بعيدا عن الأنانية

سعيد بن عياد
26 ماي 2020

الاقتراحات التي تضمنتها المسودة الخاصة بتعديل الدستور جاءت لتطلق النقاش وتغذي الأفكار من مختلف الشركاء، بمن فيهم الخبراء في التشريع الدستوري قصد بلورة تصورات أكثر نجاعة لصياغة دستور واقعي وملائم للتطلعات التي يتقاسمها الشعب الجزائري.
ما يحتاج إليه بناء مسار تعديلي ينقل الأوضاع إلى مستوى متقدم في الممارسة الديمقراطية، من خلال إرساء مؤسسات منتخبة ذات تمثيل شامل ومتنوع يستمد قوته من الإرادة الشعبية، في ظل مناخ شفاف يسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه بتروٍّ وهدوء بعيدا عن المغالطات والتشنجات، أن يساهم كل طرف، سياسي وإعلامي وقانوني، في تنمية النقاش بتقديم اقتراحات وبدائل تساعد على تأطير النقاش الحزبي والسياسي واسع النطاق لإنضاج المشروع، بما ينسجم مع التوجهات العامة التي يرسمها المشهد الوطني بتفاصيله المختلفة لترجمة أرادة الجزائريين في التغيير الهادئ والمتدرج، بعيدا عن أي مغامرة باتجاه ما ترمي إليه بعض الاتجاهات غير الموضوعية بمحاولة إدراج التعديل في سياق غير الذي يريده الشعب الجزائري.
لذلك، فإن السقوط في إصدار أحكام جاهزة ورؤى ذاتية تتأثر بإيديولوجيات وآراء فئوية أو تفتقر للموضوعية، لا يقدم الإضافة المطلوبة، بل يعيق النقاش ويثير تحفظات لا يعقل أن تلقي بظلالها على مسار ولادة دستورية يرتقب أن تقود إلى بناء توافق شامل على أوسع نطاق لتمكين البلاد من المرور إلى بناء مؤسسات شعبية دستورية تنسجم مع التطورات التي عرفتها البلاد، بما في ذلك إدراج الرسائل القوية التي حملها «الحراك» السلمي في نسخته الأصلية التي عكست وجود إرادة شعبية حريصة على الوحدة الوطنية وارتباط وثيق مع الهوية بثوابتها الراسخة وتمسك بقيم العدالة والمساواة والكرامة، مع تأكيد الصلة بالذاكرة التاريخية بكل معانيها، بما فيها العلاقة الجدلية التفاعلية مع المؤسسات الدستورية المحورية، أبرزها الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني.
إن النقاش حتى يحقق أهدافه للجميع، ينبغي أن يتناول الوثيقة في مضامينها بتوجيه الملاحظات مشفوعة باقتراحات من أجل تحقيق تقدم في العملية، مع التزام اليقظة بتفادي السقوط في قراءات سلبية لا تخدم ما يتوخاه الجميع من سعي لبلوغ تشريع دستوري راق ومحكم وواضح، يتضمن كل ما ينتظره الجزائريون في القواعد المحورية المتعلقة بعمل المؤسسات وتوزيع الصلاحيات وتدقيق للحقوق والواجبات، بحيث يمكن حينها من تعميق البناء الديمقراطي المنسجم وترسيخ معانيه الجوهرية في إقامة دولة المؤسسات، حيث لا مجال للشخصنة في ممارسة السلطات.
إن التعديل، كما يتطابق مع الرغبة الشعبية بمعيار الموضوعية والحيطة من الهوى والنزعات الضيقة، يرمي إلى تدارك النقائص وإنهاء التداخل ومعالجة مواطن الخلل والغموض، بإدراج أحكام أكثر دقة وتوازنا تراعي الخصوصية الجزائرية في كل أبعادها، بحيث يمكن الوصول إلى دستور يضمن الحد الأدنى من التوافق الضروري لتمكين البلاد من إنجاز أهداف التغيير دون التنكر للموروث الذي تم بناؤه منذ الثورة التحريرية وغداة استرجاع السيادة الوطنية.
في هذا الإطار، فإن رابطة المواطنة وروح الانتماء، التي لا تختلف مع الرغبة الجموحة في بلوغ أرقى مستوى للممارسة الديمقراطية التعددية، تقتضي أن يعمل كل واحد من خلال مساهمته في النقاش على حماية المكاسب الدستورية من مغالطات البعض وتحريفات البعض الآخر وتنوير الرأي العام بالحقائق، من خلال تحاليل مفيدة وآراء جريئة لا مكان فيها للنزوات، بحيث يتم قطع الطريق أمام تجار الأزمات ومروجي المغالطات، حتى تكون الصورة واضحة لدى المواطن، ليتمكن من اتخاذ القرار الصائب، وفقا للتوجهات الوطنية الراسخة المتوارثة عبر الأجيال.
لذلك، فإن ما حملته المسودة ليس اعتباطيا وإنما يقدم صورة تراعي الواقع وتمنع التفرد بالقرار في مجال الفصل بين السلطات وتمنع مثلا الهيمنة باسم الغالبية البرلمانية في مجال تعيين رئيس الحكومة حتى يتحقق عنصر السلطة المضادة، وكذلك تمكين استقلالية القضاء دون فتح المجال أمام الاستحواذ عليها من أهل المهنة ما يعيد هاجس الاحتكار ويعرض العدل للخطر، إذ لابد من إقحام شركاء آخرين في مجال العمل القضائي على أعلى مستوى لتأمين العدل، باعتباره جوهر العمل القضائي وغيرها من التعديلات التي تمثل الحد الأدنى الممكن لحل معادلة الدستور، ما يعطي طابعا دستوريا توافقيا أكبر من إجماع لم يعد له معنى في المجتمعات المتحضرة القائمة على التوازن في كل شيء، فما بالك بالدستور.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024