صورة جديرة بالتوقف عند أبعادها تلك التي جسدها انتقال السلطة في إطار الدستور بمناسبة تسلم الرئيس تبون مقاليد الحكم من رئيس الدولة المنتهية مهامه بن صالح بعد انتخابات تم التوصل إليها في ظل توافق بين الطبقة الحزبية وقبول من الشعب لإدراكه مدى التحديات الخطيرة إذا استمر الانسداد.
استئناف المسار الدستوري على ما في الدستور الحالي من اختلالات وتناقضات وضعها تبون في مقدمة ورقة الطريق للمدى القريب بالتأكيد على الذهاب في الأشهر الأولى من عهدته إلى فتح ورشة تغيير القانون الأسمى وصياغة دستور آخر جديد متوازن وواضح يستجيب لتطلعات الشعب في إرساء ديمقراطية حقيقة على أساس مبادئ تحمي الحريات وتعمقها وتجسد الفصل بين السلطات وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وفقا لمعادلة تقاسم المهام وإشراك مختلف الشركاء في ممارسة السلطة تحت رقابة الشعب صاحب السيادة الأول والأخير.
أمر آخر يستحق التنويه يتمثل في حضور المنافسين الأربعة على منصب الرئيس حفل تنصيب من فاز بثقة أغلبية الشعب مما يعبّر عن نضج الطبقة الحزبية ارتفاع درجة الحس بالمسؤولية، وهي رسالة إيجابية للساحة الحزبية لتأسيس ثقافة الاحترام المتبادل بين المتنافسين والرقي بالسلوك تجاه الأجيال التي تستعد لا محالة لخوض دروب الانتخابات في المستقبل من خلال التشريعيات والمحليات القادمة، التي سوف تستوعب كل الشركاء من معارضة ومن لهم طموح في التقدم لطلب السلطة من الشعب إلى غيرهم ممن يعتقد أنهم على قناعة بالتقدم لخدمة البلاد وإنجاز التحول الديمقراطي بالعودة إلى السكة الصحيحة حيث لا مجال فيها للمال الفاسد.
كانت رسالة تبون واضحة بهذا الخصوص حينما قال إن التغيير الدستوري والقانوني لنظام الانتخابات سوف يقطع الطريق أمام ممارسات الماضي التي فتحت المجال أمام المال الفاسد ليتغوّل أمام إرادة الشعب، وذلك بتصحيح الوضعية ليمكن الفصل بين الممارسة السياسية والمال والأعمال، ومن ثمة فتح السبيل أمام الكفاءات من الشباب وأصحاب المبادرات للتقدم إلى الحقل السياسي بنفس الحظوظ ليحسم الشعب وحده الخيار على أساس القناعة والبرامج، تماما مثلما هو جار في البلدان المتقدمة، بالموازاة مع انتهاج الإعلام بكل توجهاته خط سير مهني ليقف على نفس المسافة من الجميع وفي كل المواعيد إسهاما في ترقية الديمقراطية واحترام إرادة الناخبين بعيدا عن أدنى تغليط أو تشويه أو ابتزاز.
ولعل ما يثير الانتباه، علاوة على تأكيد إنجاز الالتزامات المتعهد بها في الحملة الانتخابية خاصة إطلاق ورشات كبرى لتغيير الدستور وتصحيح قانون الانتخابات وإرساء الحوار مع الحراك وكل الفئات في المجتمع، دخول الرئيس تبون مباشرة في معترك الحياة الاقتصادية بإشرافه اليوم شخصيا على انطلاق معرض الإنتاج الجزائر، ليوقع بذلك بداية المسار الجديد من البوابة الاقتصادية التي تفتح آفاق المرحلة القادمة، وبالرغم من ثقل التحديات المتراكمة جراء تعطل عجلة الاستثمار منذ حوالي سنة، وتعقيدات الملفات ذات الصلة، مثل العقار والتمويل ومناخ الأعمال، إلا أن الرؤية التي قدمها تنبئ بأن مفاتيح الأزمة بكل جوانبها بيده ويجيد استعمالها خاصة لما يخاطب المستثمرين وأصحاب المشاريع ورؤساء المؤسسات الشرفاء، بلغة مباشرة، يدعوهم للانطلاق في العمل في الميدان وعدم البقاء في حالة تردد نتيجة الصدمة التي أحدثتها عجلة مكافحة الفساد التي داست على المتورطين فيه.
يمكن اعتبار هذا المعرض محطة لتأسيس انطلاقة قوية بقوى جزائرية مادية وبشرية فيها من الإرادات الصادقة التي تبحث عن فرض استثمار أو شراكة من أجل المساهمة في التغيير الملموس من خلال إنتاج الثروة لفائدة المجموعة الوطنية وتوفير فرص العمل للشباب وخاصة الجامعيين، والأكثر أهمية تأكيد الوجود في السوق أمام منافسة خارجية لطالما عطلت النمو بسبب غياب رؤية لدى الأطراف التي تولت الحكم قبل منعرج التغيير وكادت أن تقدم الاقتصاد بكل ثرواته على طبق من ذهب لقوى خارجية معروفة لا يهدأ لها بال كلما عادت الجزائر إلى الواجهة.
الرسالة تكون وصلت بالتأكيد إلى كل الضمائر الحية بما فيها المواطنين الذين ينشطون في إطار «الحراك» السلمي لما تبين من أن الرجل صادق ومنسجم مع التوجه الوطني الذي انخرطت فيه البلاد بمرافقة من الجيش الوطني الشعبي الذي جسد حقيقة ارتباطا بتقاليد وقيم جيش التحرير الوطني الذي أنجز أبناء جيله ولا يزالون من المخلصين الأوفياء، رسالة التحرير كاملة ونقلوا البلاد من مرحلة الدمار التي خلفها الوجود الاستعماري الفرنسي البغيض إلى مرحلة البناء والتشييد، ولا تزال المهمة متواصلة في الوقوف في وجه من تستهويه مغامرة أو يركب موجة معاكسة تسمتد قوتها من الخارج في محاولة يائسة بالتأكيد لنسف ما تحقق بتضحيات جسام قدمتها أجيال عبر عقود متتالية.