي كانت مشتعلة، لكن للأسف مازالت دار لقمان على حالها، ونعني بها أن المواجهة مفتوحة في ظل تعقد الوضع في تلك الساحات الأولى.
وكان لابد علينا بناء على ما حدث لداعش في العراق وسوريا، أن نتبع مسار هؤلاء ومحطة توقفهم، دون الغوض في أعماق المسأل حتى لا نتيه في عالم من الفرضيات، وإن إستبقنا الأحداث نود فقط القول أين ذهبوا؟ هل بقوا هناك أم تحركوا في رحلة أو مغامرة جديدة؟ وإلى أين يا ترى.
الإحتمال الأكثر ورودا هو أن تنقلهم سيكون نحو منطقة الساحل بحكم توفر عدة عوامل منها بالأساس البحث عن ملتقى للجماعات الإرهابية من موقعين جغرافيين أعالي الشرق الأوسط، وأعماق إفريقيا، لبناء منظومة دموية جديدة متكيفة مع طبيعة المنطقة وهؤلاء بصدد إيجاد هذه الصيغة في ظل هذا السكوت الرهيب، لإعلان ما ينوون القيام به، حتى وإن كانت هذه المهمة صعبة ومعقدة إلى درجة قد يستبعدها الكثير أن صنفوها في خانة إندثار هؤلاء في زمن قياسي.
هكذا جاء في مذكرة الجزائر إلى قمة الإتحاد الإفريقي الأخيرة بأديس أبابا، بأن هناك ٥٠٠٠ إفريقي من جنسيات مختلفة ينشطون مع المجموعات الإرهابية في القارة وفي مناطق النزاعات المسلحة الأخرى، وبالتوازي مع ذلك قدر المكتب الأمريكي للإستشارة في المجال الأمني عدد الإرهابيين الذين عادوا إلى بلدانهم الأصلية بـ ٥٦٠٠ إرهابي ينحدرون من ٣٣ جنسية، كما أن ٤٠ ألف مجند ينتظرون الإنضواء تحت أي لواء مابعد داعش، وإستنادا إلى هذا المركز فإن ٧٧١٧ قدموا من الإتحاد السوفياتي سابقا، ٧٠٥٤ من الشرق الأوسط و٥٧١٨ من أوروبا الغربية و٥٣١٩ من المغرب العربي.
هذه المؤشرات تعود إلى شهر أكتوبر فقط، ما يوحي بأن إعادة إنتشار الإرهابيين وتوزيعهم فرضية قائمة بذاتها، ولا يمكن تجاهلها أبدا، لأن كل السيناريوهات تجري بعيدا عن الأنظار وفي غرف مظلمة لفرض واقع جديد.
وإستراتيجية الجزائر في هذا الشأن رائدة ونموذجية بشهادة الدوائر العالمية.
المتابعة عن كثب لهذا الملف الشائك مبنية على العمل الإستباقي وتحصين الذات من الأذى بتأمين الحدود تأمينا كاملا، ومن حقها اليوم أن تسعى من أجل إبقاء محور محاربة الإرهاب يقظا لمنعه من أي تمدد باتجاه فضاءات أخرى، فلا يعقل أن تتغلغل تلك الأعداد الهائلة بكل السهولة التي تريدها لأي بلد وتستقبل أو بالأحرى يرحب بها، وهي ماتزال حاملة لفكر ايديولوجي متطرف.
وعليه، فإن الضربات الموجعة والقاتلة التي تلقاها الإرهابيون في تيڤنتورين ماتزال عالقة في أذهان الكثير من هؤلاد وحفظوا جيدا مقوله «من تخطى الحدود لا يعود» ومنذ تلك اللحظة اكتسبت الجزائر خبرة غير مسبوقة في هذا المجال، وبخاصة في إدارة ملف الإرهاب بكل أبعاده وإفرازاته.
ولا يمر حدث دولي، إلا وتكون الجزائر حاضرة فيه لعرض عصارة تجربتها في هذا الميدان وبخاصة في المنطلقات المتعلقة بكيفية إنهاء النزاعات المسلحة في حالة إندلاعها أي في الجوانب السياسية الذي تنفرد به بلادنا، وكم من دولة إستفادت من هذه الآلية.
وهكذا وبناء على هذا العمل المتبصر، والبعيد المدى صنف مؤشر الإرهاب العالمي لمعهد الاقتصاد والسلام بلندن الجزائر في المركز الـ ٤٩ من بين ١٤٩ بلدا معتبرا إياها من البلدان النادرة التي سجلت انخفاضا استثنائيا في العمليات الإرهابية وهذا وحده دليل على وضوح الرؤية لدى السلطات الجزائرية فيما يتعلق بالجهود المبذولة في إطار مكافحة الإرهاب وفق نظرة دقيقة جدا، إقليميا، قاريا ودوليا.