بعد أكثر من خمسة عشر شهراً من النزوح في الخيام والملاجئ جنوب القطاع، بدأ الأمل في العودة إلى بيوتنا يتلاشى؛ إذ مرت أشهر من الانتظار وسط اتفاقات بين المقاومة والجيش الصهيوني سرعان ما كانت تنهار قبل أن تتحقق.
أخيراً، نجح أحد الاتفاقات ليعلن هدنة تشمل السماح بعودة النازحين إلى الشمال. وعلى الرغم من أن الاتفاق واجه عراقيل، فإنه مضى في النهاية، ليصبح يوم الاثنين موعداً للعودة. وكحال أغلب النازحين، قررت عائلتي العودة فور الإعلان، وبدأنا المسير قاطعين أكثر من عشرين كيلومتراً على الأقدام.
لم يكن الطريق سهلاً، فقد ترك جيش الاحتلال وراءه عراقيل كثيرة؛ كأسلاك شائكة، وحفر عميقة، وزجاج متناثر، وركام متكدس في منتصف الطريق، بالإضافة إلى الحجارة الكبيرة التي زادت من صعوبة السير.
وكان الزحام شديداً، والحشود ضخمة، وهو ما زاد من تعقيد المسير. وفي وسط هذا الازدحام، تفرقتُ عن عائلتي التي وصلت إلى المنزل بعد أربع ساعات من وصولي مع أخي كريم الذي كان متحمساً لرؤية أخينا رفعت الذي بقي في الشمال، وأصرّ على أن نسرع من دون استراحة خلال الطريق كما فعل كثيرون. وفقدنا التواصل مع عائلتنا بسبب ضعف الإرسال، وحلّ الليل علينا ونحن لا نزال في الطريق، لكن فرحة العودة أنستنا التعب والمخاطر.
وعند وصولنا، لم نعرف الشوارع التي ترعرعنا فيها، فكل شيء كان غريباً، وكل معلم مألوف كان قد اختفى. وبين الحين والآخر، كنا نسأل الناس عن الطريق، لكنهم كحالنا كانوا تائهين، ويجيبون بإجابات متضاربة، فلم يعرف منهم أحد الشوارع من بعضها بعد أن مُحيت ملامحها، وكانوا متفقين على شيء واحد؛ وهو الاستمرار في المشي عبر شارع الرشيد حتى الوصول إلى الميناء، ثم يتفرق كلٌّ إلى وجهته.
عندما وصلنا إلى مستشفى الشفاء، لم نعرفه للوهلة الأولى؛ فالمبنى كان محطماً ومحترقاً، حتى بدا وكأنه ليس المكان نفسه الذي اعتدناه، وعرفناه فقط من بقايا اسم “مبنى الجراحات التخصصي”، إذ بقي جزء من الكتابة ظاهراً، فوقفنا أمامه حائرين، فبيتنا ليس ببعيد، لكنه بدا كما لو أنه في مدينة أُخرى وسط الدمار والظلام.
مبنى الجراحات التخصصي- مستشفى الشفاء
لم نعرف أي طريق نسلك، حتى مرّ بنا رجلان من الذين صمدوا في الشمال، فسألهما كريم عن منزلنا، معرّفاً بنفسه، فاختلفا؛ أحدهما أشار إلى الشارع الذي وقفنا عنده، والآخر أشار إلى شارع مختلف، فقررنا أن نسلك الطريق الأقرب، وما إن دخلناه حتى أخذ كريم ينادي بصوت عالٍ: “إحنا إجينا!”، فجاءه صوت مألوف من وسط العتمة: “مين كريم؟!” كان صوت أخي رفعت.
لم يكن رفعت بعيداً عنا، لكن العتمة جعلتنا بالكاد نراه، فاقتربنا منه واحتضن كريم بشدة، وكأنه لم يصدق أننا عدنا فعلاً، وبدأ شباب الحارة الذين بقوا أحياء في الترحيب بنا بحرارة، والتفّوا حول كريم، وعانقوه واحداً تلو الآخر، وأخذ كل منهم يساعدنا في حمل أمتعتنا القليلة.
في هذه الحارة، لم يكن هناك غرباء، فالعائلات القليلة التي بقيت كانت كتلة واحدة، متكاتفين وكأنهم عائلة واحدة، يتشاركون الطعام والماء، ويتقاسمون حتى ما تبقّى من الأغطية. وكان اسم رفعت حاضراً بقوة في أحاديث السكان؛ فالجميع يتحدث عن جهوده خلال الفترة الماضية.
وفي الأيام التي لم يكن هناك فيها إسعاف ولا مساعدة، كان يرفع الركام من الطرقات ليتيح للعائدين ممراً أوسع، ويحاول إنقاذ الجرحى بيديه وسط القصف العشوائي، كما ساعد في إزالة الركام الذي أغلق البيوت، وانتشل بقدر استطاعته جثامين الشهداء التي بقيت تحت الأنقاض، ودفنهم بكرامة وسط الدمار. لم يكن بطلاً في قصة تُروى، إنما كان رجلاً يعيش وسط المأساة ويحاول أن يجعلها أقل وحشية.
حارتنا قبل الحرب
وكنّا من العائلات الأكثر حظاً، إذ إن بيتنا لم يسلم من الدمار؛ فنصفه محروق، والنصف الآخر مهدّم، لكن أساساته لا تزال قائمة. وكان رفعت قد سبقنا في جعل البيت أقل وحشة، إذ وفّر لنا مياه الشرب، والطاقة الشمسية التي تمنحنا القليل من الكهرباء، وفرشاً نظيفة ننام عليها، وكأنه كان يهيئ المكان لاستقبالنا.
عندما دخلتُ البيت، كانت زوجة أخي تحمل رضيعتها الصغيرة بين ذراعيها، تلك الطفلة التي ولدت وسط الدمار وجعلتني عمة للمرة الأولى. لم يكن لدينا وقت للحديث كثيراً، فالتعب كان قد بلغ منا أقصاه، وبعد أربع ساعات من وصولنا، وصل باقي أفراد العائلة، وكان أول ما بحثنا عنه هو الراحة والنوم.
في الصباح، أصبحنا نرى بوضوح حجم الدمار الذي لحق بحارتنا. فأين ضجيجها وأصوات الحياة التي كنا نسمعها يومياً؟ فقد كان شارعنا من أكثر الأماكن حيوية نظراً إلى قربه من مستشفى الشفاء. ولم أتصور أبداً أننا سنعيش وسط هذا الخراب، حيث الجثث المنتشرة في كل مكان.
تساءلت في نفسي: “أين ضجيج عائلة أبو ناجي وأطفالهم الذين كانوا يملأون المكان بالضحك؟ أين أصوات عائلة أبو عمارة التي قضت في مطعمهم الشهير ‘إيطاليانو‘ بعد قصْف بيتهم بعدها بأيام؟ كيف اختفت عائلات الجايح، وعليان، وعناية، وحسونة، وقنيطة، وآل شيخة، وأبو القمصان، والأنشاصي، وغيرهم من العائلات التي اعتدنا رؤيتها؟” لم أعد أرى أي بيت من تلك البيوت التي ألفتها في الحارة.
مر أكثر من عشرين يوماً على عودتنا إلى البيت، لكنني لم أجرؤ على الخروج منه بسبب مشاهد الدمار التي تُدمع العين. ولم تكن العودة مجرد طريق سلكناه، بل أيضاً شهادة على أننا ما زلنا هنا، على الرغم من كل شيء. حتى وإن تبدلت الملامح وضاعت الشوارع، فإن خطانا تعرف الطريق، لأن هذه الأرض تعرفنا وستظل تعرفنا.